العدوان على غزّة.. صمود بلا يأس وخذلان بلا حدود
فالح بن حسين الهاجري
شهور تسعة ويزيد على مأساة أهل غزّة، والعدوان الوحشي بحقهم، وكل يوم يبرهن هذا الشعب رغم حجم البطش والخسائر المادية والبشرية والخذلان العالمي له، بأنه شعب ذو إرادة حرة وتصميم ولا يوقفه يأس ولا مآسٍ، فالوضع الإنساني من سيئ إلى أسوأ في غزة، وقوات المحتلين تشدد الخناق عليه من كل حدب وصوب، من إغلاق المعابر الحدودية الداخلية والخارجية والبرية والبحرية إلى تقطيع مناطق القطاع إلى أحياء محاصرة؛ يعيش أهلها بظروف قاسية لا يقدر عليها أحد، وقصف ومجازر شبه يومية من منتصف شهر أكتوبر الماضي وحتى اليوم.
من اللحظات الأولى لبدء العدوان، أبدت قوات الاحتلال تحللا واضحا من كافة اِلتزاماتها القانونية بموجب القانون الدولي الإنساني، لاسيما اتفاقية جنيف الرابعة المتعلقة بحماية السكان المدنيين وقت الحرب، وقانون حقوق الإنسان، وهو العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، واتفاقية حقوق الطفل.
ففي حين لم تستثن تلك القوات من حصارها المشدد الأدوية، والمستلزمات الطبية، والمواد الغذائية الأساسية، والمحروقات، فإن هجماتها الجوية اِستهدفت منشآت مدنية ذات طابع حيوي، ولا غنى لحياة السكان من مشافٍ ومدارس ومراكز إغاثية؛ وجسور وطرق ومرافق عامة.
«بأي ذنب قتلت»؛
ما ذنب هؤلاء الأبرياء؟
التقارير تكشف كل يوم عن استمرار عمليات القصف الإسرائيلي من البرّ والبحر والجو على معظم مناطق قطاع غزة، مما أسفر عن سقوط الضحايا بين المدنيين الأبرياء، ونزوح عدد أكبر منهم، وتدمير المنازل، وغيرها من البنى التحتية المدنية، وما زالت التقارير الصحفية والحقوقية، تنقل الأخبار المحزنة بتواصل الاجتياح البرّي، والقتال العنيف. وبأنه وفقا لوزارة الصحة في غزة، استشهد 111 فلسطينيا وأُصيب 385 من المدنيين بين ساعات ما بعد الظهر من يومي 7 و10 يوليو فقط. وبين يومي 7 أكتوبر 2023 و13 يوليو 2024، استشهد ما لا يقل عن 38,443 فلسطينيا، وأُصيب 88,881 من أبناء قطاع غزة، وهذه الفاتورة الدموية تزداد كل يوم بحق هؤلاء الأبرياء الذين يقتلون دون ذنب ولا خطيئة إلا لأنهم يحبون الحياة، ويدافعون عن حقهم في البقاء في ديارهم وأرضهم.كما دمر الاحتلال 75% من المباني المدرسية، منها 97 مدرسة بشكل كلي، و295 مدرسة بشكل جزئي، كما دمّر الاحتلال 215 روضة أطفال، وأقدمت قوات الاحتلال بتدمير أجزاء من بعض الجامعات، ونسف أخرى، وتحويل المرافق الصحية والتعليمية لثكنات عسكرية ومراكز اعتقال مؤقتة، وأعلنت وزارة التعليم مقتل 4327 طالبا، وإصابة 7819 آخرين، بينما قُتِل 231 معلما وإداريا، وأصيب 756 بجروح، وحرمان أكثر من مئة ألف طالب وطالبة من تلقي تعليمهم الجامعي، وتَعذر على 555 آخرين الالتحاق بالمنح الدراسية في الخارج.
تدمير لأجل التهجير مليونان ومائة ألف تعداد سكان غزة، وهو عدد يقل عن الرقم الأولي الذي توقعه الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني للعام 2024، وبلغ 2.3 مليون نسمة.
ووفقا لسلطة الحدود، غادر نحو 110,000 فلسطيني غزة عبر مصر، واستشهد أكثر من 38,000 في الأعمال القتالية وفقا لوزارة الصحة هناك. وقدرت الأمم المتحدة والمنظمات الدولية بأن النازحين داخل غزة تجاوزوا 1.7 مليون إلى 1.9 مليون مدني.
وبعبارة أخرى، يقدر بأن تسعة من كل 10 أشخاص في غزة باتوا الآن نازحين ومهجّرين.
والنزوح الجماعي بالدرجة الأولى سببه أوامر الإخلاء التي يصدرها الجيش الإسرائيلي، وقد تم إخلاء معظم ملاجئ الأونروا في رفح، في ثاني أكبر أمر بالإخلاء صدر منذ شهر أكتوبر 2023، أمر الجيش الإسرائيلي في 1 يوليو سكان 71 تجمعا سكنيا في شرقي خانيونس ورفح بإخلائها فورا باتجاه الغرب إلى ما يسميه الجيش «منطقة إنسانية»، وتضم المنطقة التي يشملها الإخلاء منشآت حيوية لتقديم الخدمات التابعة للأونروا، بما فيها 92 مدرسة، وأربع نقاط طبية، ومركزان للرعاية الصحية الأولية، و14 مطبخا تقدم الوجبات الساخنة للنازحين، والأمم المتحدة قدرت بأن ما يقرب من 250,000 شخص كانوا يقيمون في المنطقة التي يطالها الإخلاء عندما صدر الأمر المذكور.
وانتقل النازحون باتجاه غرب خانيونس ودير البلح، اللتين تشهدان اكتظاظا شديدا في الأصل، وتفتقران إلى الخدمات الأساسية والبنى التحتية الضرورية، ومواد المأوى، والمساحات اللازمة؛ لإيواء الموجات الجديدة من النازحين الذين يتدفقون عليهما. وفوق كل هذا، لا يزال النازحون الهاربون من القتل الجماعي، يخشون على سلامتهم ولقمة عيشهم في شتّى أرجاء غزة.
عجز دولي عن إنقاذ الأبرياء أمام تقلص المساعدات الإنسانية التي تدخل إلى قطاع غزة، وانخفضت بمقدار الثلثين منذ أن بدأت إسرائيل عمليتها العسكرية في منطقة رفح بجنوب القطاع، تستمر حالة الخذلان والعجز في المشهد السياسي الدولي، فلا مقاربات قادرة على تجاوز الأزمة، ولا مبادرات سياسية عملية مطروحة إلا المبادرة القطرية الأمريكية التي تبذل فيها الدوحة قصارى جهدها، ولكن تعثر الجهود وطول أمد الأزمة سببه تعنت المعتدين وإصرار أهل الأرض على الثبات واسترجاع حقوقهم المسلوبة والعودة إلى ديارهم آمنين.
العدوان على شعب غزة ينتهك كل القوانين والأعراف الدولية رغم التنديدات الأممية والدولية للعدوان الغاشم على أهل غزة، والدعوى التي قدمتها دولة جنوب إفريقيا ودول أخرى في محكمة الجنايات الدولية، وصدور قرارين عن مجلس الأمن يدعوان لوقف الحرب، واعتراف دول أوروبية بدولة فلسطين، ووضع الجيش الإسرائيلي على القائمة السوداء في الأمم المتحدة كجيش قاتل للأطفال.
كل ذلك الجهد وغيره على المستوى الدولي الرسمي لم يفلح أيضا في وقف العدوان ولجم تغول الاحتلال.
ويستمر المعتدون في انتهاك قواعد القانون الدولي، مثل عدم الالتزام بالتمييز بين المدنيين والمقاتلين وتعمد الإضرار بالمدنيين وممتلكاتهم، وتنص المادة «25» من اتفاقية لاهاي على حظر مهاجمة أو قصف المدن والقرى والأماكن السكنية أو المباني المجردة من وسائل الدفاع أيا كانت الوسيلة المستعملة. ويؤكد النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية أن تعمد توجيه هجمات ضد السكان المدنيين أو ضد أفراد مدنيين لا يشاركون مباشرة في الأعمال الحربية «يشكل جريمة حرب»، وهذا كله يوافق ما فعلته آلة القتل الإسرائيلية من جرائم بحق الفلسطينيين من قتل وتهجير واعتقال وقصف للمنشآت الطبية والعلمية والإنسانية المحلية والدولية.
في حقيقة الأمر، لا أحد يفهم الصمود الفلسطيني سوى الفلسطينيين أنفسهم، ومن ذاق ما ذاقوه من شعوب، ولن يفهم أحد هذا الثبات والإيمان بالرغم من القهر، والوجع، والفقدان، وذلك بالرغم من كل الدماء التي سُفكت، والأرواح التي أُزهقت، وظل شعبا يقاوم العدوان، ويجاهد اليأس بمشاعر الأمل والتحدي، وشعوره بأنها أزمة وستنتهي، وبأن غدا سيكون أفضل.
@falehalhajeri
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق