نزهة إسرائيلية في رفحوائل قنديل
دقائق قبل الاجتياحِ الإسرائيلي لمدينة رفح، ورفع العلم الصهيوني على المعبر والاستعراض بالدباباتِ في محورِ فيلادلفيا الخاضع للسيادة المصرية، كانت الأفراح منصوبةً في كلِّ مكانٍ احتفالًا بصفقةٍ جديدة وافقت عليها حركة حماس.
كان الإلحاحُ على تصويرِ الأمر، وكأنّه انتصار دبلوماسي للوسطاء مبالغًا فيه، فيما كانت محاولةُ تصدير صورة أنّ الصهيوني ركع أمام المقاومة الفلسطينية باعثةً على الدهشة.
بافتراضِ صحّة (ودقة) نصِّ الورقة المسرّبة عن الاتفاق الذي تَوصّل إليه الضامنون الأربعة: أميركا ومصر وقطر والأمم المتحدة، فإنّ جوهر القصّة كلّها نزع ورقة الأسرى من يد المقاومة، إذ تنصّ الفقرة الأولى على أنّ "الاتفاق الإطاري يهدف إلى إطلاق سراح جميع المحتجزين الإسرائيليين الموجودين في قطاع غزّة من مدنيين وجنود، سواء أكانوا على قيد الحياة أم غير ذلك، ومن جميع الفترات والأزمنة، مقابل أعداد من الأسرى في السجون الإسرائيلية يتم الاتفاق عليها، والعودة إلى الهدوء المستدام، وبما يحقّق وقف إطلاق النار الدائم، وانسحاب القوات الإسرائيلية من قطاع غزّة، وإعادة الإعمار".
تبدو بقية نقاط الاتفاق الذي وافقت عليه قيادة "حماس" وكأنّها لهاث وركض خلف رئيسِ حكومة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، بما يجعله راضياً وقابلًا بالمعروض عليه، والذي اعتبر قبول "حماس" به تراجعاً في شروطها للموافقة على أيّ صفقة، وهو ما عبّرت عنه عبارة وردت في بيانِ مكتبِ "حماس"، تقول إنّ على الاحتلال أن يلتقط اللحظة، ويعلن موافقته على الاقتراح المُقدّم، فيما استقبلتْ أوساطٌ عدّة موافقة "حماس" بوصفها خطوةً مهمّة باغتت الاحتلال.
جاء الرد الصهيوني العملي سابقًا لردّها اللفظي بأكثر من 14 ساعة، إذ توغلت قوّات الاحتلال في عمقِ مدينةِ رفح، حتى رفعت أعلامها فوق معبرها، المصري الفلسطيني المشترك، كما عربدت آلياتها في منطقةِ محور فيلادلفيا، التي كان المسُّ بها يُصنّف انتهاكًا صريحاً للسيادة المصرية، وبصقًا على اتفاقية كامب ديفيد، ودهساً للاتفاقية المصرية الصهيونية الخاصة بهذه المنطقة والموقّعة في عام 2005. ثم جاءَ الردُّ منطوقاً على لسانِ بنيامين نتنياهو بعد الاجتياحِ، وتموضع القواتِ الغازية ونزوح أهالي رفح في اليوم التالي، معلناً رفضه صيغةِ الاتفاق بشكلٍ قاطعٍ، ومشدّدًا على البقاء في رفح.
نحن هنا بصددِ استهانةٍ صهيونية بتلك الوساطة العربية المقدّسة عند أصحابها، مبعثها حساب إسرائيلي دقيق لحجمِ (ومستوى) ردّات الفعل العربية على الإجراءات الصهيونية منذ ما قبل 7 أكتوبر، موقناً أنّ الأمر لن يتجاوز بيانَ إدانةٍ، حفظَ عباراته جيّدًا، وشبعَ سُخريةً واستهزاءً بها، وعرف أنّه باتَ مجرّد طقسٍ دبلوماسيٍ عربيٍ مكرّرٍ، لزوم استكمال المشهد دراميّاً، ولا يمكن في هذه النقطة تحديداً إغفال أنّ رئيس الأركان الإسرائيلي، هرتسي هاليفي، ومدير جهاز الأمن الداخلي (الشاباك) رونين بار، زارا مصر يوم 24 إبريل/ نيسان الماضي لمناقشةِ تفاصيل عسكرية محتملة في رفح جنوبيّ قطاع غزّة مع الجانب المصري. وبناءً عليه، عندما تذكر مصادر من القاهرة أمس أنّ اجتياح رفح جاء بعد إخطارِ الجانب المصري، وبتنسيقٍ أميركي كامل، فإنّنا نكون بصددِ الحقيقة عاريةً من دون أقنعةٍ أو رتوش زائفة، لتصبحَ رفح بحق الفاضحة لكلّ المواقف الحقيقية، كما سُجِّلت في هذا المكان قبل ستةِ أسابيع.
في تفصيلِ ما جرى تذكر المصادر التي تحدّثت لـ"العربي الجديد" أنّ الإدارة الأميركية منحت نتنياهو ضوءاً أخضر لعمليةٍ محدودةٍ في رفح قد تستغرق عدّة أيّام، لتحقيقِ صورةِ انتصارٍ يمكن أن يسوّقه لوزراء اليمين المتطرّف، والمعنى هنا أنّ كلَّ أطرافِ الصفقة المرفوضة، أطراف الوساطة وراعيها الأميركي، يكافئون نتنياهو ويمينه الصهيوني المتطرّف بنزهةٍ مجانيةٍ في رفح، يقتل فيها عشرات الفلسطينيين، ويُجبر عشرات الآلاف على النزوح، ويُحكم الحصار المفروض على قطاع غزّة كلّه بإغلاق كلّ المعابر تماماً، ويزرع سارية العلم الصهيوني في عينِ مصر، على أمل أن يتعطّف عليهم بقبول الصفقة.
ليس نتنياهو وحده الذي يسخر من نصِّ مسوّدةِ الصفقة، بل كلّ أركان حكمه من اليمين واليسار، بما تسقط معه مجدّداً الأوهام التي يروّجها المفاوضون العرب أنّ المشكلة هي شخص نتنياهو، وبإزاحته سيأتي الهدوء، وتُعزف موسيقى التطبيع الرومانسية، ومن ثمّ يصبح كلّ ما في جعبتهم هو التعلّق الساذج بتظاهرات مجموعات من الصهاينة ضدّ نتنياهو سبيلاً لدفعه إلى القبول بصفقة من الوسطاء.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق