الخديعة
باحث في التاريخ والحضارة الإسلامية
في حرب غزة هذه اكتشفنا أن الرصاص والقذائف أكثر بكثير من الكلمات والمعاني.
فقد أنفقنا سائر ما يمكن أن يقال في الشهور الأولى حتى لم نعد نجد ما نقول، وصار الكلام مكرورا، وربما بات مملولا!
وأمست هذه الحرب دليلا على أن نكبة الأمة ليست في الجهل أو الكسل قدر ما هي في العجز والضعف.. فما يكاد يكون فيها بيتٌ إلا ويريد بعض أهله أن ينبعثوا لعون إخوانهم في غزة بالنفس وبالمال وبما استطاعوا من القدرات!
ومن نظر الآن في حالة الأمة رآها كالسجين الأسير، ضعيفٌ لا ينفعه وعيه، وعاجز لا تنهض به قوته ولا تسعفه قدرته.. فليس بقاؤه في سجنه دليلا على قلة ذكائه بل على قلة حيلته!
ومع ذلك، يجب أن نتذكر جيدا أن هذا العجز الذي نحن فيه الآن، هو ثمرة عفنة ومُرَّة ومُنْتِنةٌ لجهل وغفلة وسذاجة فيما سبق!.. وبقدر ما نفيق الآن ونتحرر، نستطيع أن نغير حالنا في قادم الأيام.
وإذا حاولنا تبسيط التاريخ، فيمكن أن نقول إن حال أمتنا كمَثَل عصابة ساقت جمهرة من الناس إلى السجن، مزجت في ذلك بين الرغبة والرهبة، بين المكر والحيلة والتدبير وبين الغدر والقسوة والقتل.
لكنها كانت في أول أمرها ذات حيلة وكيد ومكر أكثر مما كانت ذات قوة وشوكة وسيف، فما كان لها أن تغلب قوما أكثر منها بمجرد القوة.
ثم ما كانت القوة محض قوتها وحدها، بل إنما ساندتها وساعدتها قوة المحتل الأجنبي.
ولكن الأزمة الخطيرة لم تكن في مجرد القوة، بل في المكر والحيلة والخديعة، فهذه الجمهرة حين كانت تساق إلى السجن، قيل لهم: إنه القلعة المنيعة، إنه الحصن الآمن، إنه الوطن، إنها الدولة!!.. إنه التحرر والاستقلال!!
فلما دخل الناس، ورأوا الزنازين، قيل لهم: هذا هو النظام، هذا هو العمران الحديث، هذه تدابير أمنية لحماية الناس وأعراضهم وأموالهم ممن يريد بهم شرا.. كل ما ها هنا لمصلحتكم وفي سبيلكم ومن أجلكم!!
كان يمكن لكثير من المنخدعين أن يستفيقوا، وأن يستيقظوا، فقط لو أنهم لم يشربوا من سكرة الوطن والدولة والحاكم حتى الثمالة!
بل كان يمكن أن تظل الأمور متزنة ومقبولة طالما كان الناس شركاء في صنع النظام وإدارته، وكان لهم من القوة والقدرة على رقابة الحاكم ومحاسبته وعزله إذا لزم الأمر!
لقد كانت العصابة الحاكمة تسحب يوميا من قوة الناس وقدراتهم وحريتهم ما كان حريا أن يوقظ الغافل وينبه النائم.. لكن العمل التدريجي التخديري كان هو السم اللذيذ الذي يسري في أعضاء الجماهير تحت نغمات الأناشيد "الوطنية"!
ولقد كان يمكن تحسين الأحوال إذا هبَّ قومٌ صاروا يرون اختلال ميزان القوة بين الحاكم والمحكوم.. ولكن الذين آثروا منهج السلامة، وظنوا أن الأمور يمكن أن تحتمل، أو أنها لن تسوء إلى الحد الذي يستدعي التضحية بالسلامة، هؤلاء حين وقعوا في هذا الظن أرداهم.. فإذا الحاكم بعد أن سحب وشفط القوة وازداد تمكنا استطاع أن ينقلب انقلابا كاملا وشاملا دون أدنى قدرة على تعطيله أو تعويقه أو الاعتراض عليه!
وها نحن نرى ابن سلمان وابن زايد والسيسي كيف يكسرون كل ثوابت الدين وكل ثوابت الوطنية، بعد أن تمكنوا من الأمر.
لقد مرت علينا لحظات كثيرة كان يمكن فيها إيقاف قطار الاستبداد، ولكن الذين افتقدوا الجسارة وآثروا الأمن قبلوا ما سيق لهم من تطمينات ووعود، أو ما سيق لهم من إغراءات وأموال ومناصب.. فتمكن الطغيان!!
والآن يتكرر الموقف، لا في #الكويت وحدها، بل في كل منطقة تسمح وتتهاون في انفراد الحاكم بالقرار، وانفراده بالاستيلاء على الثروة، وانفراده بالتشريع والتنفيذ.. ما هي إلا قليل حتى يتمكن هذا الحاكم من الانقلاب على كل ما ظنَّ بعض الناس أن أحدا لن يجرؤ على المساس به.
وهذا هو ما يجعل أمتنا الآن حبيسة أسيرة لا تستطيع مدّ يدها إلى غزة ولو تحرقت وتقطعت وتمزقت من الغضب والحزن والحسرة!!.. فإن حول إسرائيل جدرانا حديدية من أنظمة عربية خائنة سافلة مجرمة!
فلولا أن تهاون الناس يوما ما، منخدعين أو متخادعين، غافلين أو متغافلين.. لولا ذلك ما وصلنا إلى هذه الحال!
وكل من يبني في شرعية هذه الأنظمة ولو بالكلمة، أو ينهى عن مقاومتها ولو بالإشارة، فهو شريك في مستقبل الظلم والدم والألم الذي ينبيه ويشيده.. وعند الله سيرى ما يضره لا ما يسره!!
ألا صدق البارودي لما قال:
إذا المرء لم يدفع يد الجور إن سطت .. عليه،فلا يأسف إذا ضاع مجده
ومن ذل خوف الموت كانت حياته .. أضرَّ عليه من حِمام يؤده
وأقتلُ داء رؤية العين ظالما .. يسيئ، ويُتلى في المحافل حمده
فإما حياة مثل ما تشتهي العلا .. وإما ردى يشفي من الداء وفدُه
ولعل هذا الحال هو بعض ما قصده رسولنا الأعظم -صلى الله عليه وسلم- لما قال: "لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يعمكم بعقاب من عنده، ثم تدعونه فلا يستجيب لكم"
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق