المسجد الأقصى وصلاح الدين الأيوبي
في عام 583هـ، التقى صلاح الدين الأيوبي بجموع الصليبيين في معركة حطين، وانتصر عليهم، وبعدما استقر له الحكم في القدس، أمر بإعادتها إلى ما كانت عليه قبل احتلالها من الصليبيين، وكان هؤلاء قد أقدموا على تغيير الكثير من المعالم الإسلامية في المدينة المقدسة؛ فزرعوا صليباً كبيراً مذهَّباً على رأس قبة الصخرة، وأمر صلاح الدين بكشفها.
وكان فرسان الدَّاوية قد بنوا مباني لهم غرب المسجد الأقصى لكي يسكنوها، وأنشأوا فيها استراحات وغير ذلك، وأدخلوا قسماً من هذا المسجد في أبنيتهم، فأمر صلاح الدين بإعادة الأبنية إلى حالها القديم، كما أمر بتطهير المسجد والصخرة من الأقذار والأنجاس، ثم عيَّن إماماً للمسجد الأقصى، وأقام فيه منبراً، ومحا ما كان فيه، وفي الأبنية المجاورة من صور كان الصليبيون قد وضعوها أو رسموها، وأعاد المسيحيين الأصليين من أهل القدس إلى مساكنهم، كما سمح لهم بشراء ما أراد الفرنج بيعه من ممتلكات ومتاع وأموال.
وعامل صلاح الدين الفرنج معاملة إنسانية رفيعة، وظهر منه تسامح ورحمة بالفقراء، والمحتاجين، والأسرى، ولقد تعدى ذلك إلى أمراء صلاح الدين، وعامة المسلمين.
والواقع أن صلاح الدين، وذلك الجيل المنصور؛ قد أبدى من التسامح وكرم الأخلاق تجاه أسرى الصليبيين في بيت المقدس، الشيء الكثير، وبلغ من كرم وشهامة صلاح الدين، ما قام به تجاه زوجات وبنات الفرسان الصليبيين، الذين قتلوا وأسروا أثناء معاركهم مع صلاح الدين؛ فقد تجمعن أمام صلاح الدين يبكين، فسأل عن حالهن وما يطلبن، فقيل له إنهن يطلبن الرحمة، فعطف عليهن صلاح الدين وسمح لمن كان زوجها على قيد الحياة بأن تتعرف عليه، وأطلق سراحه، وسمح لهم بالذهاب حيث يريدون، وأما النساء والبنات اللاتي مات أزواجهن وآباؤهن، فقد أمر صلاح الدين بأن يُصرف لهن من خزائنه الخاصة ما يناسب عيشهن ومركزهن، وأعطاهن حتى ابتهلت ألسنتهن بالدعاء له.
لقد بهر صلاح الدين بأخلاقه الإسلامية وقيمه النبيلة الإنسانية وبروح الفروسية لديه، ملوك الغرب وقوادهم، حيث كانوا يقودون جحافل جيوشهم في الشام، حتى إن الفرنسيين كانوا يقولون: إن دماءه دماء فرنسية، والألمان، والإنجليز، والإيطاليون كلهم كانوا ينسجون قصصاً رائعة عن أخلاق صلاح الدين، ويتحدثون عنها في قراهم، ومدنهم، ومسرحياتهم. والفضل ما شهدت به الأعداء؛
يقول (غروسيه) -وهو مؤرخ فرنسي- في الحديث عن صلاح الدين: طلب بعض المتعصبين من صلاح الدين هدم معابد المسيحيين وتدمير كنيسة القيامة بهدف إلغاء حج المسيحيين (المؤمنين بالثالوث المقدس)، فصدهم عن ذلك بكلمة منه؛ قال: لماذا الهدم والتدمير طالما أن هدف عبادتهم هو مكان الصليب المقدس، والقبر المقدس وليس البناء الخارجي؟ وحتى لو سويت الأبنية بالأرض، فإن مختلف الطوائف المسيحية لن تتخلى عن السعي للوصول إلى هذا المكان. لنفعل إذن كما فعل الخليفة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- الذي احتفظ بهذه الأبنية عندما فتح القدس في السنوات الأولى للإسلام.
ويعلق غروسيه على ذلك بالقول: إن كل ما يتجلى به هذا السلطان العظيم من حرية الرأي والمعتقد يبرز في هذه العبارة الجميلة.
اقتدى صلاح الدين في فعله هذا بالخليفة الراشد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- الذي أقر النصارى على هذا المكان، ولم يأمر بهدم البنيان.
وصدق الشاعر شهاب الدين أبو الفوارس المتوفى 574هـ عندما قال:
مَلكْنا فكان العَفْو منَّا سَجيَّةً فلمَّا ملكْتُمْ سالَ بالدَّمِ أبْطَحُ
وحَلَّلْتُمُ قتلَ الأسارى وطالَما غَدوْنا عن الأسْرى نَعفُّ ونصفَح
فحسْبُكُمُ هذا التَّفاوتُ بيْنَنا وكلُّ إِناءٍ بالذي فيهِ يَنْضَحُ
كان صلاح الدين رجلاً إسلامياً بكل معنى الكلمة مقتدياً بالرسول محمد ﷺ في عفوه وحلمه وسماحته.
وقال عنه أحد المؤرخين الأوروبيين: سيظل في الذاكرة أن الزمان الدموي والقاسي مثل ذاك الزمان، لم يتمكن من إفساد إنسان ذي سلطة عظيمة، إنه صلاح الدين. وإن أكبر دليل على تقدير الإفرنج لهذه البطولة النادرة، والسماحة الكبيرة، اهتمام إمبراطور ألمانيا بزيارة قبر صلاح الدين، عندما زار بلاد الشام سنة (1315هـ - 1899م) وقد خطب خطبة أشاد فيها بصلاح الدين، وأرسلت الإمبراطورة إكليلا من الزهور ليوضع على ضريح البطل العظيم، ولم ينس أمير الشعراء –أحمد شوقي- أن يسجل هذه الذكرى فقال: عَظيمُ الناسِ مَن يَبكي العِظاما وَيَندُبُهُم وَلَو كانوا عِظاما فَهَل مِن مُبلِغٍ غَليومَ عَنّي مَقالاً مُرضِياً ذاكَ المَقاما رَعاكَ اللَهُ مِن مَلِكٍ هُمامٍ تَعَهَّدَ في الثَرى مَلِكاً هُماما أَرى النِسيانَ أَظمَأَهُ فلَمّا وَقَفتَ بِقَبرِهِ كُنتَ الغَماما تُقَرِّبُ عَهدَهُ لِلناسِ حَتّى تَرَكتَ الجَليلَ في التاريخِ عاما أَتَدري أَيَّ سُلطانٍ تُحَيّي وَأَيَّ مُمَلَّكٍ تُهدي السَلاما دَعَوتَ أَجَلَّ أَهلِ الأَرضِ حَرباً وَأَشرَفَهُم إِذا سَكَنوا سلاماً
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق