مذبحة سربرنيتسا.. ذكريات مؤلمة وعالقة بعد 28 عاما
سربرنيتسا، هل تذكرون هذا الاسم؟ هي مدينة صغيرة شرقي البوسنة، وقد شهدت واحدة من أفظع المذابح البشرية عبر التاريخ، صُنفت أكبر مأساة إنسانية شهدتها أوربا بعد الحرب العالمية الثانية، راح ضحيتها أكثر من 8 آلاف مسلم بأيدي مليشيات صربية متطرفة كانت رافضة لاستقلال جمهورية البوسنة والهرسك مثل غيرها من مقاطعات الاتحاد اليوغسلافي المنحل، وقد وقعت تلك المذبحة في مثل هذا الشهر (الحادي عشر من يوليو/تموز عام 1995).
ما زلت أتذكر الكثير من المشاهد المأساوية التي نقلتها وسائل الإعلام قبل 28 عاما، وكأني لا أزال متكئا على أريكتي، تجحظ عيناي أمام شاشة التلفزيون لمتابعة المآسي الواردة من البوسنة والهرسك التي أدمت قلوبنا لما يزيد على ثلاث سنوات، وكانت أبشع مشاهدها تلك المذبحة (سربرنيتسا).
ما زلت أتذكر أسماء رغم صعوبتها، ورغم ثقوب الذاكرة، الرئيس الصربي سلوبودان ميلوسيفيتش، زعيم صرب البوسنة أثناء فترة الحرب رادوفان كاراديتش، قائد مذبحة سربرنيتسا راتكو ملاديتش، الذي دانته محكمة الجنايات الدولية، كما دانت قائديه رادوفان، وسلوبودان الذي كان قد فارق الحياة في محبسه قبل النطق بالحكم، كما لا أنسى الزعيم البوسني البطل على عزت بيغوفيتش الذي تمكن من إنقاذ شعبه من إبادة شاملة رغم ضعف موقفه العسكري، وعدم تلقيه دعما عسكريا خارجيا.
لجنة مناصرة البوسنة
كنت صحفيا شابا مهتما بمتابعة ذلك الحدث الأبرز عالميا في حينه، والكتابة عنه، والإسهام في جهود المناصرة المصرية لمسلمي البوسنة، أُسّست لجنة مناصرة البوسنة انطلاقا من نقابة المهندسين التي كان يسيطر عليها في ذلك الوقت غالبية من التيار الإسلامي، كان الدينامو المحرك لتلك اللجنة هو المهندس أبو العلا ماضي الأمين العام المساعد للنقابة، كنت عضوا بتلك اللجنة التي ضمت العديد من الشخصيات العامة والفنانين والإعلاميين، والتي أصدرت صحيفة باسمها ولخدمة غرضها، نشطت الجهود لجمع التبرعات، وإلى جانبها كانت لجنة الإغاثة بنقابة الأطباء، وكان يديرها في ذلك الوقت الدكتور أشرف عبد الغفار، لا أنسى تلك المؤتمرات الكبرى التي عُقدت في نقابات المهندسين والأطباء والمحامين وغيرها، لا أنسى أساور وسلاسل وأقراط الذهب التي جادت بها النساء المشاركات ناهيك عن التبرعات النقدية الكبيرة للرجال، التي أسهمت إلى حد كبير في إغاثة الشعب البوسني المحاصر.
كانت حملات المناصرة الشعبية في مصر وغيرها من الدول الإسلامية، لكنّ المواقف الرسمية الإسلامية كانت أضعف من أن تمنع تلك المذبحة التي أوقفها في النهاية حلف شمال الأطلسي (الناتو) بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، الذي فرض اتفاقية دايتون للسلام لإنهاء الحرب، ووضع خارطة طريق لإدارة البلاد حتى الآن.
لم تجرؤ دولة إسلامية على مجرد التلويح بتدخل عسكري لإنقاذ المسلمين الذين يتعرضون للمذابح على مرأى ومسمع الجميع، ما كان أحوجنا إلى أردوغان في تلك اللحظات البائسة ليسارع بإرسال جيشه لإنقاذ إخوته البوسنيين الذين يوصفون بالأتراك، كما فعل لاحقا في مواضع عدة، لقد تواطأت الكتيبة الهولندية المختصة بحماية سربرنيتسا بشكل علني فاضح مع العصابات الصربية لدخول المدينة واستباحتها، وحشد رجالها في مكان واحد لإطلاق الرصاص عليهم في مقتلة جماعية، وحتى الذين تمكنوا من الفرار عبر الغابات لاحقتهم العصابات الصربية من ناحية والألغام من ناحية أخرى.
موقف مع البابا شنودة
لا أنسى ذلك المشهد في المقر الرئيسي للكنيسة الأرثوذكسية المصرية في العباسية، في مؤتمر صحفي عقده البابا الراحل شنودة الثالث للتنديد بمجزرة سربرنيتسا بعد أسابيع من وقوعها، لم أقتنع كثيرا بتبريراته أو اعتذاره، واجهته مباشرة أمام الصحفيين بأنه تأخر كثيرا في إعلان موقفه، وأنه كان قادرا بصفته رئيسا للكنيسة الأرثوذكسية المصرية على وقف تلك المذبحة لو تدخّل مبكرا، حيث يدين الصرب بالمذهب الأرثوذكسي أيضا، وكان من المحتمل أن يستجيبوا لتدخله، حاول الرجل التخفيف من حرارة النقاش، مؤكدا رفضه لتلك المذبحة، وخرجت بقناعتي نفسها.
عندما تحركت للخروج من الكاتدرائية، وقبيل بابها الخارجي، استقبلني شخص عرّفني بنفسه أنه المقدَّم “فلان” مسؤول النشاط المسيحي في أمن الدولة، وأنه انتظر خروجي ليحيّيني على موقفي في المؤتمر الصحفي، مؤكدا أن هذا الموقف يعبّر عن غالبية المصريين، وبدا الأمر وكأن الضابط يريد أن يقول إن السلطة الرسمية عاجزة عن فعل شيء، وأنها أيضا كانت تنتظر تحركا كنسيا سريعا يرفع عنها الحرج، ومن يدري؟ فربما كانت السلطة هي من أشارت على البابا بعقد المؤتمر الصحفي في ذلك الوقت (منتصف التسعينيات)!!
دور خبيث للكتيبة الهولندية
كانت سربرنيتسا إحدى مناطق التركز الإسلامي في البوسنة، وكانت مستهدَفة بقوة من العصابات الصربية المقاتلة، التي تمكنت من دخول شرقي البوسنة لمنع استقلال الدولة الجديدة بعد استفتاء شعبي، كما حدث في مقاطعات أخرى كانت تُشكل الاتحاد اليوغسلافي (كان يتشكل من 7 مقاطعات هي: كرواتيا- صربيا- البوسنة والهرسك- سلوفينيا- الجبل الأسود- مقدونيا- كوسوفو)، وكانت سلوفينيا أولى المنسحبات من ذلك الاتحاد تلتها كرواتيا ومقدونيا، بينما عدَّت صربيا نفسها الوريث الشرعي للاتحاد، وساندت المجموعة الصربية الصغيرة داخل البوسنة والهرسك على التمرد على نتيجة الاستفتاء بالاستقلال.
كانت الأمم المتحدة قد أعلنت سربرنيتسا منطقة أمنة في إبريل/نيسان 1993، وأوكلت حمايتها للكتيبة الهولندية ضمن قوات حفظ السلام الدولية، وفرضت على المقاتلين المسلمين فيها نزع سلاحهم وتسليمه. وفي مارس/آذار 1995، تعرضت المدينة للحصار والتجويع بهدف الضغط على مقاتليها الأشداء للاستسلام والخروج من المدينة، لكنهم رفضوا فحدثت المذبحة تحت بصر القوة الهولندية الحامية بل برعايتها، إذ ساعدت العصابات الصربية في تنفيذ المذبحة.
رغم مضي 28 عاما على المذبحة فإنها لا تزال حاضرة بتفاصيلها في الذاكرة البوسنية، كما لا تزال حاضرة في ذاكرة من عاصرها في عموم العالم الإسلامي، وقد كانت وما زالت شاهدة على تخاذل الحكام المسلمين الذين لا تشغلهم تلك المذابح قدْر ما يشغلهم البقاء في الحكم ولو بتنفيذ مذابح مشابهة. وللتاريخ أيضا، فإن من تدخّل أخيرا لإنهاء الحرب وتلك المذبحة كان هو الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون، بعد أن عجزت -أو بالأحرى تواطأت- أوربا مع القتلة، وحتى لو كان كلينتون قد فعل ذلك لحسابات خاصة به أو بدولته إلا أنه يبقى عملا نبيلا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق