الاثنين، 23 سبتمبر 2024

ماذا لو كان رفعت حيا بيننا؟

 

ماذا لو كان رفعت حيا بيننا؟

في ذكرى ميلاد د. رفعت العرعير
عاصم النبيه

عاصم النبيه
مهندس، كاتب، باحث دكتوراة


في عصر السادس من ديسمبر 2023، كنت أمشي رفقة الصديق المحبوب رفعت العرعير في شوارع مدينتنا المدمرة، توقفنا قليلا في ملعب اليرموك قبل أن نفترق، ليأتي بعد ساعات قليلة نبأ استشهاده بغارة اسرائيلية أسفرت عن مقتله مع أخيه وأخته وأربعة آخرين من أبناء أخته.. وبعد أشهر من رحيله استهدف الاحتلال ابنته وحفيده الوحيد، الذي ولد ومات في الحرب.

يصادف اليوم ذكرى ميلاد الصديق العزيز رفعت، كان يفترض أن يبلغ الخامسة والأربعين، وأننا نجلس معًا في مطعم “القلق”، واحد من أبسط المطاعم في غزة، المعروف بتقديم السلاطعين (الجلمبات أو الكابوريا) كطبق رئيسي ووحيد، والمطل على شاطئ البحر بالقرب من مسجد الخالدي الذي دمره الاحتلال. كلمة “القلق” التي ترادف “التوتر” ليست هي المقصودة بالتسمية، هذه الكلمة في غزة تحمل معنى أعمق وأكثر تميزًا لا يفهمه إلا الغزيون، حيث تتجسد معانٍ كثيرة في كلمة واحدة كجزء لا يتجزأ من الحياة اليومية في غزة التي يصعب وصفها.

كان يُفترض بنا أن نحتفل بميلاده، وأن نغني له أغاني أعياد الميلاد، بينما لا ينتبه لنا ويركز في موبايله كالعادة، ليكتب تغريدة أو يقرأ مقالة أو يبتكر فكرة ميمي.

لو لم يكن الاحتلال موجودا لربما كان رفعت حاضرا بيننا الآن، ولكان رفعت يحضّر نفسه للفصل الدراسي الجامعي، يجمع كتبا ومراجع جديدة، يجهز نفسه بمواد علمية قيمة، ويلاحق طلابه بالجديد من الأساليب كي يكتبوا قصصهم وقصص بلادهم التي سمعوا عنها ولم يروها، قصص أجدادهم الذين لا يعرفون القراءة والكتابة، قصص الأطفال والنساء والرجال الذين ماتوا قبل أن يعيشوا قصصهم الخاصة، أو أن يكتبوها على الأقل.

لو لم يرحل رفعت لكان الآن يكتب ويغرد على إكس، أو تويتر كما كان يحب أن يناديه، لكان الآن يرسل الخواطر لطلابه كي يكتبوا وينشروا أيضا.. لو كان موجودا لرأينا كيف يدافع عنا بقلمه البسيط، وحساباته التي كانت تلاحقها سياسات المنصات الاجتماعية مزدوجة المعايير، فتحظرها أحيانا، وتحذفها أحيانا أخرى أو تخفض الوصول إليها، لكن كل ذلك لم يكفهم ولم يمنع صوته من الوصول، فلم يجدوا وسيلة سوى قتله كي يسكتوه.

كيف هان على العالم أن يموت رفعت؟! كيف صمت العالم عن قتل رفعت؟ وكيف سيعيش قاتله بطمأنينة وقد أردى رجلا لطيفا قديرا مبدعا مثل رفعت؟!

لو كان رفعت موجودا الآن لرأيناه يلاحق الرواية الإسرائيلية ويفندها، ربما كان سيشتم قليلا، لكن كلماته دائما كانت صحيحة، حتى بعد رحيله أصبحت كتاباته المختلطة بالفكاهة تحدد بشكل واضح الصواب من الخطأ، وترشدنا إلى الطريق الصحيح وتبين لنا الذي يحبنا ويدعمنا من المنافق الذي لا يجب أن نثق به أو ننخدع به، حتى لو ادعى عكس ذلك ولعب بالكلمات والحروف ليخدعنا.. لطالما كان رفعت هو الموجه والمرشد، وربما هذا ما أخافهم، أن يكون لأبناء الجيل الجديد شاب قريب منهم، يعلمهم كيف يستخدمون أقلامهم ليحاربوا بها الاحتلال ويُظهروا جرائمه، ويقاوموه ويقاوموا عنصريته بكل الأساليب الممكنة.

لو كان رفعت حيًّا الآن لكان يعتني بنا، يعتني بطلابه وأصدقائه وزملائه، يدعمهم بكل الطرق الممكنة.. على الرغم من انشغاله الشديد، كان قادرا أن يكون قريبا منك، وأن يشعرك بقربه بالرغم من كل شيء، لا يمكن أن أنسى موقفه قبل 3 أيام من استشهاده عندما توفيت جدتي، ففي وقت كانت فيه الظروف خطيرة للغاية، أصر على القدوم إلى منزلي وتقديم العزاء لي ولوالدي وأقاربي، جاء مشيا على الأقدام في وقت كان ينزح فيه مع أهله بين المدارس وبيوت الآخرين، أتى ليقول لي كما كان يقول لنا دائما ”أنا هنا، بجانبكم بالرغم من كل شيء، وبالرغم من كل المخاطر، أنا هنا دائما لأجلكم“.

هذا هو رفعت الذي يتمنى كل إنسان في هذا العالم أن يحظى بصديق مثله، هذا هو رفعت الذي أتمنى لو أنه ما زال موجودا كي أشعر أنني ما زلت أملك صديقا بعدما قتلت إسرائيل معظم أصدقائي في هذه الحرب.

لو لم يستشهد رفعت لكان الآن يحتضن حفيده وابنته الكبرى اللطيفة شيماء، لا ندري ماذا كان يمكن أن يفعل رفعت مع حفيده، هو  رجل يصعب التنبؤ به وبأفعاله.. هل تراه يلاعب حفيده وابنته في الحياة الأخرى الآن؟ 

لو كان رفعت موجودًا الآن لزارني ودعمني، ورفع من معنوياتي وزاد من عزيمتي، وعلمني كيف أصمد أكثر.. لو كان هنا لما شعرت بهذه الوحدة القاتلة، لكني لا أملك سوى الاحتفاظ بذكراه، والسير على نهجه في مساعدة الناس وقول الحقيقة والطموح للحرية مهما كان الثمن.

كل تلك الأفعال التي كان يمكن لرفعت أن يفعلها ذهبت مع الريح، ولم يعد لها أن تكون، لأن ضابطا في جيش الاحتلال الإسرائيلي أمر كابتن الطائرة الحربية أن يقتل مختار قصاصي فلسطين وكُتابها.. جدُّنا وجدُّ غزة، أستاذنا وصديقنا ومعلمنا وزميلنا ومشرفنا ومرشدنا، خير من دافع عن قضية فلسطين وكتب عنها.. الدكتور المكرم الشهيد رفعت العرعير.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق