وأحمد الله تعالى، فإن الله عز وجل قد وفق إلى جمع مادة كبيرة ومفيدة في هذا الدرس، وأسأله عز وجل أن يوفقني لعرضها عليكم باختصار، بحيث أتمكن من ذكر كل ما لدي في هذا الوقت القصير.
أول نقطة أود أن أتحدث عنها، هي موضوع: ضرورة الاهتمام الشخصي بهذا الموضوع، ثم أتحدث بعد ذلك عن قضية الاهتمام بالمستقبل، على أنه خاصية من خصائص الإنسان تميزه عن الحيوان، وأثلث بحديث موجز عن أعداء الإسلام، من هم؟ وما هي خططهم؟ ثم أتحدث عن الأدلة الشرعية على أن المستقبل للإسلام من القرآن الكريم، ثم من الحديث النبوي الشريف، ثم الأدلة من التاريخ، ثم الأدلة من الواقع، ثم الحديث عن الجزيرة العربية، وأنها أرض الإسلام، وبعد ذلك نصل إلى النهاية، وهي الطريق نحو مستقبل الإسلام.
ففيما يتعلق بالنقطة الأولى، وهي: ضرورة الاهتمام الشخصي بهذا الموضوع، فإن هناك سؤالاً يطرح نفسه: ما مدى عنايتنا بهذا الموضوع؟
لا شك أن هناك من ينصب اهتمامه منا على سلامته الشخصية، وأسرته، وراتبه، وتوفر القوت الكافي، والمسكن الواسع، والسيارة الفخمة، والاحتياجات المتنوعة، وألا ينقص شيء من راتبه أو دخله الشهري، ومع ذلك قد تجد هذا الإنسان يؤدي عباداته وأموره الشرعية بانتظام، لكن دون أن يهمه شأن المسلمين والإسلام.
نحن بحاجة -أيها الإخوة- إلى أن يكون لدينا ارتباط عاطفي بقضايا الإسلام والمسلمين، بحيث أن حزن الإنسان وفرحه وسروره وغضبه ورضاه ويقظته ومنامه، تكون كلها مربوطة بشأن الإسلام، فإذا لاحظت عليه الحزن وجدته لما يصيب المسلمين، أو الفرح وجدته لانتصار الإسلام، تأملت في أحلام هذا الإنسان وهو يتقلب في فراشه، وجدتها مرتبطة بأوضاع المسلمين وأحوالهم، في يقظته تجده يكدح في شأن الإسلام والمسلمين.
أما كون الإنسان يهتم بقضاياه الشخصية، ثم بعد ذلك لا يهمه شأن الإسلام ولا شأن المسلمين، فهذا لن يفكر في واقع المسلمين أصلاً، ولذلك فمن باب الأولى أنه لن يفكر في مستقبله.
مثلاً الأحلام والرؤى، التي كان الصحابة رضي الله عنهم يعرضونها لرسول الله صلى الله عليه وسلم. بعد صلاة الفجر -أحياناً- من رأى منكم رؤيا؟ فيقول رجل: رأيت رؤيا فيذكر رؤيا، وثاني وثالث.
ماذا كانت تدور حوله؟ لم تكن تدور حول قضاياهم الشخصية فقط، ولا مشاكلهم الخاصة فقط، بل كان الغالب على هذه الأحلام والرؤى، أنها تدور حول أوضاع المسلمين والإسلام، إما في علم أو عمل، أو انتصار للمسلمين، أو خطر يهددهم، أو ما أشبه ذلك، ولو أردت أن أذكر أمثلة من ذلك لطال المقام، لكنني سبق أن ذكرت شيئاً من ذلك في درس بعنوان: "الأحلام والرؤى".
مثلا الرسول صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى الطائف فدعاهم إلى الله عز وجل، فردوه أبشع رد وكذبوه فيما قال، خرج من عندهم، أو من مكة -على اختلاف في الروايات- يقول صلى الله عليه وسلم: (فخرجت هائماً على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بـقرن الثعالب، فإذا سحابة قد أظلتني...).
إذاً رسول الله صلى الله عليه وسلم مشى مسافة طويلة، وكأنه فيما يشبه الغيبوبة من شدة الحزن والهم والكمد الذي أصابه بسبب ردهم السيئ عليه، حتى ما وعى على نفسه عليه الصلاة والسلام وانتبه، إلا وهو في هذا المكان، وكأنه لم يكن يقصده، لكن انتبه فوجد نفسه في قرن الثعالب. إذاً همه وحزنه صلى الله عليه وسلم، لم يكن من أجل فوات دنيا أو مطمع أو منصب أو زوجة.
أبداً، كان همه مربوط بقضية الإسلام، ومدى قبول الناس أو ردهم لهذا الدين.
مثل ثالث: بعد فتح خيبر، وكان هذا الفتح نصراً عظيماً للإسلام والمسلمين، جاء جعفر بن أبي طالب من الحبشة، وكان قد هاجر إليها مع المهاجرين، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم، قام إليه واعتنقه وقال: (ما أدري بأيهما أنا أسر أبفتح خيبر أم بقدوم جعفر) إذاً سرور النبي صلى الله عليه وسلم أيضا، كان مربوطاً بقضية الإسلام، فيسر لفتح خيبر ويسر أيضاً لقدوم جعفر.
مثل رابع: بعد ما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، أصاب المسلمين كلهم هم وحزن عظيم، حتى إنهم كانوا كالغنم المطيرة، وأظلم من المدينة كل شيء -كما يقول أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه- ولما بويع لـأبي بكر الصديق بالخلافة قال لـعمر: [انطلق بنا إلى أم أيمن نـزورها كما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يزورها] أم أيمن حاضنة الرسول صلى الله عليه وسلم أم أسامة بن زيد، ومن أقرب الناس إلى الرسول عليه الصلاة والسلام! [فانطلقا إليها لزيارتها، فلما رأتهما بكت، فقالا لها: ما يبكيك؟ أما تعلمين أن ما عند الله خير لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: أما إني أعلم أن ما عند الله خير لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكني أبكي انقطاع الوحي من السماء فهيجتهما على البكاء فجعلا يبكيان معها].
إذاً هذه المرأة لا تبكي لموت حبيب لها، أو قريب، أو صديق، أو ابن، كلا! إنما تبكي لانقطاع الوحي من السماء، حتى فقدها لشخص الرسول صلى الله عليه وسلم، لم يكن هو فقط الذي يبكيها، وإن كان فقده عزيزاً عظيماً على النفوس، لكن الذي كان يبكيها انقطاع الوحي من السماء، وتعتبر ذلك أمراً جللاً يستحق البكاء، فهيجتهما على البكاء الخليفة ووزيره فجعلا يبكيان معها.
يا أحبتي! يجب أن يفكر المرء منا، كم كتب له من العمر في هذه الدنيا؟ خمسين، ستين، سبعين سنة -مثلاً- كم مضى من هذا العمر؟ سؤال ثالث ماذا صنعت فيما مضى من العمر؟ وكم بقي؟ وماذا سوف تصنع في ما بقي من عمرك؟ هل تعتقد أن الأمور سوف تتاح لك، حتى تفعل بكامل راحتك وهدوئك وسعة بالك؟
تصور يا أخي الكريم، أنه يوم من الأيام أصابك صداع في رأسك، وبعد ما ذهبت إلى المستشفى، وأجريت التحاليل والفحوص اللازمة، قالوا: والله عندك سرطان في المخ هذا وارد، كل إنسان ممكن يحدث له هذا. طيب ما موقفك حين ذاك؟ لا شك أن موازين الإنسان ستتغير، ونظرته ستختلف، وتفكيره سينحو منحى آخر، لكن المشكلة أنه في ذلك الوقت قد لا يكون بإمكانه أن يعمل شيئاً؛ لأنه لم يعد في حالته الطبيعية، وربما ليس لديه من الإمكانيات ما لديه الآن.
فعلى الإنسان أن يغتنم الفرصة، ويسعى إلى أن يشارك في صناعة مستقبل الإسلام؛ إذاً نحن لا نصنع شيئاً إذا قلنا المستقبل للإسلام. ما أتينا بجديد، هذا قاله قبلنا كثيرون من الناس، من الخلف والسلف، ومن المعاصرين، ومن المفكرين، ومن العلماء المسلمين، بل ومن غير المسلمين، قالوا: المستقبل للإسلام. ما صنعنا شيئاً إذا كان هذا مجرد كلام نردده ونكرره ونتلهى به، ومجرد أمانٍ نقولها.
لا، ينبغي أن يكون قولنا: المستقبل للإسلام بداية لخطوة عملية، يساهم فيها كل فرد منا في العمل على صناعة هذا المستقبل بقدر ما يستطيع هذه واحدة.
النقطة الثانية: أقول لكم يا إخوة: الاهتمام بالمستقبل خاصية من خصائص الإنسان تميزه عن الحيوان، جُبِلَ الإنسان على التفكير في المستقبل، ولذلك إذا تأملتم قول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: ((وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ))[الكهف:23-24] يعني: الله عز وجل في هذه الآية ما نهى الرسول عليه الصلاة والسلام عن تعليق الأمر على المستقبل، لا، إنما نهاه عن أن يجزم، بل يربط ذلك بالمشيئة.
إذاً الإنسان لا يستطيع أن يعمل كل ما في أمنيته الآن فيقول: بعض الأمور أعملها غداً أو بعد غد في المستقبل. لكن ينبغي أن يربط ذلك بمشيئة الله عز وجل، فلا يجزم ويقول: سأفعل هذا غداً، بل يقول: إن شاء الله أفعله غداً. فالتخطيط للمستقبل أمر ضروري، ولا يمكن تجاهله، لكنه ينبغي أن يُربط بمشيئة الله عز وجل.
انظر إلى بعض هذه الأحاديث - وأنا أيضا أذكر لكم هذه الأشياء كلها، لا على سبيل الاستقصاء، إنما كأمثلة مرت في خاطري وأنا أتأمل الموضوع.
مثلاً الرسول صلى الله عليه وسلم يقول في قضية صيام يوم عاشوراء: (لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع) يعني: مع العاشر يصوم يوم تسعة وعشرة من المحرم مثلا، فعلق هذا الأمر على المستقبل؛ لأنه لم يفعله في هذا العام، فوعد إن بقي في العام القادم، كتب الله له حياة أن يفعله، يقول صلى الله عليه وسلم: (لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب) ويقول: (لئن عشت -إن شاء الله- لأنهين أن يسمى أفلح ويسار ورباح، ونجيح) فوعد أنه إن عاش سوف ينهى عن هذه الأمور.
نحن نجد حتى لغة العرب فيها حرف السين، .وفيها سوف، لماذا وجد حرف السين وسوف؟ للتعليق على المستقبل، فإذا قلت لك: اقرأ هذا الكتاب؟ تقول: هاته سوف أقرؤه إن شاء الله، أو سأقرؤه إن شاء الله. فالإنسان إذا يعلق كثيراً من الأمور في المستقبل. الذي لا يمكن أن تفعله اليوم، تفعله غداً، والذي لا يمكن أن تفعله غداً، تفعله بعد غد، وهذا أمر طبيعي أن الإنسان يفكر في المستقبل، ويرتب بعض الأمور، ويعد أن يفعل هذه الأشياء في مقبلات الأيام.
ولذلك جاء في السنة النبوية الخبر عن أحوال هذه الأمة، وما يمر بها من الفتن والشرور والمصائب والخيرات أيضاً، إلى قيام الساعة، وفي بعض الأحيان كان الصحابة أنفسهم يسألون الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك، كما في حديث حذيفة المشهور، أنه قال: ( كان الناس يسألون الرسول صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقال: جاء الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ وهل بعد هذا الشر من خير؟ ) إلى آخر الحديث.
المهم الناس قلوبهم متطلعة ومتعلقة إلى أمور المستقبل، ولا يوجد إنسان يفكر في ساعته الحاضرة فقط أبداً، لكن الفرق في ذلك: أن أهل الجاهلية -سواء كان في الجاهلية القديمة أم الجاهلية المعاصرة- يفكرون في المستقبل تفكيراً منحرفاً، فمثلاً في الجاهلية كانوا يفكرون عن طريق الكهان، والعرافين، والمنجمين، والرمالين، فيأتي الواحد منهم رجل أو امرأة إلى الكاهن، يقول: ماذا سيحصل لي، وماذا سيحدث، وماذا تتوقع؟ فيقول له الكاهن ما أخبره به شيطانه، ويصدق مرة ويكذب تسعاً وتسعين مرة، يذكرون لهم ذلك ومثل ما نجد في العصر الحاضر ما يسمونه قراءة الكرت، أو البرج أو حظك، أو ما أشبه ذلك من الأشياء، التي شاعت وذاعت عند أهل الجاهلية، وانتشرت إلى بعض المنتسبين إلى الإسلام في هذا العصر.
وكذلك أهل أوروبا، يخططون ويفكرون للمستقبل من خلال نظرات وحسابات مادية بحتة، ولذلك كثيراً ما تأتي الأمور مخالفة لما كانوا يتوقعون.
من ذلك مثلاً: قضية استقراء السنن الإلهية، فإن الله عز وجل جعل في الحياة سنناً ونواميس تجري تمضي، مثل ما أن الشمس تطلع وتغيب، كذلك حياة الناس، وحياة الأمم، وحياة الشعوب، والنصر والهزيمة، والتقدم والتأخر، والفقر والغنى، كلها مربوطة بسنن إلهية موجودة في هذه الدنيا، والمؤمن العاقل البصير -أحياناً- يدرك من خلال هذه السنن ما سيقع.
ولذلك أذكر على سبيل المثال: أن الشيخ الإمام ابن تيمية رحمه الله، لما جاء التتر إلى بلاد المسلمين، خافهم الناس وفزعوا منهم، فكان ابن تيمية يقول لهم: إنكم غانمون ومنصورون. فيقول له الناس: يا إمام! قل: إن شاء الله. فيقول: إنكم منصورون، وأقول: إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً، يعني: النصر مؤكد ومقطوع به يا قوم، وإنما أقول إن شاء الله مثل ما جاء في الحديث: (وإنا إن شاء الله بكم لاحقون) بالنسبة للموت، مع أن الموت حتم لازم، تحقيقاً لا تعليقاً؛ لماذا؟ لأنه من خلال استقراء النواميس الإلاهية لاحظ ذلك، وإنه أعجبني مقطع في كتاب نفيس جميل اسمه "صناعة الحياة" أحببت أن أشرككم معي في هذا المقطع الجميل، يقول فيه: علينا كمؤمنين، أن ننتظر ساعة يتضح فيها من يكذب ولا بد، ننتظرها كما ننتظر أي حدث مادي، كشروق الشمس أو نـزول المطر إذا أغلقت السماء، ومن الموازين: ((إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ))[يونس:81] وقريب منه ميزان: ((وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ))[يوسف:52] وأن الخطيئة الأولى تجلب خطيئة ثانية، والثانية تجلب ثالثة عقوبة من الله، حتى يغلق القلب على ظلمة. وبعكس هذه الموازين: التوفيق الذي يحيط المهتدي والصادق، وفق ميزان: ((وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ))[محمد:17] وأمثاله. يقول: وكل هذه الموازين نتداولها، وكأننا ننتظر الآخرة؛ ليحيق المكر السيئ بأهلة ويثاب المؤمن، وهذا جزء من الحق، يعني: ما ننتظره في الآخرة هذا حق وجزؤه الآخر، هو الاعتقاد بأن الحياة البشرية الدنيا محكومة بهذه الموازين جزماً، ولكن لا يرى البعض آثارها.
لأنها لا تظهر دائماً بسرعة، بل قد تمتد لفترة زمنية لتظهر، فينسى الربط بين الفعل أو العقوبة والثواب، مع اعتقادنا بأن العقوبة قد تأتي في نفس اللحظة أحياناً، مثل مئات القصص، يرويها الثقات على مدى الأجيال، عن شاهد زور حلف بالقرآن أمام القضاء كاذباً فعمي فوراً، هذا قد يحدث لكن ليس من الضروري أن يحدث دائماً شاهد زور حلف بالقرآن أمام القضاء كاذباً فعمي فوراً أو مغتاب يغتاب فيكوى لسانه بلقمة حارة فوراً يعني إنسان يقع في غيبة ويأكل الطعام فمباشرة تأتي لقمة حارة يكوي الله بها لسانه عقوبة عاجلة، لكن العقوبة العاجلة ليس من الضرورة أن تأتي في لحظة، قد تأتي في عشر سنين، أو مائة سنة أحياناً وأشباه ذلك. يقول فدراسة آثار موازين الإيمان على فترة ممتدة وأجيال، ترينا بوضوح نتائج مشخصة مرئية، يؤول فيها أمر أهل الباطل إلى تراجع، وأمر أهل الحق إلى تمكين، وفي القرآن الكريم شواهد، وفي كتب التاريخ وفي مرويات المعمرين، ولـمحمود شيت خطاب، وهو مسلم وافر الصدق، كتاب عنوانه "عدالة السماء" هذه قصص صغيرة يباع في الأسواق يروي فيه بعض قصص مدارها على هذه الموازين.
-ذكر بعض هذه القصص- ثم قال: وحدثني ثقة قال: إن جندياً تركياً -هذا لمؤلف الكتاب- انخزل عن وحدته، يوم انسحاب الجيش العثماني من بغداد، أمام ضغط الجيش البريطاني، يقول: ووقف هذا الجندي بباب جامع أبي حنيفة في بغداد، فجاء شقي سلبه، ثم قتله بظلم في وقفته بالباب، يقول: وبعد عشرين سنة تشاجر هذا الشقي مع آخر، فطعن فهام على وجهه من حرارة الطعنة لا يدري ما يفعل، وظل يهرول بلا وعي مئات الأمتار، حتى وصل باب الجامع، فخر ميتاً في نفس الموضع الذي قتل فيه التركي البريء، ولو أنا فتحنا مثل هذا الموضوع في مجلس المعمرين في الحضر أو البدو، وفي بلاد العرب أو الهند أو الصين، لأقسموا لنا على صدق عشرات من مثل هذه القصص رأوها بأنفسهم رأي العين.
ومن أعجب الأمور -ولا زال الكلام لمؤلف الكتاب محمد بن أحمد الراشد-: أن العقوبة قد لا تظهر في الفاعل، وإنما تظهر في ولده لحكمة ربانية، يقول: فقد حدثني أحمد جمال الحريري رحمه الله، وهو مطوف بـمكة، قال: يا بني، كلنا قد استهجن سحل جثة الأمير العراقي عبد الإله بن علي، صبيحة ثورة أربعة عشر تموز بـبغداد، ولكن هل تظن أن ذلك جاء من غير مقدمة؟ قال: لقد رأيت أباه علياً صبيحة التاسع من شعبان بـمكة، يوم أعلنت الثورة العربية التي قادها لورانس، قال: رأيته يصعد إلى قلعة مكة، التي ما زالت شاخصة حتى الآن، فأعطى الحامية العثمانية أماناً إذا سلمت بغير قتال، فسلموا ونـزلوا آنذاك بالأمان، وكرهوا القتال بـمكة، قال: فأطلق سراح الجنود، وكانوا أربعمائة، ووضع الحبال في أرجل ستة عشر ضابطاً، وسحلهم أتباعه وهم أحياء، سحلوهم، يعني: جروهم بالسيارات وضعوهم بالحبال وجروهم بالسيارات على الأسفلت أو غيره وهم أحياء، والغوغاء تركض وراءهم، فماتوا بعد بضع مئات أمتار، واستمروا يسحلونهم حتى بلغوا البطحاء التي بين مكة ومنى، فعلقوهم على الأشجار أمواتاً، قال وكل ذلك رأيته بعيني، وما أظن الذي حدث لولده إلا عقوبة مثلية لتلك السيئة.
وبمقابل هذا، هل رأيت أحداً سار على سنن العدل، ثم ساءت أموره؟ لم نرَ ذلك في فرد أو حكومة قط، وكم من رهط مؤمن عجز عن دفع ظلم يقع عليه، فينجيه الله تعالى ويبطش بالظالم تصديقاً لميزان: ((إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا))[الحج:38] وهلاك الأمم حين يشيع المنكر، وتنتشر المعاصي، يشاهده المرء في المدن الخربة، ومدينة بومبي الفاسقة بجنوب إيطاليا، محفوظة من يوم أهلكها بركان فيزو، قبل ألفي سنة.
يقول المؤلف: وقد تجولت فيها، ورأيت دنان الخمور، وصور النساء العرايا كأنها رسمت أمس، وهل ما حدث للكويت من هزة اقتصادية بسبب سوق المناخ، بعيد عن معنى عقوبة بلد شاع بين أهلها الربا، ورضي معظمهم بيع الغرر التحايلي الذي كان بالمناخ.
هذا كلام المصنف، ولو كان كتب الكتاب بعد حادثة الكويت الأخيرة، لأشار إليها، باعتبارها نموذجاً آخر من نماذج العقوبات الإلهية، التي تجري وفق هذه السنن. إذاً في الإسلام أول دليل نستقرئ من خلاله المستقبل: السنن الإلهية.
الدليل الثاني: الرؤيا الصالحة وهي كثير، وأكثر ما تقع في آخر الزمان، إذا تقارب الزمان لم تكد رؤيا المؤمن تكذب، ولذلك تجدون كثيراً من الصالحين، رأوا مرائي كثيرة في مثل هذه الأوقات، وقد حدثني قريب لي البارحة قال لي: مات فلان قريبي فقلت: سبحان الله! ما علمت بذلك. قال: مات منذ ما يزيد على شهرين، وفي مرض موته يقول: إنه أفاق من غيبوبة ألمت به، فقال لأحد إخوانه: لقد رأيت دخاناً أقبل على المسلمين من قبل العراق، وأخشى أن ينـزل بالمسلمين فتنة، وذكر بقية الرؤيا.
المهم أن الناس كثيراً ما يشاهدون الرؤيا الصالحة، ويستقرئون من خلالها بعض ما كتبه الله تعالى، من ذلك: الفراسة.
وحديث (اتقوا فراسة المؤمن، فإنه يرى بنور الله) لا يصح، لكن هناك أشياء كثيرة تصدق فيها فراسة الإنسان العاقل، الخبير الورع التقي، فيصدق ما توقعه، هناك حديث النفس أو الإلهام، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم: (إن كان في أمتي محدثون أو ملهمون فـعمر).
وقد يلهم الإنسان أحياناً كلمة فتصيب، وقد حدثني -أيضاً- رجل عن بعض الكبراء، أنه سيحدث له كذا وكذا وكذا، ظناً منه، لا رجماً بالغيب، لكن يقول: والله أعلم، فصدق ما ظنه هذا الإنسان. من ذلك الفأل الحسن، ومن ذلك الدعاء المستجاب.
إذاً قضية الاهتمام بموضوع المستقبل، قضية فطرية وشرعية، والشرع أقرها. لكن رسم لها الطريق الصحيح.
الاهتمام بالمستقبل -أيها الأحبة- يقتضي ضرورة الاهتمام بالحاضر، فإن المستقبل امتداد للحاضر، والأمة التي لا تعي حاضرها ومخاطره، وما يخطط لها، ولا تدرك المؤامرات التي تحاك ضدها، هي أمة لا يمكن أن تدرك مستقبلها، أيضا ما دامت على تلك الحالة، بل إنني أقول: إن الاهتمام بالمستقبل -كما يقتضي الاهتمام بالحاضر- يقتضي الاهتمام بالماضي أيضاً، بالتاريخ، فإن كل أمة إذا أرادت أن تستأنف مسيرتها، لا بد أن ترجع إلى ماضيها، كما قال الأول:
استرشد الغرب بالماضي فأرشده ونحن كان لنا ماضٍ نسيناه
التاريخ -أيها الأحبة- ليس مجرد قصص تسرد ويتلهى بها الناس، لا، وليس مجرد أخبار للمتعة، كلا! وإنما هو توجيه وإرشاد، ولذلك قالوا: التاريخ يعيد نفسه. أي قضية أو مشكلة أو كارثة تقع في أمة من الأمم، لو قلبت أوراق الماضي والتاريخ، لوجدت حالات مشابهة كثيرة، وسوف أذكر لكم خلال الدرس إن شاء الله شيئاً من ذلك، ولهذا يقول أحمد شوقي:
مثل القوم نسوا تاريخهم كلقيط عي في الناس انتساباً
يعني: الإنسان الذي ليس له تاريخ، أو نسي تاريخه، مثل الإنسان الذي ليس له أب، لقيط ليس له أب، فمن خلال التاريخ، نستطيع أن نعرف كيف تنهض الأمة، وكيف تقوم من رقادها، وكيف تسترد صحتها وعافيتها.
أولاً: العداوة-يا أحباب- راسخة لا حيلة فيها، سنة ماضية، ليس هناك أحد في الدنيا ليس له أعداء، يقول الله عز وجل: ((وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً))[الفرقان:31]، ((وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً))[الأنعام:112] الله عز وجل له أعداء! اسمع! يقول: ((وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ))[الأنفال:60]، وفيما يتعلق بقصة موسى ((فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ))[طه:39]، عدو لله عز وجل ((مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ))[البقرة:98]، ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ))[الممتحنة:1]، ((وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ))[فصلت:19]، ((ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ))[فصلت:28].
إذاً الله تعالى له أعداء، وكل إنسان له أعداء، المسلم له أعداء، والكافر له أعداء، والطيب والخبيث، والتقي والفاجر والمنافق، واليهودي، والنصراني، والغبي والذكي، كل الناس له أعداء ما هناك أحد إلا وله أعداء.
وأعني بالمشركين، أولاً: عبدة الأوثان. فهم أعداء، بل هم من أشد الناس عداوة، كما في الآية السابقة ((الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا))[المائدة:82] ويدخل في المشركين الشيوعيون الملحدون، فإنهم من أشد الناس عداوة للذين آمنوا.
عداوة الشيوعيين للدين راسخة، وإذا هادنوا الدين في وقت من الأوقات، فإنما هي هدنة مؤقتة، ولذلك نعرف كيف فعلت الأنظمة الشيوعية التي حكمت، كيف فعلت بالمسلمين، كيف صنع النظام الشيوعي في روسيا الثورة البلشفية كما يقال بالمسلمين؟ لقد قتلت من المسلمين عشرات الملايين في الولايات الإسلامية، وفي عام واحد قتلوا ما يزيد على ثلاثة ملايين مسلم في جمهورياتهم، ألبانيا، بلغاريا، أفغانستان، وهي أقرب مثال كيف صنعوا بالمسلمين وفي عدن وفي سواها.
الشيوعية عداوتها للإسلام عداوة راسخة لا تراجع عنها، ولا تردد، فيها وإن هادنوا الدين وقتاً من الأوقات أو أعطوه بعض الفرصة، فإنما هذا مجرد تورية أو، استراتيجية أو خطة مؤقتة، وبعد ذلك يعودون إلى عداوتهم للإسلام.
الصنف الثالث من أعداء الدين: النصارى:
وهم أولياء لليهود وحلفاء تاريخيون لهم، يقول الله عز وجل: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ))[المائدة:51] إذاً اليهود حلفاء للنصارى وأولياء لهم والنصارى حلفاء لليهود وأولياء لهم، وهذه عداوة تاريخية، وبينهم حلف لا ينقطع.
وليس غريباً ما نرى من تصارع هو البغي لكن بالأسامي تعددا
وأصبح أحزاباً تناحر بينها وتبدو بوجه الحق صفاً موحدا
فـاليهود والنصارى حلفاء تاريخيون، والمثل القائم الآن إسرائيل دولة اليهود، فإنها قامت بوعد من النصارى ودعم منهم، وجهود الغرب الصليبي في دعم إسرائيل بالمال والصناعة والعلم والتقنية والتمكين والسياسة لا تخفى، فهم يدعمونها دعماً سياسياً وعسكرياً ومادياً هائلاً رهيباً لا ينقطع، أما الشرق الشيوعي الملحد، فجهوده أيضاً في دعم إسرائيل لا تخفى، فإنه يدعمها بالطاقة البشرية، وما أخبار الهجرات اليهودية المتتالية من روسيا إلى إسرائيل، والتي تتم الآن أعظم وأكبر هجرة لمئات الألوف من روسيا إلى إسرائيل، إلا نموذج لدعم الشيوعية لليهود. إذاً الشيوعيون والنصارى واليهود، يتحالفون جميعاً ضد الإسلام.
الصنف الرابع من أعداء الإسلام هم: المنافقون:
والمنافقون عداوتهم من داخل الصف، ولذلك قال الله عز وجل: ((هُمُ الْعَدُوُّ))[المنافقون:4] يعني: هم من أشد الناس عداوة وأفتك الناس، لأنه يصعب الحذر منهم بسبب أنهم مندسون في داخل المسلمين.
من المنافقين الرافضة -مثلاً- وسائر الفرق الباطنية، فإنهم يتظاهرون بالإسلام، ويبطنون الكيد له على الخفية، وهم مع كل عدو ضد الإسلام، وأخبارهم في إدخال التتر للمسلمين أخبار معروفة.
العلمانيون الذين يريدون فصل الدين عن الحياة، فصل الدين عن السياسة، عن الحكم، عن التعليم، عن الإعلام، عن الأخلاق، عن أمور الاجتماع، وجعل الدين معزولاً في زاوية أو مسجد أو رباط، هؤلاء العلمانيون هم من المنافقين، لأنهم إذا كانوا من المتسمين بالإسلام يتظاهرون بالدين وأسماؤهم: محمد وأحمد وصالح وعلي وكذا وكذا، ولكن حقيقتهم أنهم يكيدون للإسلام وأهله.
من الأعداء المنافقين الذين يتسترون بأسماء مذاهب منحرفة، كـالحداثة أو اليسار أو القومية أو غيرها، ويعتبرون هذا وعاءً للأدب والشعر، والقصة والفن، ولكنهم ينفثون سمومهم من خلال هذه القوالب، التي استغلوها أبشع استغلال، وصاروا لا يستطيعون أن يصرحوا بأنهم مثل أعداء للدين، أو مناوئين أو شيوعيين، فيأتون بأسماء لطيفة مثل: اليسار، أو الحداثة، أو العلمانية، -كما ذكرت- أو القومية أو غيرها من الأسماء البراقة، التي تخفي وراءها عداءً للإسلام مستحكماً.
الخطة الأولى، أشرت إلى شيء منها، وهي: قضية التحالف ضد الإسلام، فهذه الأسماء وهذه الجهات المختلفة، قد يكون فيما بينها عداوات أحياناً، ولكن حينما يبرز الإسلام كعدو لها، فإنها توحد صفوفها لتواجه الإسلام وتحاربه.
الخطة الثانية: إظهار الإسلام رغبة في الوصول إلى المآرب، بحيث أنهم يطبقون الخطة التي كان يقولها بعض أهل الكتاب: ((وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ))[آل عمران:72-73] أحياناً يهود أو نصارى يعلنون أنهم أسلموا، بغرض التغلغل والدخول إلى المسلمين وذر الرماد في العيون، والأمثلة من ذلك كثيرة.
مثلاً: عبد الله بن أبي ابن سلول هذا يهودي، أظهر الإسلام وهو باقٍ على كفره ونفاقه، من أجل أن يكيد للمسلمين. مثل آخر: عبد الله بن سبأ المشهور بـابن السوداء، كان يهودياً من أهل صنعاء، فأظهر الإسلام حتى يكيد للإسلام، وهو باقٍ في حقيقة الأمر على يهوديته.
التتر كانوا وثنيين متوحشين لا دين لهم، لكن لما جاءوا إلى بلاد المسلمين واختلطوا بالمسلمين، أعلن بعضهم الدخول في الإسلام، وقد يكون بعضهم دخل في الإسلام حقيقة، لكن كثير منهم أعلن الدخول في الإسلام حتى يطمئن المسلمون ويهدءوا، ولذلك لما جاء التتر تردد كثير من المسلمين بعد ما أسلموا، وقالوا: كيف نقاتلهم وهم يقولون: لا إله إلا الله، ومعهم قضاة ومؤذنون وأئمة، ويحملون القرآن، وكذا وكذا ويعلنون الأذان ويصلون كيف نقاتلهم؟ فقام شيخ الإسلام ابن تيمية، وحسم الجدل بفتواه الشهيرة الموجودة في مجموع الفتاوى، والتي بين فيها أن هؤلاء التتر يجب أن يقاتلوا ويقتلوا.
حتى إنه -رحمه الله- كان يقول للمسلمين: لو رأيتموني في ذلك المعسكر -يعني: معسكر التتار- وعلى رأسي عمامة، وفي يدي مصحف، فاقتلوني.
إذاً لا ينفع هؤلاء أن يتظاهروا بالإسلام؛ لأنهم يحاربون المسلمين ويقاتلونهم؛ طمعاً في دنياهم، وهم يحكمون غير شريعة الله عز وجل، لأنهم كانوا يحكمون بما يسمى "الياسق"، وهو نظام قانوني كافر، فيه من الإسلام؛ ومن اليهودية، ومن النصرانية، ومن آراء الناس وأقوالهم وظنونهم الشيء الكثير، وكانوا يحكمون به ويسمونه "الياسق".
حتى يقال: نابليون لما جاء إلى مصر في حملته الشهيرة، أعلن الإسلام حتى يهدأ الناس، وكان يخاطب الناس -أحياناً- بالخطابات، من عبد الله نابليون إلى من يراه من إخواننا المسلمين. ويكتب لهم خطابات وهو كافر عنيد، لكن يضحك على عقول السذج بذلك فترة من الزمن، وكثير من الجواسيس تسللوا إلى المسلمين، وكانوا يعلنون إسلامهم حتى يقبلهم الناس، وينتشرون في أوساطهم دون أن يكون هناك تحفظ عليهم، هذه بعض خطط الأعداء.
إذاً الأعداء يكيدون ويتآمرون ويخططون، لكن مع ذلك نحن نقول بملء أفواهنا، وكل قلوبنا ثقة وطمأنينة، نقول: المستقبل للإسلام. وإليك الدليل، والأدلة كثيرة جداً، ولذلك اسمحوا لي إذا عرضتها عليكم بسرعة؛ لأنني كما ذكرت لكم في درس سابق أود أن ننتهي من الموضوع في هذه الجلسة وفيها أشياء مفيدة ولله الحمد أريد أن تسمعوها في هذه الليلة إن شاء الله فسأختصر بقدر المستطاع الأدلة الشرعية.
أولاً: الأدلة من القرآن: ((يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ))[التوبة:23] ((هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ))[التوبة:33] لاحظ هذه الآية ((عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ))[التوبة:33] ولذلك قال الإمام الشافعي رحمه الله: ليظهرن الله دينه على الأديان كلها، حتى لا يدان لله إلا به وذلك متى شاء الله.
إذاً ظاهر الآية يدل على أن الإسلام سوف يظهر على الأديان كلها، ويأتي وقت لا يدان فيه إلا بالإسلام، لا يعبد فيه إلا الله عز وجل.
ثانياً: ((بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ))[الأنبياء:18] فذكر الله عز وجل أن الحق إذا ظهر، قذف الله به على الباطل، فأزاله ودمغه يعني أصابه في دماغه، فزهق ومات: ((أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً))[إبراهيم:24] هي كلمة التوحيد لا إله إلا الله: ((كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا))[إبراهيم:24-25].
إذاً في كل أمة وفي كل جيل وفي كل زمن، يظهر الحاملون لكلمة لا إله إلا الله، يقاتلون في سبيل الله، يدعون إلى الله عز وجل، يعلمون الناس العلم والشرع والدين، ويذمون تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين: ((كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ *وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ))[إبراهيم:24-26] كلمة الكفر والظلال: ((كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ))[إبراهيم:26].
ولذلك قيل: دولة الباطل ساعة، ودولة الحق إلى قيام الساعة.
رابعاً: ((فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ))[الرعد:17] وهذا مثل ضربه الله للحق والباطل، كما ذكر في أول الآية، فالزبد مثال للباطل مجرد هواء، فقاعات من الهواء تزول بسرعة تذهب، أما ما ينفع الناس، وهو العلم والعمل والدين والصلاح، فيمكث في الأرض ويبقى، فهو مثل المطر.
خامساً: ((إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ))[الأعراف:128] هذا كلام موسى لقومه: ((إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ))[الأعراف:128] يعني: في الدنيا والآخرة للمتقين.
أما النوع الثاني من الأدلة الشرعية فهو: الأدلة من الحديث النبوي، والأدلة من الحديث النبوي أيضاً كثيرة جداً لكن أذكر طائفة منها:
عن ثوبان رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تعالى زوى لي الأرض -يعني: صغرها وقربها- فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن ملك أمتي سيبلغ ما زوى لي منها) إذن ملك هذه الأمة سيبلغ مشارق الأرض ومغاربها.
ثانياً: عن تميم الداري رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار) يعني أن كل مكان في الدنيا يمر عليه الليل والنهار، سوف يبلغه الإسلام، وهل تحقق هذا الوعد الآن؟ كلا! لم يتحقق بعد حتى الآن، صحيح أن الإسلام بلغ بلاداً كثيرة، لكن هناك بلاد فيها الليل والنهار، ومع ذلك لم يصل إليها الإسلام لم يبلغها الإسلام.
إذاً لازال الوعد النبوي هذا قائماً أن يبلغ هذا الدين ما بلغ الليل والنهار، اسمع الحديث: (ولا يترك الله تعالى بيت مدر ولا وبر، إلا أدخله الله هذا الدين) كل بيت يدخل هذا الدين (بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل به الكفر) إذاً الحديث وعد نبوي صريح، أن الله عز وجل سوف يوصل الإسلام إلى كل نقطة في الدنيا، وكل بيت يدخله الإسلام، فيسلم كل أهله أو بعض أهله. ما بقى إلا أن تتعقب هل هذا الحديث صحيح أم لا
الحديث صحيح، رواه أحمد والطبراني وابن منده والحاكم والبيهقي، وقال الحاكم: الحديث صحيح على شرط البخاري ومسلم، ووافقه الذهبي، وقال المقدسي: هذا حديث حسن صحيح، وهو كما قالوا. إذاً الحديث صحيح والوعد صريح.
ثالثاً: عن أبي قبيل قال: كنا عند عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه، فسئل: أي المدينتين تفتح أولاً القسطنطينية أم رومية؟ يعني السائل كان مستقراً عنده من خبر نبوي آخر، أن الله عز وجل سوف يفتح للمسلمين مدينة القسطنطينية، وكذلك سوف يفتح لهم روما، لكن المشكلة التي ثارت في نفس السائل، الذي يسأل عبد الله بن عمرو بن العاص، أيهما تفتح أولاً القسطنطينية أم روما؟ فدعا عبد الله بن عمرو بن العاص بصندوق له حلق، فأخرج منه كتاباً ثم قال: (بينما نحن حول رسول الله صلى الله عليه وسلم نكتب، إذ سئل: أي المدينتين تفتح أولاً القسطنطينية أم رومية؟ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: مدينة هرقل تفتح أولاً )، مدينة هرقل هي القسطنطينية.
الحديث صحيح رواه أحمد والدارمي والحاكم، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي وهو كما قالا.
القسطنطينية متى فتحت فتحت عام ثمان مائة وسبع وخمسين للهجرة، على يد السلطان العثماني محمد الفاتح. هذه القسطنطينية فتحت الفتح الأول، أمَّا روما فلم تفتح حتى اليوم، لم يدخلها الفتح الإسلامي، لا تزال عاصمة الكاثوليكية، عاصمة النصارى، روما وفيها الفاتيكان.
إذاً روما ما دخلها الإسلام حتى الآن، والوعد النبوي ما يزال قائماً، ومن الطريف والعجيب، يذكر بعض المؤرخين أن المسلمين لما فتحوا بلاد الأندلس، هجموا على فرنسا هجمة شرسة قوية، ولو انتصروا في تلك المعركة المشهورة بمعركة تور بواتييه التي يسميها المسلمون -معركة بلاط الشهداء لكثرة من قتل فيها من المسلمين- لو انتصروا في تلك المعركة، لفتحوا أوروبا كلها ودخلوا إلى روما، لكن وعد الله عز وجل: لا، ما تدخلوا روما حتى تدخلوا القسطنطينية.
إذاً هذا وعد الله عز وجل عالم الغيب والشهادة، إذاً ينهزم المسلمون في بلاط الشهداء، ويتحقق وعد الله عز وجل، أن تفتح القسطنطينية بعد ذلك على يد محمد الفاتح، ويبقى الوعد بفتح روما لم يتحقق حتى الآن، وإنه لخبر يقين ((وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ))[ص:88].
رابعاً: من الأحاديث: أحاديث الطائفة المنصورة، وهي أحاديث متواترة أنه: (لا تزال طائفة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم على الحق إلى قيام الساعة، يقاتلون في سبيل الله).
خامساً: أحاديث بقاء الجهاد إلى قيام الساعة، وهي كثيرة أذكر منها فقط الحديث المشهور، بل المتواتر، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة، الأجر والمغنم) والحديث متواتر، وفيه أن الله عز وجل سوف يبقي الجهاد إلى يوم القيامة، كما قال الإمام أحمد والبخاري: فقه الحديث: أن الجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة.
سادساً: حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مثل أمتي مثل المطر، لا يدرى أوله خير أم آخره) والحديث صحيح رواه أحمد وابن حبان وأبو يعلى، وله شاهد من حديث عمار بن ياسر عند أحمد وغيره، والحديث كما ذكرت صحيح.
سابعاً: حديث المجدد: (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة، من يجدد لها دينها) رواه أحمد وأبو داود وغيرهم، من حديث أبي هريرة، وقد أجمع العلماء على أنه حديث صحيح.
ثامناً: حديث أبي هريرة الذي رواه مسلم، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون، حتى يختبئ اليهودي وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر والشجر: يا مسلم، يا عبد الله، هذا يهودي ورائي، تعال فاقتله، قال صلى الله عليه وسلم: إلا شجر الغرقد فإنه من شجر اليهود) والحديث رواه مسلم والبخاري وغيرهما.
وهذا حديث عجيب، اليهود الآن يتجمعون في فلسطين، والعجيب أنهم يغرسون شجر الغرقد في إسرائيل، مصداقاً لما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم.
نقل بعض الكتاب المعاصرين رواية للحديث، من أعجب العجب، يقول هذا الكاتب: في كتاب: الإسلام ومستقبل البشرية (صفحة:46) يقول: في رواية للبزار عن هذا الحديث، نقلها الهيثمي في مجمع الزوائد (ج/7) ورجالها ثقات رجال الصحيح، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تقاتلون اليهود أنتم شرقي الأردن وهم غربيه) ويعقب راوي الحديث ويقول: [ولم نكن نعرف أين الأردن يوم ذاك] فإذا صحت هذه الرواية الأخيرة، وقد بحثت عنها في المجمع، ولم يتيسر لي الوقوف عليها، وبحثت عنها في عدة مصادر، تعبت وراءها وكنت سمعتها منذ زمن طويل، لم يتيسر لي رؤيتها في الكتب المعتمدة.
المهم حدد الرسول صلى الله عليه وسلم حتى لو كان الحديث ضعيفاً، فإنه يعتضد بالواقع، أنتم شرقي الأردن وهم غربيه، إذاً اليهود يتجمعون الآن، ليوم الملحمة الذي يبيد المسلمون فيه خبرهم.
تاسعاً: أحاديث الملاحم، وهي كثيرة في قتال المسلمين للروم في الشام وغيرها، وفتحهم للقسطنطينية بالتكبير إلى غير ذلك، إذاً هذه هي الأدلة الشرعية، من أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم، أو هذا شيء منها.
النوع الثالث من الأدلة هي: الأدلة التاريخية، مثلا خلاصة كلامي أو قصدي بالأدلة التاريخية: أننا تعلمنا أن الله عز وجل كلما ادلهمت الخطوب على هذه الأمة كتب لها الفرج، وهذه حقيقة تاريخية أو سنة إلاهية، مثلا لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم يوم الهجرة، لحق به المشركون وتابعوه، وكان صلى الله عليه وسلم وحيداً طريداً فريداً، فلحق به سراقة بن مالك بن جعشم -والرواية أصلا في الصحيح- وساخت قوائم فرسه في الأرض.
المهم في رواية ذكرها الحسن البصري، أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لـسراقة بن مالك: (كيف بك يا سراقة، إذا لبست سواري كسرى) الآن الرسول عليه السلام وحيد، ما معه إلا أبو بكر، وخارج من بلده، لا مال ولا أتباع ولا أصحاب ولا شيء، ومع ذلك يعد سراقة بن مالك -وكان كافراً يوم ذاك- يقول له: (كيف بك يا سراقة، إذا لبست سواري كسرى) قال: فلما أتي عمر بسواري كسرى ومنطقته وتاجه، دعا سراقة فألبسه إياه. وكان سراقة كثير الشعر في الساعدين، فقال: [ارفع يديك، وقل: الله أكبر، الحمد لله الذي سلبهما كسرى بن هرمز والبسهما سراقة الأعرابي] والحديث له طرق أخرى، أشار الإمام الحافظ ابن حجر في الإصابة إلى شيء منها.
مثل آخر، يؤكد لنا أن الأمة تتمرد على القيود، والسدود والحدود والأغلال، وكلما ادلهمت الخطوب جاء الله تعالى بالفرج من عنده: الأحزاب: ((إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً))[الأحزاب:10-11] في غزوة الأحزاب، الأعداء من فوقكم ومن أسفل منكم، ومن كل جهة، تحالف اليهود من الداخل مع المشركين من الخارج، ونجم النفاق، وضعف المؤمنون ضعفاً شديداً.
ومع ذلك اسمع هذه الرواية العجيبة، التي نقلتها من مسند أحمد وأصلها في البخاري ومسلم عن البراء بن عازب رضي الله عنه، قال: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق، فعرض لنا صخرة في مكان من الخندق، لا تأخذ فيها المعاول -عجزوا عنها- قال: فشكوناها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء فقال: أحسبه قال: ووضع ثوبه، ثم هبط إلى الصخرة، فأخذ المعول، فقال: بسم الله. فضرب ضربة فكسرت ثلث الحجر، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: الله أكبر، أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأبصر قصورها الحمر من مكاني هذا) قصور الشام يراها من أثر ضربة المعول وهو في مكانه ذاك.
ثم قال صلى الله عليه وسلم: (بسم الله، وضرب ضربة أخرى فكسرت ثلث الحجر، فقال: الله أكبر، أعطيت مفاتيح فارس، والله إني لأبصر المدائن، وأبصر قصرها الأبيض من مكاني هذا.ثم ضرب صلى الله عليه وسلم ضربة ثالثة، وقال: بسم الله، فكسر بقية الحجر وقلعه، وقال: الله أكبر، أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني هذا) والحديث قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: إسناده حسن، وهو كما قال.
إذاً في شدة الأزمة، اليهود والمنافقون من الداخل، والمشركون من الخارج، مع ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم يقول للصحابة: الآن أعطيت كنوز كسرى وقيصر والمدائن، وغيرها من بلاد الروم والفرس وسواها.
في قضية التتر، لما جاء التتر إلى بلاد المسلمين حصلت حادثة عظيمة، وانتشر الكلام والمشكلات، وتكلم في ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية تكلم في الفتاوى بكلام أدعوكم جميعاً إلى مراجعته، في (ج:28/440) وما بعدها.
كلام-والله يا إخواني- في غاية العجب، ومن خلال ذلك الكلام اكتشفنا ما هو الكلام الذي كان يجب أن يقال للناس في مثل هذه الأوقات، حتى يُطمئن قلوبهم، ويرسم أمامهم السبيل، ويزيل ما في نفوسهم من الخوف والهلع. ويؤسفني أن أقول: لم يقم من بيننا -نحن طلبة العلم فيما أعلم- من قال مثل هذا الكلام الجزل القوي المتين الواثق الذي قاله شيخ الإسلام، كلام طويل يمتد من ص (440-467) لا أستطيع أن أقرأ عليكم منه إلا نتفاً يسيرة، يقارن فيها ابن تيمية حال التتار لما غزوا الشام، مع حال الأحزاب لما غزوا المدينة.
ذكر تحزب الأحزاب على الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم قال: وفي هذه الحادثة -يعني: مجيء التتار إلى الشام- تحزب هذا العدو من مغول وغيرهم، من أنواع الترك، ومن فرس ومستعربة، ونحوهم من أجناد المرتدة، ومن نصارى الأرمن وغيرهم، ونـزل هذا العدو بجانب ديار المسلمين، وهو بين الإقدام والإحجام، مع قلة من بإزائهم من المسلمين، ومقصودهم الاستيلاء على الدار ... أهلها، كما نـزل أولئك بنواحي المدينة بإزاء المسلمين.
ودام الحصار على المسلمين عام الخندق على ما قيل: بضعاً وعشرين ليلة، وقيل: عشرين ليلة، وهذا العدو -يعني: التتر- عبر الفرات سابع عشر ربيع الآخر، وكان أول انصرافه راجعاً عن حلب، لما رجع مقدمهم الأكبر "قازان" بمن معه يوم الإثنين، حادي أو ثاني عشر جمادى الأولى، يوم دخل العسكر عسكر المسلمين إلى مصر المحروسة، واجتمع بهم الداعي، وخاطبهم في هذه القضية، وكان الله سبحانه وتعالى لما ألقى في قلوب المؤمنين ما ألقى من الاهتمام والعزم، ألقى في قلوب عدوهم الروع والانصراف.
يقول: وكان عام الخندق عام برد شديد وريح شديدة منكرة، بها صرف الله الأحزاب عن المدينة، كما قال تعالى: ((فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا))[الأحزاب:9] يقول: وهكذا هذا العام، يعني: الذي وقع فيه غزو التتر، وابن تيمية كان يتكلم واللحظات قائمة وموجودة، يعني: في الحال؛ لأنه قال في آخر الكلام: كتبت هذا الكتاب بعد رحيل قازان وجنوده، لما رجعت من مصر، في جمادى الآخرة وأشاعوا أنه لم يبق منهم أحد... إلى آخر الكلام.
المهم يقول: وهكذا هذا العام أكثر الله تعالى فيه الثلج والمطر والبرد على خلاف العادة، حتى كره أكثر الناس -يعني: من المسلمين- ذلك، وكنا نقول لهم: لا تكرهوا ذلك، فإن لله فيه حكمة ورحمة، وكان ذلك من أعظم الأسباب التي صرف الله به العدو، فإنه كثر عليهم الثلج والمطر والبرد، حتى هلك من خيلهم ما شاء الله، وهلك منهم أيضاً ما شاء الله، وظهر فيهم وفي بقية خيلهم، من الضعف والعجز بسبب البرد والجوع، ما رأوا أنهم لا طاقة لهم معه بقتال، وحتى علموا أنهم كانوا صيداً للمسلمين لو يصطادونهم، ولكن في تأخير الله اصطيادهم حكمة عظيمة.
يقول: وقال الله تعالى في شأن الأحزاب: ((إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا))[الأحزاب:10] يقول: وهكذا هذا العام، جاء العدو من ناحيتي علو الشام، وهو شمال الفرات وهو قبلي الفرات، فزاغت الأبصار زيغاً عظيماً، وبلغت القلوب الحناجر؛ لعظم البلاء، لا سيما لما استفاض الخبر بانصراف العسكر إلى مصر -يعني: رجوع عساكر المصريين- وتقرب العدو وتوجهه إلى دمشق، وظن الناس بالله الظنونا.
قارنوا كلام ابن تيمية -أيها الإخوان- بواقعنا اليوم، سواء من طلاب العلم أو من عامة الناس، يقول: وظن الناس بالله الظنونا، هذا يظن أنه لا يقف قدامهم أحد من جند الشام، حتى يصطلموا أهل الشام وهذا يظن أنهم لو وقفوا لكسروهم كسراً، وأحاطوا بهم إحاطة الهالة بالقمر، وهذا يظن أن أرض الشام ما بقيت تسكن.
تصوروا نفس الكلام قيل لما جاء الكلام في هذا العصر عن قضية الغازات السامة والأسلحة الكيماوية، وتوهم كثير من الناس أن هذه الأشياء تتلف الأرض وتهلكها، وما بقيت تسكن بعد اليوم، هكذا تصوروا نفس الكلام قاله السابقون في القرن السادس، والسابع لما جاء التتر إلى دمشق.
يقول ابن تيمية: وهذا يظن أن أرض الشام ما بقيت تسكن، ولا بقيت تقوم تحت مملكة الإسلام، وهذا يظن أنهم يأخذونها، ثم يذهبون إلى مصر، فيستولون عليها فلا يقف قدامهم أحد، سبحان الله! أقول: ما أشبه الليلة بالبارحة، يعني تصور من الناس من تصور أن التتر سيل كاسح، سوف يجتاح الشام، وإذا انتهى منها انتقل إلى مصر، فلا يقف قدامهم أحد، فيحدث نفسه بالفرار إلى اليمن ونحوها، وهذا إذا أحسن ظنه، قال: إنهم يملكونها هذا العام، كما ملكوها عام هولاكو، سنة سبع وخمسين، ثم قد يخرج العسكر من مصر، فيستنقذها منهم كما خرج ذلك العام، وهذا ظن خيارهم.
وهذا يظن أن ما أخبره به أهل الآثار النبوية، وأهل التحديد والمبشرات، أنه أمان كاذبة وخرافات لاغية، وهذا قد استولى عليه الرعب والفزع، حتى يمر الظن بفؤاده مر السحاب، ليس له عقل يتفهم ولا لسان يتكلم.
وهذا قد تعارضت عنده الأمارات، وتقابلت عنده الإرادات، لاسيما وهو لا يفرق من المبشرات بين الصادق والكاذب، ولا يميز في التحديث بين المخطئ والصائب، ولا يعرف النصوص الأثرية معرفة العلماء، بل إما أن يكون جاهلاً بها وقد سمعها سماع العبر، ثم قد لا يتفطن لوجوه دلالتها الخفية، ولا يهتدي لدفع ما يتخيل أنه معارض لها في بادئ الروية.
فلذلك استولت الحيرة على من كان متسماً بالاهتداء، وتراجمت به الآراء تراجم الصبيان بالحصباء: ((هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً))[الأحزاب:11].
ثم تكلم عن المنافقين وظهورهم إلى آخر ما قال، والله كلام يا إخواني أنا لا أريد أن آخذ وقتكم بقراءته، لكنني أريد أن أقول بعد ما قرأت عليكم شيئاً منه، أن تطبقوا هذا الكلام على واقعنا، وظنوننا ومخاوفنا، والأشياء التي تعجلنا فيها في هذا الواقع، وظنون خاصتنا وعامتنا في هذا المجال، ثم أنصحكم أن ترجعوا إلى ذلك الكلام وتقرءوه قراءةً متأنية فاحصة، فإنه كلام طويل مفيد.
يقول في بعضه ص (452) يقول: وهكذا أصاب كثيراً من الناس في هذه الغزاة، صاروا يفرون من الثغر إلى المعاقل والحصون، أقول: قارن هذا بكثير من الناس، لما جاءت الأحداث هربوا، بعضهم سافروا إلى مناطق بعيدة، إلى أوروبا وغيرها، يقولون نريد البلاد التي فيها الأمان.
يقول: صاروا يفرون من الثغر إلى المعاقل والحصون، وإلى الأماكن البعيدة، كـمصر ويقولون: ما مقصودنا إلا حفظ العيال، وما يمكن إرسالهم مع غيرنا وهم يكذبون في ذلك، فقد كان يمكنهم جعلهم في حصن دمشق لو دنا العدو، كما فعل المسلمون على عهد الرسول عليه السلام، فقد كان يمكنهم إرسالهم، والمقام للجهاد، فكيف بمن فر بعد إرسال عياله؟ قال الله تعالى: ((وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيراً))[الأحزاب:14].
المهم ذكر أن كثيراً من الناس، نجم فيهم النفاق، فصاروا يهربون بأنفسهم أو أهليهم أو أموالهم، من هذا العدو الذي اجتاح أرضهم.
وهذا الكلام -كما ذكرت لكم- لا أريد أن أطيل فيه، لكن أنصحكم جميعاً بالرجوع إليه، ومقصودي من هذا الكلام: أن هذا من الأدلة التاريخية، لأن ابن تيمية رحمه الله، أثار في نفوس الناس الحمية حتى تجمعوا وتقووا، ثم خاضوا المعارك مع التتر وانتصروا عليهم، وذهب إلى مصر وحرك السلاطين والحكام، حتى لما رأى ابن تيمية في حاكم مصر نوعاً من التردد والتأخر والتراجع، قال له: كلاماً قوياً، صار ابن تيمية هو سيد الموقف، قال لحاكم مصر: لو قدر أنكم لستم حكام الشام، واستنصركم أهله وجب عليكم النصر، فكيف وأنتم حكامه وأهله، ثم قال لهم: إذا أنتم تخليتم عن الشام، فإننا -لاحظ كيف يتكلم ابن تيمية لاحظ موقف العلماء- نجعل للشام من يدافع عنه في زمن الشدة، ويستغله في زمن الأمن.
يعني: كونكم تستغلون الشام في زمن الأمن، وتأخذون الأموال، فإذا جاءت الشدة هربتم وتركتم الشام للتتر هذا ما يكون، إذا تخليتم نحن نجعل للشام حكومة مستقلة، تدافع عنه زمن الشدة وتستغله في زمن الأمن، ثم قال: ((وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ))[محمد:38] فتكلم بكلام قوي حتى حركهم، فثاروا وتحركوا وجاءوا ودافعوا عن الشام، وانتصر المسلمون في معاركهم وطردوا التتر.
نفس الكلام يقال فيما يتعلق بالصليبيين، لما جاءوا إلى بلاد المسلمين في الحملات الصليبية المتكررة، واحتلوا بعض البلاد، وأقاموا بعض الممالك، واستولوا على بعض الحصون والثغور، وخاف منهم المسلمون، حتى تحالف معهم بعض حكام دمشق وما حولها، وبعد ذلك قيض الله عز وجل لهم عماد الدين ثم صلاح الدين، وغيرهم من أمراء بني أيوب، حتى طردوهم وعادت تلك البلاد والمواقع إلى المسلمين.
إذاً هذه أدلة تاريخية، تدل على أنه كلما جاءت للمسلمين كارثة أو نكبة عظيمة، قيض الله عز وجل للمسلمين من يبعد عنهم هذه النكبة والكارثة، وينصرهم الله تعالى على يديه.
أما الأدلة الرابعة والقسم الرابع: الأدلة الواقعية أدلة من الواقع، وتشمل نوعين:
النوع الأول: انهيار الحضارة المادية الغربية، بشقيها الشرقي والغربي، فأما الشرقي أعني الشيوعية، فقد أعلنت إفلاسها وبدأت تتهاوى كأنها عقد انفرط نظامه، والكلام في موضوع انهيار الشيوعية كلام يطول، ولكنه مشهور معروف.
أما الشق الغربي، فهناك دراسات كثيرة عن الجوع الروحي، والإفلاس الأخلاقي، وارتفاع نسب الانتحار، والجرائم في أرقى بلاد العالم وأكثرها تقدماً.
هناك كتب كثيرة، هناك -مثلاً- كتاب "أمريكا كما رأيتها" لـمحمود المسلاتي، هناك: أمريكا من الداخل بمنظار سيد قطب لـصلاح الخالدي، هناك: الإنسان ذلك المجهول لـألكسيس كاريل، هناك كتب كثيرة جداً، تتكلم عن انهيار الحضارة الغربية.
يكفينا قول ماكينل، أحد المفكرين الغرب، يقول: إن الحضارة الغربية في الطور الأخير من أطوار حياتها، أشبه بالوحش الذي بلغت شراسته النهاية في انتهاكه لكل ما هو معنوي، وبلغ اعتداؤه على تراث السلف، وعلى كل مقدس محرم قمته، ثم أغاص مخالبه في أمعائه، فانتزعها وأخذ يمزقها ويلوكها بين فكيه، بمنتهى الغيظ والتشفي.
يعني: الغرب دمر العالم، ثم رجع إلى نفسه فبدأ يدمرها.
من مصائب الفراغ الروحي في الغرب ما يلي:
أولاً: الولوغ في المشروبات الكحولية.
ثانياً: الإدمان على المخدرات.
ثالثاً: الأمراض العصبية والعقلية.
رابعاً: التمرد والقلق والتدمير.
خامساً: الجرائم.
سادساً: السعار الجنسي وأمراض الجنس.
سابعاً: الانتحار.
وإليك بعض الأرقام الخفيفة: في أمريكا في الأربعينيات، عدد مدمني الخمر سنوياً اثنين وأربعين مليوناً.
ثانياً: الذين يتعاطون المخدرات سنة 75م، (19%) من الأمريكان، لكن في سنة 78م، بعد ثلاث سنوات فقط ارتفعت النسبة إلى (49%)، فما بالك بالعدد الآن! أشك أنه يوجد في أمريكا من لا يتعاطى المخدرات، اللهم إلا العدد القليل.
ثالثاً: عدد المرضى في مستشفيات الأمراض العقلية، يعني: شبه جنون، أو أمراض نفسية أو عقلية في الولايات المتحدة الأمريكية، سبعمائة وخمسين ألفاً، وهذه مصحات خاصة بهم، ومع ذلك فهم يشغلون (55%) من أسرة المستشفيات الأخرى.
رابعاً: عدد من أعفتهم القوات المسلحة الأمريكية في الحرب الثانية، بسبب الاضطرابات النفسية والعقلية، (43%) من المجموع الذي ساوى تسعمائة وثمانين ألف جندي، وعدد من رفضوا الامتحان لاختبار الخدمة العسكرية في الولايات المتحدة الأمريكية ثمانمائة وستون ألفاً.
خامساً: في دائرة المعارف البريطانية: أن في الأربعينيات، كان (90%) من الشباب الأمريكي مصاب بمرض الزهري، (60%) مصاب بمرض السيلان، و(40%) مصاب بالبرود الجنسي.
سادساً: صرح كنيدي -وهو زعيم أمريكي معروف سنة 1962م- أن (85%) من الشباب الذين يتقدمون للجندية في أمريكا غير صالحين لذلك، لأن الشهوات التي غرقوا فيها أفسدت لياقتهم الطبية والنفسية.
ولذلك نقول: إن مستقبل أمريكا في خطر، لأن شبابها مائع منحل غارق في الشهوات، الأمر الذي سيجعلهم عاجزين عن القيام بالمهمات الملقاة على عواتقهم. انظر كتاب الثورة الجنسية، وكتب كثيرة.
طيب هذا جانب إذاً لا أطيل فيه، جانب فشل الحضارة الغربية، وهذا أصبح الغرب نفسه يعترف بذلك ويؤمن به.
الجانب الثاني: الذي يدل على أن الإسلام قادم من الواقع، هو جانب الصحوة الإسلامية.
إن سحر الحضارة الغربية لم يعد يبهر الأبصار، ويأخذ بالألباب، كما كان في الماضي، فلقد تفتحت عيون الشباب على نور الإسلام، وبطل السحر والساحر.
إذا جاء موسى وألقى العصا فقد بطل السحر والساحر
جاء نهر الله فبطل نهر معقل، وانكشفت الحقائق، وعاد شباب الجيل إلى الله عز وجل وهم يقولون: آيبون تائبون عابدون ساجدون، لربنا حامدون.
يقول الشيخ عبد الله عزام رحمه الله، في كتاب له اسمه: الإسلام ومستقبل البشرية، يقول: كنت في القاهرة أيام إعدادي رسالتي للدكتوراه عام 1971م -أعتذر عن التقويم الميلادي إذا ذكرته، لأنه ما يكون عندي إلا الميلادي- المهم يقول: كنت في القاهرة في ذلك العام 1971م، وكان في جامعة القاهرة مائة وعشرون ألف طالب، -يعني: طالب وطالبة، لأنها جامعة مختلطة- يقول: وكانت طالبة واحدة فقط هي المتحجبة، -طبعا حجاب غير كامل، لا تغطي وجهها، لكن تغطي شعر رأسها وبقية بدنها- يقول: واليوم العدد يفوق خمسة عشر ألف طالبة محجبة، ويوجد من بينهن مجموعات يغطين حتى وجوههن، وقل مثل ذلك في جامعة الإسكندرية، وأسيوط وغيرهما.
مثال آخر أو جانب آخر: الكتاب الإسلامي أكثر الكتب رواجاً، حتى إن تجّار الكتب في بيروت إذا أشرف أحدهم على الإفلاس، يقول له زملاؤه: اطبع لك كمية من كتاب: تفسير سيد قطبفي ظلال القرآن، يرفع المال الموجود عندك وليس المقصود فقط الظلال، الكتاب الإسلامي، كتاب الحديث، التفسير، التاريخ، التوحيد، العقائد، الكتب الإسلامية هي أكثر الكتب رواجاً، ولذلك غيرت كثير من المكتبات معروضاتها من كتب أدبية، وتاريخية، وعلمية وغير ذلك، إلى كتب إسلامية.
مكة أصبحت قبلة الشباب، ليس فقط في الصلاة، بل حتى في العمرة والحج والزيارات وغيرها، ومن ذهب إلى الحرم في المواسم والمناسبات، تعجب من هذه الزهرات المتفتحة التي أصبحت لا يحصيها العد، ممن أقبلوا على الله عز وجل وقالوا: ((رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ))[الكهف:14].
التحول في الأحزاب العلمانية، والقومية، واليسارية، كلنا نعلم كثيراً من الشباب مر عليهم وقت من الأوقات، تأثروا فيه بالدعوات الناصرية، والقومية، والبعثية وغيرها، وقرءوا لـطه حسين، وسلامة موسى، وأمثالهم من المفكرين المنحرفين الضالين، واليوم عاد هؤلاء الشباب، أو كثيرٌ منهم إلى الله عز وجل أصبحوا من رواد المساجد، أطلقوا لحاهم، صاروا يقرءون الكتب الإسلامية، ويصلون مع الجماعة، ويحافظون على الدين، وتجد مع الواحد منهم مسواكاً في جيبه، وقد تجده يصلي في روضة المسجد، ويحافظ حتى على صلاة الفجر، تأتي إلى بيته ربما لا تجد فيه تلفازاً، وكان لهم تاريخ كما ذكرت.
فعاد الناس إلى الله، وأعلن كثير من أصحاب الأفكار، والمبادئ المنحرفة إفلاسهم، حتى في مجال الصحافة، والكلام في هذا أيضاً يطول.
المظاهر انتشرت الشعائر التعبدية ، الصلاة وأنت ماش في الطريق إلى الرياض، مثلا ذاهبا أو آيبا كل بضعة أمتار -إذا كان وقت صلاة- تجد مجموعة قد وقفوا يصلون على جانب الطريق نوعيات شتى، اللحية أصبحت أمراً عادياً مألوفاً، على أنها كانت مستغربة في كثير من البيئات.
عزل النساء عن الرجال، ومنع الاختلاط في المدارس، والجامعات والأسواق وغيرها، أصبح ظاهرة طبيعية الآن.
ترك التدخين -مثلاً- والامتناع من تقديم السجائر والطفايات وغيرها، مراعاة الأكل الحلال سواء مثلاً بالذبح على الطريقة الإسلامية، أو تجنب الخنـزير، أو تجنب الأشياء التي يكون فيها مشتقات محرمة، انتشار الشريط الإسلامي، كثرة المساجد وروادها إلى غير ذلك.
الإسلام أصبح يعرض الآن بقوة وشجاعة، ما هو مثل الماضي، كان الواحد يتكلم عن الإسلام على حياء، ويحاول يوقف بعض الأمور، أما الآن فالناس أصبحت تتكلم عن الإسلام بقوة وشجاعة ووضوح، ولا تستحي من هذا الدين، بل تعرضه بغاية الشجاعة والقوة.
الجزيرة العربية أرض الإسلام، لا حيلة يا إخوان، هذا قضاء الله وقدره، فنقول لأعداء الدين، وللمشبوهين، وللمنافقين، والعلمانيين، والحداثيين، واليساريين، والقوميين: لا حيلة في ذلك، هذا قضاء الله وقدره، وهذا دينه وشرعه أيضاً.
هذهالجزيرةهي جزيرة الإسلام، وعاصمة الإسلام، ومنطلق الإسلام، منها بدأ وإليها يعود، وإليك البيان:
1- روى مالك في موطئه بسند صحيح، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يجتمع في جزيرة العرب دينان) إما نهي أو خبر، يعني: نهى عن أن يجتمع في جزيرة العرب دينان دين الإسلام ودين آخر. أو أخبر أنه لن يجتمع فيها دينان على سبيل البقاء والثبات والاستقرار.
ابن عباس وجويرية بن قدامة يرويان، كما في سنن أبي داود بسند صحيح، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أخرجوا المشركين من جزيرة العرب) وهو في صحيح مسلم، بل هو متفق عليه، من حديث ابن عباس رضي الله عنه، ففيه الأمر بإخراج المشركين من جزيرة العرب.
مثله أيضاً: قوله صلى الله عليه وسلم، فيما رواه مسلم عن عمر: (لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع إلا مسلماً) إذاً هذه النصوص، تدل على أن شريعة الله جاءت بخاصية لـجزيرة العرب، ليست لغيرها من البلاد، هذه الخاصية، هي: أن الجزيرة لا يقبل أن يكون فيها اليهود والنصارى، ولا أصحاب ديانة أخرى من المجوس أو غيرهم، هي جزيرة الإسلام خالصة له من دون الملل والأمم والشعوب الأخرى.
هي جزيرة الإسلام إذاً، وهذا الحكم ليس لبلد آخر غير الجزيرة، فدل على أن الجزيرة أرادها الله عز وجل أن تكون للإسلام، قال سعيد بن عبد العزيز: جزيرة العرب، ما بين الوادي إلى أقصى اليمن، إلى تخوم العراق، إلى البحر، هذه جزيرة العرب.
2- قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الشيطان يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم) هذا رواه مسلم في الحديث أيضاً، وفي رواية عند الترمذي، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حجة الوداع: (إن الشيطان يئس أن يعبد في بلدكم هذا أبداً، ولكن سيكون له طاعة فيما تحتقرون من أعمالكم).
إذاً الشيطان ما يئس من بلد من بلاد الدنيا كلها، إلا الجزيرة العربية، يئس أن يعبد فيها، لا يزال فيها راية مرفوعة لا إله إلا الله محمد رسول الله راية للإسلام.
3- أن الدين يعود إلى الجزيرة العربية في كل آن وحين، حتى في أزمان الغربة، فالغربة قد تستحكم، غربة الإسلام، يقل الدين، يضعف أهله، هذا يحدث، وحدث والآن هو واقع.
ففي أزمنة الغربة هناك مواطن يفيء إليها الإسلام، ويعود إليها مهما كان الأمر، منها الجزيرة العربية، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم: (بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، وهو يأرز بين المسجدين مكة والمدينة) المسجدين: المسجد الحرام والمسجد النبوي، (كما تأرز الحية في جحرها).
إذاً الإسلام ينضم ويجتمع ويرجع إلى الجزيرة العربية، كلما ضويق الإسلام، أو اضطهد في أي مكان في الدنيا، فاء ورجع إلى الجزيرة العربية، منها بدأ وإليها يعود، ومنها ينطلق مرة أخرى.
فـالجزيرة العربية هي من مواطن الإسلام في أرض الغربة. طيب إذا كانت الجزيرة العربية من مواطن الإسلام في أرض الغربة، في زمن الغربة، فما بالك بـالجزيرة العربية في زمن عز الإسلام، إنها هي التي ترفع راية الإسلام، ويجب أن تكون كذلك.
ولذلك أقول -أيها الإخوة-: من الأشياء التي أراها وأظنها، وسبق أن ذكرتها في محاضرة لي بعنوان: (الإسلام قدر الله في هذه الجزيرة) إن كل فتنة تنـزل بالمسلمين، إذا أراد الله عز وجل لهذه الفتنة أن تنتهي وتنقمع وتنمحي، أوصلها إلى الجزيرة العربية، فكأن الجزيرة العربية هي الصخرة التي تتحطم عليها الفتن كلها.
مثلاً: أعظم فتنة المسيح الدجال، ما جاء في التاريخ قبله ولا بعده فتنة أعظم منه، ما من نبي إلا أنذره قومه، أكثر النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه من ذكر المسيح الدجال، حتى خشي عليهم ألا يفقهوا. المهم من ضمن ما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم عن المسيح الدجال، أن مكة والمدينة على أنقابها ملائكة، لا يدخلها الطاعون ولا الدجال.
فإذا جاء الدجال إلى المدينة المنورة، وهي جزء من هذه الجزيرة، جلس الدجال في بعض السباخ المحيطة بـالمدينة، فتزلزلت المدينة، وخرج منها كل منافق ومنافقة، لاحظ هذه بداية النهاية بالنسبة لهذا الخبيث المسيح الدجال، كيف؟ يخرج إليه رجل من أهل المدينة، هو أعظم الناس شهادة عند رب العالمين، وحديثه في صحيح البخاري، فيأتي إليه يردونه المسالحة، الجنود والحراس يردونه فيقول: أريد أن أذهب إليه. فيقول: دعوه. فيتركونه يأتي إليه، فيقول إذا وقف أمامه، قال: أشهد أنك الدجال، الذي أخبرنا عنه النبي صلى الله عليه وسلم. فيمسك به ويقول: أيها الناس! إذا قتلت هذا الإنسان، تشهدون أني أنا الله. فيقولون: نعم. فيقطعه قطعتين ويمشي بين قطعتيه، ثم يقول له: قم. فيستوي قائماً حياً بشراً بإذن الله عز وجل فيقول: أتشهد أني أنا الله؟ فيقول له هذا الشاب المؤمن: والله ما ازددت فيك إلا بصيرة.
الآن ازددت يقيناً؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن القصة هذه تقع، فلما وقعت القصة، ازددت يقيناً أنك أنت الدجال، الذي أخبرنا عنه الرسول صلى الله عليه وسلم ما ازددت فيك إلا بصيرة، فيريد الدجال أن يقتله فلا يسلط عليه، يضع الله عز وجل على رقبته شيئاً من النحاس، فلا يستطيع أن يقتله، فينطلق منه هذا الشاب. وهذه بداية النهاية بالنسبة للدجال.
بعدها ينهار أمره، يخرج يجر أذيال الخيبة من المدينة، لأنه يعرف القضية، يخرج إلى الشام، وحينئذٍ جنوده يضمحلون شيئاً فشيئاً، وينـزل بعد ذلك عيسى بن مريم، فيقتله بباب لد. المقصود أن نهاية الدجال كأعظم فتنة في التاريخ، كانت في هذه الجزيرة.
وكذلك أظن إن شاء الله، أن كل فتنة تمر بالمسلمين سواء كانت فتنة فكرية مثل فتنة الشيوعية، فتنة الحداثة، فتنة العلمانية، فتنة القومية، فتنة البعثية، كل فتنة إذا أراد الله عز وجل لها أن تنتهي وتنمحي من الوجود، كانت هناك أسباب تحاول هذه الفتن من خلالها أن تصل إلى جزيرة العرب، فيقطع الله -تعالى- دابرها، وينهكها، ويحمي بلاده وأهله وأرضه والله على كل شيء قدير.
وهذه قاعدة... طبقوها على أشياء كثيرة، وإن شاء الله ما تخلفكم هذه القاعدة، ممكن نطبق هذه القاعدة على البعثية -مثلاً- كقضية واقعة الآن، فنقول: إن ما يجري الآن، يدل إن شاء الله على نهاية البعث كحزب ونظام ومذهب ودين يدان به، وأن أمره إلى زوال وانتهاء.
طبق هذا على الأفكار المادية المنحرفة، العلمانية، القومية، الحداثة، تجد أن هذه القاعدة -إن شاء الله- سارية المفعول بإذن الله عز وجل فإذاً أقول: لا حيلة، فالحداثيون، والعلمانيون، واليساريون، وسائر أعداء الدين، ليس لهم مكان في هذه الجزيرة، فليبحثوا عن موطن آخر، أو ليبشروا بالخيبة والخسران، أو ليتوبوا إلى الله عز وجل، فإن العبد إذا تاب إلى الله -تعالى- تاب الله عليه.
من خصائص الجزيرة العربية: أن فيها الحرمين الشريفين، وهما أفضل بقاع الأرض على الإطلاق، ولهما من المزية ما ليس لغيرهما -كما هو معروف- والكلام في فضائلهما يطول. راجع مثلاً صحيح البخاري وصحيح مسلم في فضل مكة والمدينة.
أول نقطة: هي قضية أن نكون جميعاً إيجابيين؛ لا تقل أنا لا أستطيع أن أفعل شيئاً، أو أنا عاجز أو هذا لا يمكن، أو مستحيل، كل هذه الأشياء اتركها بعيداً. إذا قال لك أحد: لا أستطيع قل له: حاول. وإذا قال لك: لا يمكن. مستحيل قل له: جرب، إذاً أنت حاول وجرب، واعمل ما تستطيع.
وأضرب لكم أمثلة على ما يستطيعه الإنسان: قصة الغلام تعرفونها جميعا لأنها في الصحيحين، ...الساحر والراهب، والقصة الطويلة المعروفة في بني إسرائيل، المهم في آخر القصة، الغلام الذي أسلم وآمن بالله عز وجل جاء الملك ليقتله، فما استطاع أن يقتله بأي طريقة، فجاء إليه الغلام وقال له: أنا أدلك كيف تقتلني !!
الآن غلام واحد، تصور عمره ستة عشر عاماً -مثلاً- هل تتوقعون أن هذا الغلام، وهو في وسط دولة تحاربه، وتحارب دينة، ولها بطش وقوة وإمكانيات وأجهزة، هل يمكن أن تسلم الأمة بأكملها على يديه؟ ممكن. لماذا؟ لأنه ما قال: لا يمكن أو مستحيل. جاء للملك وقال له: أنا أخبرك كيف تقتلني، اصلبني على جذع شجرة، ثم خذ سهماً من كنانتي، فقل: باسم الله رب الغلام، ثم اضربني به وأمت.
ففعل الملك، جمع الناس كلهم في صعيد واحد، وصلب الشاب على جذع شجرة أو نخلة، وأخذ سهماً من كنانته، وقال: باسم الله رب الغلام، ثم أطلق السهم عليه، فمات الغلام، فما الذي حدث؟ ... المصيبة على الملك، ظن أنه تخلص من عدوه، غلام واحد دعا إلى الإسلام، وأزعج هذا الحاكم فتخلص منه، لكن ما الذي حصل؟ لما رأوه مات، قالوا كلهم بلسان واحد: آمنا برب الغلام.
وحينئذٍ حفر لهم الأخاديد ووضعهم فيها ((قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ))[البروج:4]. المهم هذا الغلام استطاع أن يصنع شيئاً، ويعجبني أن أذكر لكم حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أيضاً حديث صحيح، رواه أحمد والبخاري في الأدب المفرد، وعبد بن حميد وغيرهم، عن أنس بن مالك، وهو صحيح، يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة -نخلة صغيرة- فاستطاع ألَّا تقوم الساعة حتى يغرسها، فليغرسها، فله بذلك أجر).
يغرسها لأن غرس النخل مطلوب، وعمل نافع، فيه خدمة وخير، فإذا قامت الساعة لا تجدع الفسيلة وتقول: الآن قامت الساعة، ومتى تنبت هذه الفسيلة؟ ومتى تكبر؟ ومتى تثمر؟ ومتى.... لا تقل هكذا أبداً، احفر لها واغرسها بكل اطمئنان، لماذا؟ لأنك مأجور بهذا الفعل.
وكونها تثمر أو لا تثمر، هذا موضوع آخر ليس لك به علاقة، أنت حصلت الأمر الآخر؛ الأجر: (إذا قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة، فاستطاع ألَّا تقوم حتى يغرسها فليغرسها، فله بذلك أجر).
لو أن كل مسلم تصور هذا الحديث، فستنطلق بعمل جليل، عمل جاد، عمل قوي مثمر. أذكر نكتة قرأتها في كتاب صناعة الحياة، وقد نوهت به قبل قليل، وسألني بعض الإخوة أن أعيد ذكره، وهو كتاب فيه فوائد عظيمة، وإن كان فيه بعض الأشياء.
في هذا الكتاب ذكر نكتة تصلح لهذا الموضوع الذي أقوله، كون الإنسان إيجابي، يقول: إن أحد دعاة الإسلام في إحدى البلاد حكم عليه بالإعدام، وأرادوا أن يقتلوه شنقاً، خرجوا به في الساحة العامة في وسط البلد، ووضعوا مشنقة وحبلاً ثم أرادوا أن يخنقوه ويشنقوه، يقول: فلما شدوا الحبل وهو معلق، انقطع الحبل وسقط الرجل، فقام الرجل واقفاً يتلفت ماذا يقول؟ يقول لهم: كل جاهليتكم رديئة، حتى حبالكم رديئة، كل الجاهلية التي أنتم فيها رديئة.
إذاً استغل خمس دقائق منحه الله -تعالى- إياها، في هجاء الجاهلية والكفر الذي كان يوجد في ذلك البلد، ولم يقل هذه أمور انتهت، بل عمل واستغل ذلك الوقت.
إذاً النقطة الأولى: كن إيجابياً اعمل أي شيء تستطيع فعله للإسلام، قليل أو كثير أي شيء تستطيع أن تعمله للإسلام اعمله، ولا أستطيع أن أذكر ماذا تعمل، لأن ماذا تعمل، هذا باب واسع جداً.
شيء آخر: الكلمة. الكلمة سلاح الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، لا تقل الكلمة لا تجدي شيئاً: ((ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا))[إبراهيم:24-25] الأنبياء كانوا يأتون الناس بكلمة، يدعونهم إلى لا إله إلا الله، فلا تيأس من كلمة طيبة تقولها بنية صالحة.
ثالثاً: التفاعل والهم والتعاطف مع الواقع، وترك العزلة.
هل أنت صاحب قلب يحترق للإسلام؟ أنا -أحياناً- أفكر في نفسي وحالي، إلى متى نحن معمرون؟ إلى متى نحن نعيش؟ ماذا صنعنا للإسلام؟ وماذا سنصنع ومتى نصنع؟ هناك إنسان يقول: الموضوع هذا كله لا يعنيني، عندي أولاد وعندي زوجة وعندي وظيفة.
لماذا لا ننسى خصوماتنا الشخصية وضغائننا؟ ونقوم بعمل جاد لصالح الإسلام في هذا الزمان.
أنتم سمعتم كلام ابن تيمية فيما سبق، المظفر قطز وهو قائد من قادة المسلمين في حروب التتار، كيف استطاع أن يحطم الخوف من التتر الذي وصل الأمر -كما ذكر ابن الأثير في تاريخه -إلى أن المرأة ليس الرجل- من التتار كانت تمشي في الشارع، فتجد عشرة من المسلمين يمشون، فتقول لهم: ناموا، أريد أن أقتلكم، فلا يملكون إلا أن يناموا، فتنظر ليس معها سكين، فتقول: انتظروا قليلاً لأذهب إلى البيت وآتي بسكين حتى أقتلكم، فتذهب للبيت وتأتي بالسكين، ولا أحد منهم يفكر بأن يرفع رأسه أو يقوم. إلى هذا الحد بلغ الذل، سواءً كانت هذه القصة حقيقة، أو كانت قصة رمزية، فالمؤكد أن المسلمين أصيبوا بخوف وذل وذعر شديد من التتار.
ماذا فعل المظفر قطز حتى يزيل هذا الرعب من نفوس المسلمين، ويزيل الهزيمة النفسية والوهن؟ جاءه مجموعة من رسل التتار-كما تقول بعض الروايات التاريخية- فقام -جزاه الله خيراً- وقطع رءوسهم، وعلقهم على المشانق في الساحات العامة حتى يراهم الناس، ويقولوا: هؤلاء هم التتر، أنتم خائفون من التتر، انظروا أول مرة يرون التتري مقتولاً معلقاً، بصورة ذليلة مهينة، وأراد أن يقول للناس، إنهم ليسوا أكثر من بشر عاديين، انتصروا في ظروف غير عادية تمر بها الأمة الإسلامية، فكان النصر له، لأسباب:
أولها: أنه انتصر على الهزيمة الداخلية في نفوس المسلمين.
الأمر الثاني: أنه انطلق في الإعداد للجهاد من منطلقات شرعية صحيحة، الإعداد للجهاد، وتقوية العقيدة، وتقوية العزائم، ربط الناس بمثل أعلى، بالشهادة في سبيل الله وبالجنة، إلى غير ذلك.
الأمر الثالث: أن الأمة كلها قاتلت معه، وكان يقودها في هذا القتال العلماء تحت راية، واإسلاماه، فانتصرت الأمة، وانتصر العلماء، وانتصر المظفر قطز.
الأمر الخامس، الذي يمكن أن نعمله: الدعوة والتربية البطيئة كلمة أو تربية أو جلسة أو صحبة أو رحلة أو درس، تقصد من ورائها أن تخرج للأمة شباباً صالحين. التربية بطيئة قد لا تظهر نتيجتها في سنة ولا عشر، لكن هذا الطريق مهما طال لابد منه، والتربية أمرها خطير، لكن لا أستطيع أن أطيل أكثر من هذا.
سادساً: العمل على كافة الأصعدة. نحن نكتشف الآن -مثلاً- أننا بأمس الحاجة إلى سلاح ندفع به عدونا، كيف نستطيع أن نحصل على السلاح؟ الأمر بسيط. نحن لنا عقول مثل أعدائنا، ونستطيع أن نصنع كما يصنعون. الصناعة بشكل عام، الأمة الإسلامية متخلفة فيها، لماذا؟ لدينا إمكانيات بشرية، وإمكانيات مادية، وأقرأ عليكم الآن صفحة من كتاب: رؤية إسلامية في الطريق إلى القدس لـعبد الحليم عويس، وهو كتاب جميل أنصح بقراءته، يقول في ص(51): إن أي سلاح محلي يعطى للناس -وقد أتصرف في كلامه؛ لأن فيه بعض العبارات التي لا أرتضيها، فأعدلها بكلمة فقط- إن أي سلاح محلي يعطى للناس، وتضمن الجماهير وجوده دائماً، لأنه منها ولأنها هي التي صنعته. إن أي سلاح يصنع محلياً على هذا النحو، سيكون البداية الرمزية والعملية لاستقلالنا الحقيقي، والبداية الحقيقية لسيرنا في طريق الحضارة الطويل.
إننا يجب أن نصر على صناعة المركبة الفضائية، والرءوس النووية، انطلاقاً من صنع قنبلة يدوية مسلمة، أو مدفع رشاش، أو طائرة هيلوكبتر.
إن أمريكا لم تبدأ مسيرتها بصنع صاروخ عابر للقارات، أو طائرة تجسس، لقد بدأت من النقطة نفسها، التي سنبدأ منها إذا أردنا السير في الطريق الصحيح، ومع الاتفاق في البداية ثمة فروق كثيرة لصالحنا، -أي: نحن نبدأ كما بدءوا، ومع ذلك هناك ميزات عندنا لا يملكونها هم- أجل هناك فروق كثيرة لصالحنا أهمها: أننا سنختصر المسافة بين القنبلة اليدوية والقنبلة الذرية، مستفيدين من كل ما يصلنا من إنجازاتهم وخبراتهم، وسنكون في الوقت نفسه أسرع في التدريب على الصنع، وليس على مجرد الاستعمال، وسنحرص على امتصاص كل معارفهم، وكسب من نستطيع من علمائهم وخبرائهم.
تكلم عن إنفاق مصر وسوريا والعراق على التسلح، ما بين (48م)، (71م) وأنهم أنفقوا ما قيمته تسعة آلاف وستمائة وست وسبعين مليون دولار، ومع ذلك فإن شبراً واحداً من الأرض المحتلة لم يعد إلى المسلمين، بل إنهم قد فقدوا أجزاءً كثيرة من أرضهم، فإذا أضيف إلى هذا الرقم ما أنفقته البلدان العربية الأخرى -ولا يزال الكلام له- على شراء الأسلحة خلال هذه الفترة، وما أنفق على شراء الأسلحة في كل البلدان العربية بعد هذه الفترة، إذا أخذنا هذا كله في الاعتبار، ووضعنا الإمكانات العربية المتوفرة والمعطلة، والمبعثرة في الاعتبار؛ لتأكد لدينا أننا نملك البداية القوية العملية، لتصنيع السلاح محلياً.
ويتأكد لنا أننا أضعنا ربع قرن من عمر أمتنا في عملية تعطيل لطاقتها، وتجميد لإمكاناتها، ووضعها في موضع مذبذب سيئ، وربطها ربطاً خادعاً لحسابات ومصالح الآخرين.
يقول: إن تجربة التاريخ كله لا تثبت حالة واحدة، استحال فيها على شعب متخلف اكتساب التكنولوجيا، والتفوق فيها، وإذا كانت الثروة العقلية للشعب الياباني، والثروة البشرية للشعب الصيني، قد مكنت شعبين شرقيين من اجتياز مرحلة الخطر، ومن الدخول في مضمار السباق الحضاري، فإننا نحن المسلمين نملك هذين المقومين، ونملك غيرهما من المقومات، التي لا يتوافر كثير منها لدى الشعوب الأخرى، التي حققت تقدماً وتفوقاً ملحوظاً.
إن لدينا طاقات حيه كثيرة، ومواد خام، ورءوس أموال، وعقولاً مبعثرة في العالم كله، ولدينا احتياطي بشري واقتصادي يتمنى أن يجدنا في المكان الذي يسمح باستغلاله وحمايته، سواءً في أفريقيا أو آسيا، أو الأرض الإسلامية الفسيحة، إن هذا كله يجعلنا في المكان الذي يجعل نجاح تجربتنا الحضارية مضموناً، على نحو لم يكن متوفراً لدى معظم التجارب الحضارية المعاصرة.
ربما تكون القراءة من هذه الورقة سبباً في كون بعضكم لم ينتبه للكلام، وكذلك قراءتي في الأوراق السابقة، ولذلك أدعو الإخوة إلى تأمل الكلام الذي قلته مرة ومرة، فإن الكلام له معاني، ودلالات عميقة، قد لا يدركها الإنسان حين يسمعه لأول مرة، خاصة إذا كان يسمعه من قارئ كما هو الحال بالنسبة لي.
السؤال: ورد في الحديث أن المسلمين فيالقسطنطينيةيسمعون بخروجالمسيح، فيرجعون سراعاً، فيجدونعيسىقد نـزل، كيف نوفق بين هذا، وفتحالقسطنطينيةعلى يدالفاتح؟
الجواب: صحيح، لكن لا تعارض، لأن فتح القسطنطينية تم مرتين:
أول مرة على يد الفاتح، وهذا هو الفتح الذي سبقت الإشارة إليه، وفيه قال النبي صلى الله عليه وسلم، أو ورد عنه أنه قال: (لتفتحن القسطنطينية فلنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش ذلك الجيش) وأما الفتح الثاني فهو الذي يكون قبيل نـزول عيسى عليه السلام.
السؤال: إذا نظرت إلى بعض حال شبابنا اعتصر قلبي من شدة الألم والاحتراق، وإنني من شدة ما أرى، لا أستطيع أن أعمل شيئاً أحس أنه مفيد، فماذا أفعل؟
الجواب: بينت لك بعض ما تفعل، وما ذكره الأخ يذكرني ببعض الشباب الذين يرسلون لي أوراقاً تصلني في البيت أو في السيارة أحياناً، وإن كنت لا أعرف شخصيتهم يشتكون فيها من شباب الأرصفة وأوضاعهم، في الأرصفة والأسواق والمدارس والحدائق وغيرها، وسأتحدث عن هذا الموضوع إن شاء الله في الوقت المناسب.
السؤال: يلاحظ أن الإحساس بعداوة الكافرين ضعيف في نفوس الكثيرين، فما أسباب ذلك؟ وما علاجه؟
الجواب: الأسباب كثيرة، ولذلك أدعو إخواني من طلبة العلم والخطباء وغيرهم، إلى التركيز على قضية الولاء والبراء، وأهميتها في هذا العصر، باعتبارها جزءً لا يتجزأ من عقيدة السلف الصالح.
السؤال: ما هي الكتب التي تنصح بها في موضوع المستقبل الإسلامي؟
الجواب: الكتب كثيرة جداً، من هذه الكتب كتاب أشرت إليه للشيخ عبد الله عزامالإسلام ومستقبل البشرية، والمستقبل لهذا الدين لـسيد قطب، الشيخ الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، له كلام في هذا الموضوع، هناك كتاب رؤية إسلامية لـعبد الحليم عويس، وقد أشرت إليه، وهناك كتاب الإسلام ومشكلات الحضارة، لـسيد قطب أيضا، وهناك كتيب اسمه: البشائر بنصرة الإسلام، لأحد الإخوة الأساتذة في معهد الرياض، للأستاذ محمد بن عبد الله الدويش.
السؤال: عند التفسير العقلي للأحداث، نجد أن التقنية التدميرية للغرب كافية لسحق الإسلام، فهل تتصور حرباً مادية محسوسة، أم كرامات من الله بلا قتال؟
الجواب: إذا كنا صادقين مع الله، بالتضرع والدعاء، والدعاء مما نملكه، والصدق والإخلاص لنثق بالله عز وجل، فالله قد يصنع لنا كرامات ليست في حسابنا، قد يصنع لنا حظاً لم نكن نتوقعه، ريحاً، جنوداً لم تروها، قد يدمر قوة العدو، قد يسلم بعض الأعداء، احتمالات كثيرة، فالإنسان لا يشتغل بهذا، لكن عليه أن يشتغل بمدى صدقه مع الله عز وجل.
السؤال: يقول: في جميع دروسك العلمية العامة وغيرها، لا أراك تؤدي نصيحة خاصة لأهل المعاصي للإقلاع عنها، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأهل الطاعات والمتمسكين، وخاصة أنت، ويزعم أنني أكثر قبولاً عند الناس؟
الجواب: أولاً: بالنسبة للقبول، ليس ما ذكرته بصحيح.
ثانياً: اسمح لي يا أخي الكريم أن أقول: سبق أن تكلمت مرات كثيرة عن موضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفيما يتعلق بموضوع المعاصي والذنوب بالذات، تكلمت في هذه الإجازة بمحاضرة في الشرقية عنوانها: (المعالم المنجية من شؤم المعصية) يمكن أن تراجعها، ومع هذا فعندي موضوع سأتحدث عنه، وفيه أفكار وموضوعات جديدة، عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بعد زمن ليس بالطويل إن شاء الله.
السؤال: بعض الشباب يزهد في أمهات الكتب في الحديث، ويرغب في الكتب المصححة، مثل صحيحالترمذيوغيره؟
الجواب: الواقع أنه لا ينبغي الزهد في الكتب الأصول مثل: سنن الترمذي، صحيح البخاري، صحيح مسلم، سنن أبي داود، سنن ابن ماجه، سنن النسائي، لا تغني عنها الكتب المتأخرة، ككتب الشيخ الألباني، بل ينبغي لطالب العلم أن يقتني هذا وهذا.
الجواب: الياسق له كلام طويل، يمكن تراجع -مثلاً- الخطط المقريزية، أو البداية والنهاية لـابن كثير، أو حتى تعليقات الشيخ أحمد شاكر، في كتابه عمدة التفسير، فقد تكلم عن الياسق وذكر معلومات كثيرة عنه.
السؤال: كيف نتفاءل اليوم بأن المستقبل للإسلام، والدعوة في هذه الأيام هي دعوة وطنية، بل الأدهى من ذلك أننا نقرأ هذا الكلام: الفن يحارب من أجلالكويت، والفنانون يحاربون بحناجرهم في جبهات القتال؟
الجواب: ليس هؤلاء هم الذين يتم على أيديهم مستقبل الإسلام، فمستقبل الإسلام يتم من خلال الأيدي المتوضئة، من خلال الجبهات التي تعفرت بطول السجود، ومن خلال القلوب التي اعتصرت بهم الإسلام وألمه، هؤلاء هم الذين يقوم عليهم مستقبل الإسلام.
الجواب: نعم، متى يأتي النصر أصلاً؟ النصر يأتي عن اشتداد الأزمة، اشتدي أزمة تنفرجي، قال تعالى: ((حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ))[يوسف:110].
السؤال: هل صحيح أنه يخرج في آخر الزمان رجل، أو منقذ رباني، يوحد المسلمين ويفتح الدنيا كلها؟
الجواب: نعم، هذا هو المهدي الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، وأحاديثه كثيرة، جاء فيه أكثر من ثلاثين حديثاً، وصرح جماعة من أهل العلم أن أحاديث المهدي متواترة: (ينـزل في آخر الزمان من ولد فاطمة- من نسل الرسول صلى الله عليه وسلم - يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، كما ملئت جوراً وظلماً، ويعيش سبع أو ثمان أو تسع سنين) وله صفات وخصال ذكرها الرسول صلى الله عليه وسلم.
ولا علاقة لهذا المهدي الذي أخبر الرسول عليه الصلاة والسلام بـمهدي الشيعة الذي يدعونه، ولا بالذين يدعون المهدية أيضاً، كما ادعاها ابن تومرت، وكما ادعاها بعض خلفاء بني العباس، وكما ادعاها بعض المتأخرين، فهذا كله كذب، وإنما المهدي الذي أخبر عنه الرسول، إنسان عادي يخرج مثل غيره من الناس، ويدعو إلى الله عز وجل ويكون له ثقل وقوة ومعرفة، وشيئاً فشيئاً، وليس الناس مطالبون بمعرفته إلا إذا بان الأمر بياناً لا لبس فيه، حتى نقطع الطريق على بعض من يقولون: هذه فرصة لعبث بعض المتسرعين.
أسأل الله عز وجل أن يوفقني وإياكم لما يحب ويرضى، وأن يجعلنا ممن يساهمون في بناء الإسلام، وأن يقيني وإياكم من الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وصحبه، سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق