بيني وبينك.. الصّريخ
قُتِلَ الصّحابي الحارثُ بن عُمير الأزديّ على ماء عفرا بالطّفيلة في جنوب الأردنّ، قتَلَه شُرحبيل بن عمرو الغسّاني غِيلةً وغدرًا، وكان الحارث يحمل رسالةَ رسولِ الله صلّى الله عليه وسلّم إلى الغسّاني يومَ أنْ بعثَ النّبيّ رُسُلَه إلى الملوك والأمراء يدعوهم فيها إلى الإسلام. فما كان من رسول الله من بعد؟! هل تركَ الأمر يمرّ دون أنْ يفعل شيئًا؟!
كلا، وحاشاه، بل جَهّز جيشًا فيه خيرةُ الصّحابة وأكرمُهم، ليثأروا لهذا الصّحابيّ المغدور به، فكانتْ معركة مؤتة في السّنة الثّامنة للهجرة.
تخيّلوا أنّ محمّدًا يثأر لواحدٍ من أصحابه بِبعثِ جيشٍ عداده ثلاثة آلاف ليُواجِهوا آنئذٍ مئتَي ألف مقاتلٍ وواحدةً من أكبر دولتَين تُسيطران على العالَم، ألا وهي «الرّوم» وَمْن حالَفها من العرب؛
فماذا أرادَ محمّد صلّى الله عليه وسلّم أنْ يقول بذلك؟
أرادَ أنْ يقول إنّ دَمَ واحدٍ، واحدٍ فقط من أصحابي، يساوي دماءَكم كلّكم أيّها الرّوم والعرب المُنبطحين لهم.
أرادَ أنْ يقول: إنّه دمٌ واحدٌ، لكنّه إنْ لم يُثأر له فسيجرّ وراءَه دِماءً كثيرة، وأنّه كما قالتِ العرب: القتلُ أنفى للقتل.
أرادَ أنْ يقول: إنّه لا تُخيفنا نحن المسلمين كثرتُكم، فإنّنا نُقاتل عن عقيدةٍ وأنتم تقاتِلون عن أموالكم، نحنُ عن الجوهر الباقي، وأنتم عن العرضِ الزّائل.
وأرادَ أنْ يقول أيضًا: إنّنا نقاتل العرب الّذين يشتركون معنا في العِرق والأصل، ولكنّهم يختلفون معنا في العقيدة، وإنّ أخوّة الدّم لا تُصان إذا اختلفتْ مع أخوّة الدّين، وإنّ المتآمرين مِنّا مع عدوّنا، يكونون حينئذٍ هم وعدوّنا سواءً.
وفي حادثة تاريخيّة أخرى، استغاثتْ امرأةٌ -سباها الرّوم- بالخليفة المُعتصم من وراء الجبال والوديان والبلاد البعيدة؟ فهل كانتْ تعلمُ أنّ صرختها تلك كانتْ ستثبُ الجبالَ، وتقطع المفاوزَ وتصل إلى أذن الخليفة؟! لعلّها كانتْ صرخةَ يأسٍ أخيرة تُطلقها امرأةٌ ضعيفةٌ وحيدةٌ يُحيط بها جيشٌ من أعتى المُجالِدين لن تجدَ أذنًا تسمعها في معسكرها، فهل تجدُ لها تلك الأذن الصّاغية خارج ذلك المُعسكر البعيد؟
نعم، وجدتْ أذنًا صاغية، وجهّز المُعتصم من أجلها، من أجل فردٍ واحدٍ مجهولٍ في الدّولة جيشًا كبيرًا، هَزّ أركان الظُّلم والطّغيان، وحرّرها من تلك الرِّبقة.
كان ذلك إعلانًا غير مسموعٍ ولا مكتوب، ولكنّ لسان حاله يقول:
«إنّ فردًا واحِدًا من المُسلِمين يساوي المُسلمين كلّهم، وإنّه إنْ يُظلَم فكأنّما ظُلِمَ كلُّ مسلم» . واليوم كم من دمٍ يُسفَك، لا دمٌ واحد، وكم من امرأة تستصرخ لا امرأة واحدة، آلاف الرّجال يُقتَلون، ومئات الآلاف من النّساء يستصرخْن ذا نخوةٍ مِمّنْ بيده الأمر، ولكنْ لا دمَ يُصان، ولا صرخةَ تُلبَّى، أمَا كان ما رأيتُم من هذه الدّماء كافِيًا لكي تنهضوا؟ أمَا كان ما سمعتم من هذه الصّرخات كافِيًا لكي تهُبّوا؟!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق