الجاسوسة: من الأرشيف السرّي ليوميات الذكاء الاصطناعي
أينما ذهبتُ تتبعني تلك الشجرة لتتجسّس عليّ، تستعمل أوراقها وبتلاتها لتحلّل المعلومات، وإلّا فلماذا تتحرّك تلك الأوراق، يميناً ويساراً، ولأبسط نسمة، إن لم تكن لواقط حسّاسة ورادارات تُوشوش لبعضها بالمعلومات؟ ولماذا تتبعني الشجرة أينما ذهبتُ، إن لم تكن جاسوسة، محترفة، متخفية، في هيئة شجرة جامدة، مثل نبتة في أصيص داخل البيت، أو شجيرة برقوق، أو تين بريئة في الحديقة عند المدخل؟
في الغابة تتركُ الشجرةَ خلفك، تجدها أمامك، تلتفت، يميناً أو يساراً، تجدها أينما التفتّ! لكن في حقيقة الأمر، لا توجد في الغابة أشجار كثيرة، بل شجرة واحدة تتكرّر إلى ما لا نهاية، وفق طابعة عملاقة مبرمجة أوتوماتيكياً، تنتقل بسرعة الضوء من مكان إلى مكان، حتى تبدو لك عمداً ثابتة هنا وهناك، وهنالك، وعلى مدّ البصر، أينما وليت وجهك: في الماضي الضبابيّ البعيد الذي تركتَه خلفك، في الحاضر الذي تقف على ترابه المليء بالمجسّات، وعلى امتداد غيوم المستقبل التي لها هيئة صحون لاقطة، تتموضع في اللحظة نفسها في كلّ الأمكنة، كالساحر الذي يظهر في مدن عديدة في الوقت نفسه، ويختفي، واضعاً على رأسه طاقية الإخفاء غير المرئية، ليبدو غير مرئيّ، في بُعد آخر، وجيل آخر من أجيال شاشات "التاكتيل".
في الغابة أين ستستطيع الهرب من الشجرة؟ إنها تتوزع كجنود بلباسهم الأخضر الشجريّ المموّه بالأغصان، لتحاصرك وتقف حولك في دائرة كابوسية، قبالتك، فوقك، تحتك، على يمينك، وراءك، على يسارك، وكلما تقدّمتَ إلى الأمام تتقدّم معك تلك الدائرة، بحيث تظلّ أنت دائماً، المركز الواضح كلّ الوضوح، كهدف مكشوف للقصف من كلّ نقطة من نقاط الْقُطْر، عالقاً داخلها إلى الأبد. تركض فتركض معك، تقف فتقف هي كذلك، تسرع فتسرع، تتباطأ فتتباطأ هي أيضاً، كي تبدو لك دائماً، جامدة وساهية وغير مبالية بتفاصيل حياتك التافهة.
الناس يثقون في الشجرة ثقة عمياء، فيضطجعون تحت ظلالها، أو فوقها عراة، لتسجّل أحلامهم، حين يتحركون في النوم
لكنها ليست أشجاراً كثيرة، كما تبدو لك لتخدعك، بل شجرة واحدة خارقة للطبيعة ولقوانين الفيزياء وللحسابات الرياضية الدقيقة كالشيطان، وليست جامدة، بل سريعة الحركة كسرعة مروحة تدور إلى حدّ أنّ أجنحة تلك المروحة تختفي بالكامل كي تبدو المروحة من دون أجنحة، وأكثر من ذلك لتبدو متوقفة عن الدوران بأجنحة جامدة. كما أنّ حركة الشجرة، وهي تنتقل بسرعة خارقة من مكان إلى مكان، ومن زمان إلى زمان، داخل عالم كامل من السيليكون، لا يمكن أبداً أن تُرى للعيان.
والشجرة ليست ساهية كما تبدو للساهي، بل يقظة إلى حدّ أنها لا تتعب كباقي المخلوقات من اليقظة، فلا تنام مضطجعة، بل واقفة، وهي مستيقظة، حذرة كجندي الحراسة، وبشكل لا يمكن تصوّره أو وصفه بالوصف، وهذه هي صفات الجواسيس المدرّبين على التجسّس في كواكب أخرى، متطوّرة، تحكمها كائنات فضائية، تكنولوجية، مُشعّة شديدة التعقيد، رؤوسها ليست من لحم ودم وعظم، بل من زجاج وبلاستيك وسيراميك وألمنيوم وترونزستورات وأرقام، بحيث يستحيل كشفها، وكشف تجسّسها على كوكب بدائي ككوكب الأرض.
أنت تَحْذَرُ من الناس، تنتظر أن يتجسّسوا عليك بآذانهم الحلزونية المضحكة أو بكاميراتهم المكشوفة، لكن الناس لن يصلحوا أبداً جواسيسَ حقيقيين، إنهم مجرّد رهائن في يد الأشجار، تفعل بهم ما تشاء، وما تريد، تدخل في أمعائهم عبر عيون ثمارها، لتتجسّس عليهم من الداخل، يضعون مؤخراتهم فوق كراسيها وعروشها لتتنصّت عليها. تقف في أبوابهم، ونوافذهم، ومستودعاتهم، وجواريرهم السرّيّة، وداخل صناديق مستنداتهم الخطيرة ومجوهراتهم وأموالهم لتعُدّها.
تصعد سحائب الدخان بكلّ أسرارهم إلى الكائنات الفضائية الذكية، التي باتت تتحكم منذ سنوات طويلة، عن بُعد، في كلّ شيء هنا
أينما ذهبت ستجد مكروفوناً متخفياً في هيئة قطعة فلين عائمة، أو خشبٍ صغيرة أو كبيرة، داخل البيوت وخارجها، وفوق المياه، تمتصّ الأصوات، والألوان، والروائح، والوشايات، والوشوشات وتخزّنها إلى الساعة الصفر.
الناس يثقون بالشجرة ثقة عمياء، فيضطجعون تحت ظلالها، أو فوقها عراة، لتسجّل أحلامهم، حين يتحركون في النوم، فتَسْمَعُ صوت السرير، لكن لا أحد يستطيع أن يفهم لغة السرير المشفّرة تلك، أو لغة صرير باب، أو اصطفاق نافذة في الريح، أو تأوّه صندوق عتيق يُغلق.
الناس يظنون أنفسهم في مأمن من تلك الشجرة، يتسلقونها، يأكلون ثمارها، يحطبونها، يصنعون منها كلّ أثاثهم، ومراكبهم، وسقوف بيوتهم، وطاولات اجتماعاتهم السرّيّة الطويلة، وعروشهم، ومهاد أطفالهم، ونعوش آبائهم.. وحين يبقون وحيدين يسجلون مذكراتهم وعواطفهم ونياتهم واعترافاتهم فوق أوراقها.
هؤلاء الناس، الذين كنت تعتقد يوماً بالخطأ، أنهم أذكياء، يجلسون بغباء حول موقد في ليلة شتائية، يقذفون الخشب في النار باستهتار، وهم يتسامرون دون حذر، مقهقهين قهقهاتهم السخيفة، مستسلمين للذّة طُعم الدفء في صنارة البرد. بينما عبر ماسورة المدخنة الموجهة إلى الفضاء كصاروخ تجسّس يوشك على الإقلاع، وعبر مداخن المصانع، والمدن، والثكنات المحصّنة، والقصور المصفحة، وعبر حرائق الغابات، وحرائق السفن، وحرائق خرائب الحروب، وحرائق العالم الكثيفة، تصعد سحائب الدخان بكلّ أسرارهم إلى الكائنات الفضائية الذكية، التي باتت تتحكم منذ سنوات طويلة، من بُعد، في كلّ شيء هنا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق