الاثنين، 30 سبتمبر 2024

نماذج من الحنفاء بين يدي بعثة النبيّ صلى الله عليه وسلّم

 

نماذج من الحنفاء بين يدي بعثة النبيّ صلى الله عليه وسلّم




محمد خير موسى
مختص بقضايا الفكر الإسلامي ومشكلات الشباب




ومن أشهر أهل الحنيفيّة الذين كانوا في الجاهليّة بين يدي بعثة النبيّ صلى الله عليه وسلّم وماتوا قبل بعثته




قس بن ساعدة الإيادي

وهو أخطب العرب، وأوّل من قال فيهم “أمّا بعد”، ولقد كان يأتي سوق عكاظ الذي يعدّ أشهر المواسم الثقافيّة عند العرب يعلن فيه أفكاره التوحيديّة ويبهر السّامعين بكلماته، ولقد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلّم وسمعه وهو يلقي بعض خطبه، وأشهر خطبة له تلكم التي قال فيها:


“أيها الناس: اسمعوا وعوا: من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت، ليل داج، ونهار ساج، وسماء ذات أبراج، ونجوم تزهر، وبخار تزخر، وجبال مرساة، وأرض مدحاة، وأنهار مجراة. إن في السماء لخبرًا، وإن في الأرض لعبرًا، ما بال الناس يذهبون ولا يرجعون، أرضوا فأقاموا، أم تركوا فناموا؟ يقسم قس بالله قسمًا لا إثم فيه: إن لله دينًا هو أرضى له، وأفضل من دينكم الذي أنتم عليه، إنكم لتأتون من الأمر منكرًا” ثمّ أنشأ بعد ذلك يقول:


في الذّاهبين الأوّليــن من القرون لنا بصائرْ

لما رأيت مواردًا للموت ليس لها مصادرْ

ورأيت قومي نحوها تمضي الأكابرُ والأصاغرْ

لا يرجع الماضي إليَّ ولا من الباقين غابرْ

أيقنت أني لا محالةَ حيث صار القوم صائرْ



ولقد روى الطبراني في كتابه “المعجم الكبير” والحافظ البيهقي في كتابه “دلائل النبوة” عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدم وفد عبد القيس على النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: “أيكم يعرف قسّ بن ساعدة الإيادي”؟ قالوا: كلنا نعرفه يا رسول الله، قال: “فما فعل”؟ قالوا: هلك، قال: “فما أنساه بعكاظ في الشهر الحرام، وهو على جمل أحمر وهو يخطب الناس” ثم ذكر خطبته


قال الجاحظ في “البيان والتبيين” معلقًا على هذه الرواية: “ولإياد وتميم خصلة ليست لأحد من العرب، لأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هو الذي روى كلام قس بن ساعدة وموقفه على جمله بعكاظ، وموعظته، وهو الذي روّاه لقريش والعرب، وهو الذي عجب من حسن كلامه، وأظهر من تصويبه، وهذا شرفٌ يعجز عنه الأماني، وتنقطع دونه الآمال، وإنما وفق الله ذلك الكلام لقس بن ساعدة، لاحتجاجه للتوحيد، ولإظهاره معنى الإخلاص وإيمانه بالبعث، ولذا كان خطيب العرب قاطبة”


ويعلّق الشيخ محمد محمد أبو شهبة رحمه الله تعالى في كتابه “السيرة النبويّة على ضوء القرآن والسنّة” على كلام الجاحظ بقوله: “ولو أن الرواية بهذا كانت ثابتة لاستقام كلام الجاحظ، ولكن بعض حفّاظ الحديث ونقاده قالوا: في السّند راو كذّاب متّهم بوضع الحديث، وقد حكم الحافظ ابن الجوزي عليها بالوضع، ووافقه بعض الحفاظ.


نعم رويت رواية أمثل من هذه وأقوى، ولكنها تفيد أن الذي أورد القصة بكمالها: نظمها ونثرها بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هو الصدّيق أبو بكر رضي الله عنه وأغلب طرق القصة لا تخلو من ضعف، ومهما يكن من شيء فقد كان قس بن ساعدة من الحنفاء الداعين إلى الله وتوحيده، والإيمان باليوم الاخر في هذا العصر الجاهلي المظلم”


وهنا لا بدّ من التنويه أنّ كلام أبي شهبة يقصد منه تأكيد الحكم على الرواية التي تسوق رواية النبي صلى الله عليه وسلّم لخطبة قس بن ساعدة الإياديّ بالوضع، وليس الحكم على أصل الخطبة ونسبتها لقسّ بن ساعدة، وتعليقه لا يفيد أيضًا تكذيب الروايات التي تفيد أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم قد شهد قسًّا وسمعه في بعض مواسم سوق عكاظ.


أمية بن أبي الصّلت بن عوف الثقفي


وهو من أعجب حالات الحنيفيّة التي تستدعي التأمل فيها لمعرفة تأثير القلوب على قرارات الإنسان المصيريّة، فهو شاعر من أبرز شعراء الجاهليّة، وقد كان باحثًا عن الدين الحق، وجال في أنحاء البلاد باحثًا عن دين التوحيد، وكان رافضًا للشرك، وكان يكثر من شعره من ذكر الآخرة والملائكة، وفي ذلك يقول ابن سّلام في “طبقات فحول الشعراء”:


“وكان أميّة بن أبى الصلت كثير العجائب، يذكر في شعره خلق السّموات والأرض، ويذكر الملائكة، ويذكر من ذلك ما لم يذكره أحد من الشعراء، وكان قد شامَّ ــ أي اقترب من ــ أهل الكتاب”


ولك أن تتأمل بعض شعره لتعلم حكمته وحنكته، ومن ذلك قوله:

كُلُ عَيشٍ وَإِن تَطاوَلَ دَهراً

مُنتَهى أَمرُهُ إِلى أَن يَزولا

فَاِجعَلِ المَوتَ نُصبَ عَينِكَ وَاِحذَر

غولَةَ الدَهرِ إِنَ لِلدَهرِ غولا


كان يعلم من خلال صلته بأهل الكتاب أن نبيًّا سيبعث آخر الزمان وأنه سيكون من العرب، وكان يطمح أن يكون هو، فتحنّث وتعبّد أملًا في هذا، وفيما يظهر أنّه كان يظنّ أنّ النبوّة اكتساب يناله المرء بجهده وعمله، وما درى أنها محض فضل من الله يؤتيه من يشاء من عباده.


ولما بعث النبي صلّى الله عليه وسلّم حسده، وقال: “إن الحنيفية حقّ، ولكن الشّك يداخلني في محمد”. ولمّا قيل له: أفلا تتّبعه؟ قال: “أستحي من نسيّات ثقيف أني كنت أقول لهن: إني أنا هو، ثم أصير تابعا لغلام من بني عبد مناف!!”


ويذكر ابن قتيبة في “الشعر والشعراء”: “وقد كان قرأ الكتب المتقدمّة من كتب الله جلّ وعزّ، ورغب عن عبادة الأوثان، وكان يخبر بأنّ نبيّا يبعث قد أظلّ زمانه، ويؤمّل أن يكون ذلك النبيّ، فلمّا بلغه خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم وقصّته، كفر؛ حسدًا له”


وقال فيه المناوي في “فيض القدير”: “مبرهن؛ غواص على المعاني؛ معتن بالحقائق؛ متعبد في الجاهلية؛ يلبس المسوح؛ ويطمع في النبوة؛ ويؤمن بالبعث؛ وهو أول من كتب: “باسمك اللهم”؛ وزعم الكلاباذي أنه كان يهوديًا؛ ويقال: إنه دخل في النصرانية؛ وأكثر في شعره من ذكر التوحيد؛ وأحوال القيامة؛ والزهد؛ والرقائق؛ والحكم؛ والمواعظ؛ والأمثال؛ قال الزمخشري : كان داهية من دواهي ثقيف؛ وثقيف دهاة العرب؛ ومن دهائه ما همّ به من ادعاء النبوة؛ وكان جلّابة للعلوم؛ جوالًا في البلاد”


ولما أنشدت أخته النبي شيئًا من شعره قال: “آمن شعره، وكفر قلبه” وفي صحيح البخاري أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: “كاد أمية بن أبي الصلت أن يسلم”

هذا هو الحسد حين يستبد بالقلب يحجب عنه منافذ النّور، فوصل الأمر بأميّة بن أبي الصلت الذي كان على الحنيفيّة والتوحيد أن يرثي قتلى المشركين في بدر، ومما قاله فيهم كما يذكر ابن هشام وغيره:

أَلاّ بَكَيتَ عَلى الكِرا

مِ بَني الكِرامِ أولي المَمادِح

كَبُكا الحَمامِ عَلى فُرو

عِ الأَيكِ في الغُصُنِ الصَوادِح

مَن يَبكِهِم يَبكِ عَلى

حُزنٍ وَيَصدُقُ كُلُّ مادِح

كَم بَينَ بَدرٍ وَالعَقَن

قَلِ مِن مَرازبَةٍ جَحاجِح

أَوَ لا تَرَونَ كَما أَرى

وَقَد اِستَبانَ لِكُلِّ لامِح

أَن قَد تَغَيَرَّ بَطنُ مَكَةَ

فَهيَ موحِشَةُ الأَباطِح


وقد عاش أميّة إلى أواخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم، فقيل: توفي في السنة التاسعة للهجرة كما يذكر ابن حجر أي قبل إسلام أهل الطّائف.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق