استبداد على الفاضي
في الزمن الماضي، كانت الأحزاب الحاكمة في النظم الاستبدادية تبني استبدادَها على قاعدة أنها في حالة دفاع عن الوطن ضد عدوّ خطير، محتلّ للأرض أو يهدّد باحتلالها. وبالتالي، على الشعوب أن تقبل بالتخلّي عن كثير من حرّياتها ثمنًا للحفاظ على حرية الوطن.
تحت هذه المظلة، كانت النخبة الاستبدادية الحاكمة تتغوّل على حقوق المواطن بحجّة حماية تراب الوطن، فتمارس فسادًا متعدّد الرؤوس، وتتحوّل إلى طبقةٍ إقطاعيةٍ تسوس مجموعة من الرعايا، أو العبيد الذين ينبغي أن يرضوا بالفتات الذي يُبقيهم على قيد الحياة، من دون تفكير في أشياء مثل الحريات السياسية والاقتصادية والديمقراطية، التي تتحوّل بدورها، في لحظةٍ ما، إلى واحد من الأخطار المهدّدة لأمن البلاد، مثلها مثل أيّ عدو يتربّص بها.
كانت النهايات دائماً كارثية مع الأنظمة التي حكمت بالاستبداد المطلق، الذي هو الأب الطبيعي للفساد والانهيار الاقتصادي، على الرغم من أنّ كثيرًا من هذه النظم كانت بالفعل صادقة في موقفها من الأعداء الخارجيين.
في اللحظة الراهنة، ينفرد حزب السلطة الفلسطينية بزعامة محمود عبّاس بأنه الحزب الحاكم الأكثر استبدادًا في تاريخ الاستبداد العربي الحديث، إذ يمارس إقصاءً وتخوينًا لكلّ الفئات السياسية الأخرى، ويتّهمها بالتآمر على الوطن، الذي لم يزل تحت الاحتلال، غير أنّ حزب عبّاس يقدم نموذجًا فريدًا من الاستبداد الحاكم، يجعلها استبدادًا تافهًا ورخيصًا، وفارغًا من أيّ قضيةٍ وطنيةٍ حقيقيةٍ يمكن أن يتّخذها مرتكزًا لتغوّله على الثروة والثورة معًا، بما يجعله، في النهاية، مثالًا لما يمكن تسميته "الاستبداد على الفاضي"، بالنظر إلى أنّ هذا الحزب موجود في السلطة ومحميٌّ حماية كاملة من العدو الوحيد للوطن، وهو الاحتلال الصهيوني.
الحاصل في الأراضي الفلسطينية الآن أنّ سلطة الحزب "الحاكم بأمر العدو" تتوّسّع في أعمال البطش والاعتقال والتنكيل بمن يقاومون الاحتلال ويعارضون رهن السلطة نفسها لهذا الاحتلال، واتخاذها مواقف تجعل هذا العدو يحرص على استمرار هذه السلطة في الحكم بالحرص نفسه على امتلاك الأسلحة الفتّاكة التي يستخدمها في إبادة الشعب الفلسطيني، الذي يخرج الآن في تظاهرات ضد السلطة التي تحتفظ بمئات المقاومين والمعتقلين السياسيين في سجونها، حيث تقول مؤسّسة "محامون من أجل العدالة" أنّ هناك أكثر من 300 معتقل سياسي في سجون السلطة الفلسطينية منذ بداية العام الحالي فقط.
الخطاب الصادر عن بارونات السلطة، التي يفترض أنها تقود شعبًا ووطناً يسعيان إلى التحرّر من الاحتلال، لا يختلف عن خطاب أيّ حزبٍ حاكمٍ في أنظمة دكتاتورية فاسدة، وهو خطابٌ سفيهٌ يصل إلى الطعن في مبدأ المقاومة ذاته، ولا يبتعد كثيرًا عن خطاب الدوائر الصهيونية الذي يرى لفظ المقاومة مرادفًا للإرهاب.
كان الاجتياح الإسرائيلي مخيم جنين قبل أيام اختبارًا مفصليًا للسلطة الفلسطينية وجدارتها بالانتساب إلى مشروع تحرّر وطني، وقد رسبت فيه بامتياز، ومن ثمّ اندفعت الجماهير تنتفض ضدها في وقتٍ كان على السلطة أن تتحالف مع شعبها في انتفاضة ضد الاحتلال.
حزب سلطة يتغذّى على حليب التنسيق الأمني مع العدو، ويثق في قدرته على البقاء مستندًا إلى أنّ هذا الاحتلال يريده ويدعمه ويحميه، ولا يمكن أن يتركه للسقوط، كيف يمكن أن ينظر قادته في عيون الشعب الفلسطيني، وهم يتكلّمون باسم المقاومة وينتحلون صفتها، ثم يتّهمون المقاومين الحقيقيين الذين عرفهم الشعب وصدّقهم وعرفوه بأنهم يخدمون مصالح الاحتلال؟
بل كيف يمكن أن يرفع أحدٌ منهم عينه في مواجهة بطل من أبطال كتائب شهداء الأقصى، التي ولدت من رحم "فتح" قبل أن تفسد وتتحوّل إلى حزبٍ فاسد، وهم يعلنون براءتهم من أعمال البطش والقمع والملاحقة التي تشنها السلطة ضد المقاومين؟
ليس الأمر مقتصرًا على نظام محمود عبّاس فقط، بل تجده في غيره من النظم المرتبطة بعلاقاتٍ سرّية وعلنية مع العدو الوحيد والاستراتيجي لشعوبها، إذ كما يبدو، ثمّة علاقة طردية بين الإفراط في التطبيع والإفراط في ممارسة الاستبداد والفساد الاقتصادي. وكم قلت مبكرًا نحن بصدد نوعيةٍ جديدةٍ من الديكتاتوريات العربية، يمكنك أن تطلق عليها الجيل الثالث من الطغيان الصغير، الذي يتناقض تمامًا مع أسلافه من قبائل الاستبداد، إذ يتغذّى الجيل الجديد بالرضاعة من ضروع المشروع الصهيوني، ويغيظ أقرانه ويتيه عليهم بأنه الأكثر قربًا من الصهيوني، والأشدّ دأبًا ومثابرةً على انتزاع عبارات الثناء والتشجيع منه، والأحرص على أداء التمارين اليومية ليكون أكثر لياقة من غيره على خدمته ... ثمّ بعد ذلك كله يتهم كلّ من يقاومون العدو بالخيانة والعمالة والتربّح من المقاومة.
هذا نمط من الاستبداد الوقح.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق