وفيهما عبرة لمن يعتبر
(لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ)
كانت تربطني علاقة بأستاذين كبيرين، كل منهما كان يرأس قسما علميا من أقسام الشريعة، وكلاهما كان مهتما بالدعوة وقضايا المسلمين العامة، وكان ذلك قبل أكثر من ربع قرن.
قصتي مع الأول تتلخص في:
أني كنت أعلنت يوما أني سألقي محاضرة عامة بعنوان (عقيدة الكليني في القرآن) فجاءني بكل تواضع -وهو أكبر من والدي- عليهما رحمة الله-ليقول لي: أحببت أن أعرف رأيك في (الإمام الكليني) أهو إمام في الفقه أم إمام في السنّة؟
فصعقت من سؤاله! وقلت له: إنه إمام في البدعة. فغضب غاية الغضب، وصار يحدثني عن ضرورة الانفتاح وعدم التعصب..الخ فقلت: يا شيخنا هل ستحضر؟ قال: بكل تأكيد نعم. قلت سأنتظر رأيكم بعد المحاضرة،
ثم كانت المحاضرة، وأحضرت معي نسخة من أصول الكافي وهو عند الرافضة كالبخاري عندنا، فصرت أقرأ فيه، وأنظر إلى شيخنا وهو يتمعّر وجهه، فلما انتهيت قام وقبّلني من رأسي رغما عني وقال: سامحني، ما كان يخطر في بالي أن مسلما يقول مثل هذا القول، واعذرني لأننا في بلادنا ليس عندنا هذه المصادر، وكل ما ندرسه عنهم إنما هي مسائل فرعية، وبقيت هذه الصورة حتى كبرنا فانشغلنا بأمور أخرى،
وبقي أستاذنا هذا إلى أن توفاه الله وهو يتواصل معي ويستشيرني خاصة في هذه المسائل، أما أنا فقد تعلمت منه الكثير، لكن هذا الموقف بحد ذاته هو درس كبير.
قصتي مع الثاني،
وأظنه كذلك أكبر من والدي، وكان يودّني كثيرا، ومرة طُرق باب بيتي، فتحت الباب وإذا به هو، -ولم يكن عندنا في ذلك الوقت الهواتف المحمولة- المهم؛ بعد أن جلس وتناول شيئا بسيطا من الضيافة، قال: دكتور محمد هنالك مؤتمر مهم جدا سيعقد خلال شهر وخطر في بالي أنكم أفضل من يستحق أن يدعى لمثل هذا المؤتمر، قلت: أستاذنا بلا شك أنا أعتز بشهادتكم هذه، لكن ما موضوع المؤتمر؟
قال: (الإمام الخميني مجددا)
كدت أضرب على رأسي، قلت: وهل قرأتم شيئا من كتب الخميني؟ قال: لا والله، لكن عموما نحن نعرف الخلافات (السنية الشيعية) وهي في الأغلب خلافات تاريخية ونحن لا نريد أن نتوقف عندها.
قمت سريعا وأحضرت من مكتبتي كتابين للخميني (الحكومة الإسلامية) و (كشف الأسرار)، قال: ما شاء الله تحتفظ بكتبه، قلت: طبعا، وإلا كيف أحكم عليه؟
صار يقرأ ويقرأ، خاصة الصفحات التي أشرت عليها.
قال: ما هذا؟ هذه ردة صريحة؟ فضحكت بخجل، قلت: شيخنا هو الخميني الآن مجدد أم مرتد؟.
والآن تحضروا للصدمة؛ هذا الأستاذ بشحمه ولحمه علمت بعد ذلك أنه قدم ورقته للمؤتمر كما هي عن (التجديد في فكر الإمام) وتناقلت الصحافة ذلك -وكأن شيئا لم يكن-.
غضبت غضبا شديدا ورحت أشكوه إلى شيخنا العالم العلامة الدكتور علي السالوس رحمه الله -وكان والله من الذين لا يخشون في الله لومة لائم-، وذكرت له تفاصيل ما دار في بيتنا معه، فضحك الشيخ وقال: ستتفاجأ أكثر، أنت تتكلم بالعلم والعقيدة والبرهان وهم يتكلمون بأمور (….) أستحيي والله أن أكتبها.
بعد سنوات وإذا بي أرى هذا الأستاذ بشحمه ولحمه أيضًا جالسا هناك مع الخامنئي في زيارة خاصة، وهو لا يزال يردد: أهمية نبذ الطائفية وضرورة تكاثف الجهود لمقاومة الأخطار المحدقة بالعالم الإسلامي…الخ
فأدركت أننا قد نتحاور (حوار الطرشان) نعم، لكن ليس لأن الأدلة غير كافية، بل لأن هناك أشياء أعمت الأعين وأصمت الآذان.
ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ومع كل هذا فإني لأرجو من ربي أن يهدي الله قلب هذا الرجل، لعله في ما بقي له من العمر أن يتذكر ويبرئ ذمته أمام الله فيعترف بخطئه أمام محبيه وتلامذته، ووالله إني لا أحب له إلا الخير.
صورتان من كلام الخميني
صورتان من محاضرتي الموثقة (عقيدة الكليني في القرآن) والتي نشرتها في رسالة صغيرة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق