مؤسس “تكوين”.. أنموذج للتهافتد. عطية عدلانمدير مركز (محكمات) للبحوث والدراسات – اسطنبول- أستاذ الفقه الإسلامي
لا يصح التهوين من شأنه ولا التهويل في أمره، ذلك الكيان الزنيم “تكوين” لنّ يضرّ الحقّ شيئًا؛ فالإسلام عزيز بذاته قويّ بطبعه، حقائقه وأحكامه راسية كالجبال، ومع ذلك فإنّ خطر المرجفين يستدعي يقظة المؤمنين؛ وقد كان القرآن ينزل بالردّ على شبهات المبطلين، وبينت سورة الفرقان أنّ ذلك أحد أسباب نزوله مُنَجَّمًا لا جملةً واحدة: {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَاّ جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا}؛ فَوَجَبَ التصدي بما يكفي لردّ الشبهة في جوف من أطلقها، وإنْ كان التأنّي وعدم الانجرار وراء هؤلاء في كل فجّ يسلكونه هو سبيل الراسخين، الذين لا يستخفُّهم كلّ ناعق ينعق عليهم ليشغلهم بالسفاسف، ويلهيهم بالصخب الفارغ: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ}.
لا تتصعلك عند تخوم العظمة
عَبَثًا -وفي سياقٍ مِلْؤُه الصفاقة والحماقة- حاول إبراهيم عيسى التشكيك في ثبوت السيرة النبوية؛ ليطيح في غفلة من التاريخ والمؤرخين بأصل محكم من أصول الدين، مُدّعيًا عدم ثبوت سيرة ابن هشام وابن إسحاق، وعلى الرغم من وجود النُّسخ الأصلية لهذين الكتابين بكثرة بالغة؛ فإنّ حقيقة ثبوت السيرة النبوية لا يضرها أن يكون ابنُ إسحاق وابنُ هشام وأمثالُهما لم تَلِدْهم أمهاتُهم ولم تجر أقلام القدر بخلقهم؛ لأنّ السيرةَ سنةٌ عمليةٌ منقولة بأسانيدها المتصلة المحكمة في كتب الحديث وعلى رأسها البخاريّ ومسلم، ولأنّ الهيكل العام لأحداث السيرة منقولٌ بالتواتر القطعيّ جيلًا عن جيل.
ثم إنّ أصولَ السيرة ومَفاصِلَها الرئيسية مستقرة في كتاب الله استقرار الجبال، إلى حدّ أنّك لو تصفحت سُوَر الأنفال وآل عمران والأحزاب والفتح والتوبة، وكنت ذا عقل؛ لم تَحْتَجْ إلا إلى بعض الروابط البسيطة لكيّ ترسم صورة متسقة للهيكل العام للسيرة في العهد المدنيّ؛ ولو قمت باستقراء السور المكية لخرجت أيضًا بخريطة عامة وخطوط كلية تسهل عليك تسكين التفاصيل.
لا تباشر الطعن بأعواد من حطب
لم يكن المؤسّسُ الأول لمركز “تكوين” إبراهيم عيسى أَوَّلَ من تناول التاريخ الإسلاميّ بالطعن؛ فلم يزل المغرضون يتربصون به وينفذون من ثغراته محاولين تفجيره من داخله؛ لتتحول أنظار الجيل من التعلق بالنموذج الإسلاميّ إلى اللهث وراء النموذج الغربيّ، فهل كان التاريخ الإسلاميّ بهذا السوء الذي يصورونه؟ وهل النموذج الحضاريّ المعاصر هو البديل حقًّا؟ فأمّا إبراهيم عيسى فقد أسهب وأسرف في كيل التهم للتاريخ الإسلاميّ، ولسنا ندعي العصمة لتاريخنا؛ لأنّه لم يكن بالفعل معصومًا، ولقد وقع فيه من الأحداث بعد عهد الراشدين ما يندى له الجبين، لذلك لا يكون التناول له بالدراسة النقدية ظلمًا ولا عدوانًا، إلا أنّ تاريخ الأمة الإسلامية ليس محصورًا في تاريخ الأسر الحاكمة، فتسليط الضوء على سطر أسود في صفحة بيضاء ظلم وعدوان، ولا سيما إذا رافقه تسليط الضوء على سطر أبيض في صفحة التاريخ الغربيّ السوداء المظلمة؛ ذلك هو الخبث وتلك هي الدناءة.
إنّ تاريخ أمتنا بالقياس إلى التاريخ المعاصر قمة سامقة، وهذا ما يسطره المنصفون من الغرب، وخذ مثلا لذلك: عندما قال ستيفن بنكر إنّ تاريخ العصر الوسيط كله بما فيه الإسلامي اتسم بالوحشية، وبالتضحية بالبشر لإرضاء الخرافة، وبالفتح العسكري والقتل الجماعي لحيازة العقار، جاءه الردّ من ديفيد بيرلنسكي على هذا النحو: “هذا بالأحرى تقويم أدق للقرن العشرين ومطلع القرن الحادي والعشرين؛ ينبغي على أيّ شخص مقتنع بأنّ تاريخنا لوحة سعيدة على نحو مدهش أن يبذل جهدًا لإدراك حجم الشقاء البشريّ الذي توحي به هذه الإحصائيات: الحرب العالمية الأولى 15 مليونا، الحرب الأهلية الروسية 9 ملايين، الاتحاد السوفيتي نظام ستالين 20 مليونا، الحرب العالمية الثانية 55 مليونا، نظام ماوتسي تونغ 40 مليونا، الصين الحقبة القومية 3 ملايين، الحرب الكورية 2.8 مليون، كوريا الشمالية 2 مليون، حرب الهند الصينية 3.5 ملايين، الاستنتاج الوحيد الذي يمكن أن يظفر به المرء هو أنه لا يمكن في العادة العثور على هذا الغباء الفاحش في الطبيعة”.
لا يعرف أقدار الرجال إلا الرجال
ومن غريب ما أثاره أنّه يستنكر أن يُقتل الخليفة عمر في محرابه وهو الذي قال فيه القائل: عَدَلْتَ فأمنت فنمت يا عمر، ويَعُدّ ذلك تناقضًا في التاريخ الإسلاميّ، ودليلًا على عدم استقرار دولة الخلافة الراشدة، وليت شعري كيف فهم المسألة على هذا النحو المقلوب؟! وكيف نظر إلى الموقف وهو واقف على رأسه؟! وبغض النظر عن المقولة في ذاتها فإنّ عدل عمر مما تحدثت به الركبان، ومما لا يرتاب فيه إنس ولا جان، واستشهاده في محراب رسول الله على يد مجوسيّ أعطاه الأمان من قبل لا علاقة له بالاستقرار أو عدمه ولا برشد الخلافة أو عدمه، بل ربما دلّ على تمكن العدل والحرية بصورة جعلت الخلفاء الراشدين الذين قتلوا لا يبالغون في الاحتياطات الأمنية لأنفسهم مثلما يفعل الملوك والرؤساء، وبصورة أساء استخدامها الثوار الموتورون الذين خرجوا على أمير المؤمنين عثمان وأقاموا له محكمة على أمور ربما لو فعلها أحد ملوك هذه الأيام لَعَدَّهُ الناس من أولياء الله الصالحين.
لا يتنكر للمفاخر إلا الأصاغر
أمّا هجوم إبراهيم عيسى على السنّة فذلك نطح عبثيٌّ للصخرة الشماء، أما آن لهؤلاء الطاعنين أن يفتخروا بالسنة وعلومها بدلًا من طعنهم فيها؟ فإنّ علوم الحديث -والله- لفخر العلوم الإنسانية، ولو أنّ أمّة من الأمم أوتيت السند لاعتبرته مفخرة الدهر، فكيف بأمّة أوتيت مع السند علومًا لنقد هذا السند وفحصه وتمحيصه ونقد رجاله وحلقاته وعلله الخفية؟! إنّ الحديث الضعيف عندنا ليعلو على نصوص عدّها أهلها كلمة الله وهي عارية تمامًا عن الإسناد، بل إنّ الجهالة المرعبة أحاطت بكاتبيها ونشأتهم، وكما قال هوفمان: فإنّ هذه الكتب المقدسة لا تقارن بشيء في الإسلام إلا بالأحاديث المشكوك في صحتها، وقد عدّ مايكل هارت درجة الموثوقية التي يتمتع بها تراث الإسلام، من أسباب اختياره محمدًا -صلى الله عليه وسلم- أولَ الخالدين المئة؛ فهلّا انزوى هؤلاء في جحورهم!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق