أوروبا بين معاداة الإسلام وترك المسيحية
تتقدم الأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا وتسجل يومًا بعد يوم انتصارات على الساحة السياسية، وفي حين تسجل الإحصائيات انحسار الدين المسيحي في حياة الناس في أوروبا، فإن معادة الإسلام والأجانب تزداد، ويبقى السؤال ما سر هذا التناقض؟
"سترحل مع فاطمة" ..."المركب لن ينتظر"... "حين ينجح بارديلا ستعود إلى بلدك"...
هذه كلمات لأغنية فرنسية أُنتجت عبر الذكاء الاصطناعي، وانتشرت بشكل كثيف على مواقع التواصل الاجتماعي قبيل الانتخابات الفرنسية، والتي تعبر عن كره نسبة كبيرة من الأوروبيين للإسلام حتى أنهم صدّروا كلمات الأغنية باسم فاطمة وهو اسم له دلالاته عند المسلمين.
وبارديلا المذكور في الأغنية هذا، هو جوردان بارديلا زعيم حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف، الذي فاز بالجولة الأولى من الانتخابات البرلمانية في فرنسا.
ودعا هذا الرجل الفرنسيين إلى اتخاذ "خيار تاريخي" ودعم الحزب ومنحه الأغلبية المطلقة في البرلمان، قائلا: "حان الوقت لتعيين زعيم يفهمك على رأس البلاد".
ولا يقتصر تقدم اليمين المتطرف على فرنسا، فاليمين الأوروبي يتقدم واثق الخطى، في عدد من البلدان الأوروبية، مثل حزب (إخوة إيطاليا) لرئيسة الوزراء جورجيا ميلوني، وحزب رئيس الوزراء اليوناني كيرياكوس ميتسوتاكيس، وحزب الحرية اليميني النمساوي الذي قدم مشروع قانون لإغلاق المساجد في النمسا، إلى اليمين المتطرف في إسبانيا، ومثلها أحزاب اليمين في ألمانيا التي ترى أن الإسلام لا ينتمي إلى ألمانيا، وآخرهم كان نايجل فاراج والذي فاز منذ أيام بمقعد في البرلمان البريطاني، والذي يرى أن المسلمين لا يحترمون القيم البريطانية، وغيرهم في بلدان أوروبية مختلفة.
فأوروبا باتت تتجه يميناً بشكل متزايد، كما يبدو في مؤشرات مراكز قياس الرأي العام، واستطلاعات الرأي، وقد بدا ذلك جلياً في نتائج الانتخابات الأوروبية الأخيرة.
ولكن الأمر غير المفهوم والذي يبدو متناقضًا، أن مزاج الجمهور الأوروبي الذي ينتخب ويفضل الأحزاب اليمينية والتي تبني دعايتها وخطابها على كره الإسلام ومعاداته، هذا الجمهور نفسه في ذات الوقت يلفظ الدين المسيحي ويجتنبه.
لم تكن سلطة كنيسة القرون الوسطى دينية فقط بل دنيوية أيضًا، تمثلت بالدولة البابوية التي ثبتت أركانها في القرن الحادي عشر؛ وتمثلت أيضًا بالدور القيادي في السياسة الذي لعبه البابا كوسيط بين مختلف ملوك أوروبا |
ففي بريطانيا على سبيل المثال، نشر مكتب الإحصاءات الوطني البريطاني في أواخر نوفمبر من عام 2022 نتيجة التعداد السكاني الذي يجريه كل 10 سنوات، وجاء فيه أن نسبة مَن يصفون أنفسهم بأنهم مسيحيون في إنجلترا وويلز لا تتجاوز 46.2%، مقارنة بنسبة 59.3% التي سجلت في التعداد السكاني السابق في عام 2011، وهو انخفاض كبير في غضون عقد واحد فقط، فنسبة كبيرة من البيض من أصل بريطاني قد تخلوا عن ديانتهم المسيحية.
ولكي نستطيع فهم هذا التناقض وتفسيره، يجب علينا تحليل طبيعة المسيحية في أوروبا، ثم أسباب كره الأوروبيين للإسلام وهل هو عقدي فقط أم أن الأمر له جذور أخرى؟
المسيحية في أوروبا بين الماضي والحاضر
ظلت أوروبا وثنية طيلة عدة قرون، حتى ظهرت المسيحية والتي انتشرت من خلال الحواريين الذين كانوا حول المسيح، ومن هؤلاء بطرس الذي سافر شرق المتوسط إلى أن استقر في روما وأنشأ هناك كنيسته الشهيرة التي تعد مركزا للبابوية، وكان ذلك تقريبًا في منتصف القرن الأول الميلادي.
ولكن الفضل الكبير في نشر هذا الدين بعد تحريفه جاء على أيدي بولس الذي لم يكن من حواريي المسيح عليه السلام، حيث اعتنق المسيحية عندما كان ينكَّل بأتباعها، ويزعم بولس كذبًا أنه قد جاءه وحي من المسيح، وفقا لروايته، واستطاع بكتاباته أن يعيد صياغة الإنجيل ويحرفه ويقدمه للناس على أساس أنه منزل من عند الله.
وقد استطاع اتباع بولس طوال القرن الثاني الميلادي نشر الديانة المحرفة في ربوع أوروبا.
في البداية تعاملت الإمبراطورية الرومانية المهيمنة في ذلك الوقت على أكثر الأراضي الأوروبية بقسوة مع هذه الديانة الجديدة، فنكلت بالرهبان والأتباع وهذا مما زاد من انتشارها، وحقيقة الأمر أن هذه المسيحية المحرفة لم تمثل تهديدًا سياسيًا لروما، فكان الخلاف الأساسي هو رفض هذه الطائفة الاعتراف بألوهية القيصر أو الإمبراطور الروماني.
ولم تهدأ هذه الموجة إلا بعد أن تولى الإمبراطور قسطنطين حكم الإمبراطورية الرومانية، والرواية الدارجة هي أن هذا الرجل بدأ يميل للمسيحيين، وذلك على الرغم من أنه لم يعتنقها إلا على فراش الموت كما تشير بعض المصادر التاريخية، حيث جرى تعميده قبيل وفاته مباشرة، وإليه يرجع الفضل فيما هو معروف بقرار ميلان عام 313 الذي يقضي بالعفو العام عن كل المسيحيين، وهو ما يعني إعادة ممتلكاتهم، إضافة إلى السماح لهم بحرية العقيدة وممارستها، أما قرار جعل المسيحية الدين الرسمي للدولة الرومانية، فإنه جاء على يد الإمبراطور ثيودوسيوس عام 381، وأيا كانت أهداف قسطنطين من هذه الخطوة، فإنها بكل تأكيد فتحت المجال أمام ازدياد قوة الكنيسة، فقبل عام 313 كان المسيحيون أقلية داخل الإمبراطورية ككل، لكنهم تحولوا إلى قوة لا تستطيع مؤسسات الإمبراطورية الرسمية طمسها أو التغاضي عنها.
ثم جاءت مرحلة سيطرة الكنيسة وقيادتها على أوروبا، وبالرغم من الانشقاق بين روما والقسطنطينية، إلا أن زعامة العالم المسيحي استقرت بيد روما.
ففي عام 1920، دخل الجيش الفرنسي بقيادة الجنرال هنري غورو دمشق بعد هزيمته لقوات الأمير فيصل بن الحسين، حتى وصل إلى قبر القائد الإسلامي صلاح الدين الأيوبي، ليقول جملته المشهورة" ها قد عدنا يا صلاح الدين!" |
ولم تكن سلطة كنيسة القرون الوسطى دينية فقط بل دنيوية أيضًا، تمثلت بالدولة البابوية التي ثبتت أركانها في القرن الحادي عشر؛ وتمثلت أيضًا بالدور القيادي في السياسة الذي لعبه البابا كوسيط بين مختلف ملوك أوروبا، كما حاول البابا امتلاك السلطة المطلقة على الكنيسة والسلطة غير المباشرة على الدولة بصفته نائب المسيح على الأرض، علاوةً على ذلك، طالب البابا بمنحه الحق في خلع الملوك الكاثوليكيين في أوروبا الغربية عبر العصور الوسطى، إذ حاول ممارسة هذا الحق ونجح فيه أحيانًا بينما فشل في أحيانٍ أخرى.
وما لبثت أن ظهرت في أوروبا بوادر ما يسمى بالنهضة العلمية المتأثرة بحضارة المسلمين في الأندلس بعد ترجمة العلوم الإسلامية إلى اللاتينية، وبرز عدد من العلماء الذين بيَّنوا بطلان آراء الكنيسة العلمية، وبخاصة في الجغرافيا والفلك التي وصفتها بالهرطقة، ولذلك توسعت في استخدام محاكم التفتيش ضد هذه الحركات، وضد الأصوات المنادية بالإصلاح الكنسي.
وبالتدريج تخلصت أوروبا من سيطرة الكنيسة السياسية، وظهرت العلمانية بمعنى فصل الدين عن الدولة، لذلك يسمي الأوروبيون تلك الحقبة بعصر النهضة.
علاقة أوروبا بالإسلام
بدأت أول علاقة للأوروبيين بالإسلام.. عندما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم رسائله إلى هرقل يدعوه فيها إلى الإسلام، وقد كان رد فعل هرقل عجيبًا، ففي رواية أنه قال لدحية بن خليفة الكلبي وهو الرسول الذي أرسله النبي صلى الله عليه وسلم: "والله إني لأعلم أن صاحبك نبي مرسل، وأنه الذي كنا ننتظره، ونجده في كتابنا، ولكني أخاف الروم على نفسي، ولولا ذلك لاتبعته".
ثم كانت حروب الفتح الإسلامي عندما أرسل خليفة المسلمين أبو بكر جيوشه إلى الشام، وخلفه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وتوالت بعدها هزيمة جيوش الروم المسيحيين أمام المسلمين، والذين نجحوا في فتح الشام ومصر وشمال أفريقيا حتى وصلت قواتهم إلى شاطئ المحيط الأطلسي، ثم عبروا في مرحلة لاحقة مضيق جبل طارق ليفتحوا بلاد الأندلس (إسبانيا والبرتغال حاليا) حتى توقفت جيوشهم في وسط فرنسا.
أما في الشرق فقد غزا الأتراك ممثلين في السلاجقة والعثمانيين شرق أوروبا فأسقطوا الإمبراطورية البيزنطية المسيحية الأرثوذكسية بعد أن فتحوا عاصمتها القسطنطينية، ومن ثم حولوا أكبر كنائسها إلى مسجد وواصلوا فتوحاتهم حتى وصلوا إلى أبواب فيينا عاصمة النمسا، وهيمن الأسطول العثماني على البحر المتوسط حتى أنه عندما كان يمر على موانئ جنوة والبندقية تتوقف الحانات عن تقديم الخمر وتصمت أجراس الكنائس.
ثم جاءت مرحلة الحروب الصليبية، حيث تأثرت الممالك المسيحية في أوروبا بنداء رأس الكنيسة الكاثوليكية في الفاتيكان وهبت لاسترداد ما رأوا أنه أملاك مسيحية في بيت المقدس والشام ومصر.
فانطلقت الحملة الصليبية الأولى إثر نداء البابا أوربانوس الثاني سنة 1094، واستطاعت احتلال الساحل السوري إضافة إلى لبنان وفلسطين ومناطق من تركيا والأردن ومصر، أما الحملة الصليبية الثانية فكانت ردًا على سقوط الرها، والحملة الصليبية الثالثة كانت ردًا على سقوط القدس، أما الحملات التالية جميعًا فكانت ذات أثر محدود، فاحتلت الحملة الصليبية الرابعة القسطنطينية (قبل الفتح العثماني)، واستطاعت الحملة الصليبية السادسة استعادة القدس زمنا قليلاً، في حين توجهت سائر الحملات إلى مصر، لكنها لم تستطع المكوث فيها طويلاً.
والمثير في الأمر أن الحملات الأوروبية على بلاد المسلمين لم تهدأ حتى بعد تحول أوروبا إلى العلمانية ونبذها لسلطة الكنيسة السياسية.
ففي عام 1920، دخل الجيش الفرنسي بقيادة الجنرال هنري غورو دمشق بعد هزيمته لقوات الأمير فيصل بن الحسين، حتى وصل إلى قبر القائد الإسلامي صلاح الدين الأيوبي، ليقول جملته المشهورة" ها قد عدنا يا صلاح الدين!" فالقائد الفرنسي لا يزال يختزن في ذاكرته الحملات الأوروبية الصليبية والتي كسر صلاح الدين الأيوبي أحد أقوى هذه الحملات.
وهذا يجرنا إلى سؤال المقال، عن سر التناقض بين علمانية أوروبا وكرهها المستمر للإسلام.
الازدواجية الأوروبية
في عام 2019 أصدر الباحث الفرنسي المتخصص في الإسلام السياسي، أوليفييه روا كتابًا بعنوان (أوروبا.. هل هي مسيحية؟)، وفي الفصل الثاني من الكتاب والذي عنونه (علمنة أوروبا.. هل هي تجريد لها من مسيحيتها؟) يتحدث أوليفييه روا عن طريقين سلكتهما العلمنة، أحدهما يرتكز على مفهوم تشريعي ودستوري، ويتعلق الأمر باستقلالية السياسة الذي أدى إلى فصل الدولة عن المؤسسات الدينية كما هو الحال في فرنسا والولايات المتحدة، أو أدى إلى تحكم السياسي بالديني كما هو الحال في بلجيكا وألمانيا.
أما الطريق الثاني فيتعلق بالعلمنة الاجتماعية، حيث تناقصت أعداد المؤمنين بالمسيحية والمطبقين لتعاليمها بشكل كبير، ويحاول الباحث توضيح فكرة أن الهوية المسيحية ليست هي نفسها الإيمان بالمسيح، ومن ثم يتساءل هل يمكن للهوية المسيحية أن تبقى عندما ينتهي الإيمان؟
هنا مربط الفرس حيث يضع الكاتب يده على الجرح، فما يجري في أوروبا هو تخلي عن العقيدة المسيحية، ولكن لم يتخل الأوروبيون عن المسيحية كجزء هام ومكون أصيل في هويتهم وإرث تاريخي.
فالحروب الصليبية تركت أثرها في الوجدان الأوروبي وفي الذاكرة الجماعية لشعوب أوروبا، وهذا ينعكس على موقفها من الإسلام اليوم ويعطي تفسيرا ويفسر التناقض بين كره الأوروبيين للإسلام، وبين ابتعادهم عن الدين وتنكرهم له.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق