صلاح الدين من التفكيك إلى البناء.. قراءة في النهضة العلمية في الدولة الأيوبية 2-2
اعتمد صلاح الدين على بناء المدارس ونشرها في شتى أنحاء دولته بما يضمن له تحقيق هدفه الأهم في بناء المجتمع العلمي الصحيح على عقيدة أهل السنة والجماعة بعد قرنين من الضلال والظلام والجهل والخرافة
عانى المجتمع المصري خلال فترة الحكم الفاطمي من غياب منظومة الثقافة والمعرفة الصحيحة، فقد كان المصريون في حالة جهل شديد بسبب استيلاء الفاطميين على المنابر العلمية والثقافية وفرضهم للعقائد الضالة والأفكار المنحرفة التي تتماشى مع عقيدة الدولة على الناس، فعمل صلاح الدين على وضع خطة للنهوض بالعلم والثقافة تعتمد على محوريين رئيسيين:
أولهما: تفكيك الموروث العلمي وقطع دابر الثقافة المنحرفة والعقائد الضالة للفاطميين.
ثانيهما: بناء مجتمع المعرفة السليمة القائمة على العلم الصحيح ومذهب أهل السنّة.
وتحت كل محور رئيس كان هناك عدة نقاط تفصيلية هامة.
المحور الأول: تفكيك الموروث العلمي الفاطمي والقضاء علي عقيدتهم الضالة.
ومن أجل هذا الهدف قام صلاح الدين بعدة خطوات وصفها البعض بأنها رديكالية وعنيفة استحضر فيها روح المحارب قبل عقل المفكر ومحب العلم كما كان يؤثر عنه. ومن أبرزها:
1- غلق كل المؤسسات العلمية والثقافية الفاطمية بغض النظر عن تبعات هذا الاغلاق وعواقب الاقدام عليه من أولياء الدولة الفاطمية وأنصارها من المصريين وغيرهم. ومن أبرز تلك المؤسسات؛ الجامع الأزهر الذي قرر صلاح الدين إغلاقه وإنهاء دوره كواحد من أكبر وأهم معاهد تدريس العقائد الشيعية والباطنية وتخريج العلماء والدعاة الشيعة في العالم الإسلامي. وقد استمر إغلاق الجامع الأزهر طيلة حكم الدولة الأيوبية وصدراً من دولة المماليك ولم يُعاد إفتتاحه إلا في عهد السلطان المملوكي الظاهر بيبرس، أي أن الإغلاق استمر لأكثر من قرن من الزمان.
من أجل تحقيق الهدف الأهم في خطة صلاح الدين لبناء مجتمع المعرفة السليمة اهتم صلاح الدين اهتماماً عظيماً ببناء المؤسسات التعليمية بكافة مستوياتها، وتوسع جداً في بناء المدارس وإحياء المذاهب الفقهية السنية |
2- منع تدريس المذهب الشيعي الباطني تماماً وأعدم كل كتبه ومواده العلمية. فقد قام بحصر المكتبات الضخمة الموجودة في القصور الملكية والتي كانت تحوى درر الكتب من كل فن وعلم خاصة مكتبة دار العلم الخاصة بالخليفة الفاطمي، فانتخب النافع منها وأحرزه وقام بتوزيعها على علماء الزمان وخاصة رجاله وقادته مثل القاضي الفاضل عبد الرحيم البيساني الذي كان حظه من تلك الكتب مائة ألف كتاب حازها القاضي وحده فقط!! أما باقي الكتب والتي كانت تحوي عقائد الباطنية وعلومهم الكلامية والفلسفية فقد أعدمها ولم يٌبق منها أثر ولا ذكر.
3- محاربة الفلسفة، فالعقيدة الفاطمية والفكر الباطني كان يقوم على الرموز الفلسفية والإشارات والرموز والإيغال في الكلام الغامض ليضفي هالة من القداسة على المذهب تجذب ضعاف الفكر وبلهاء العقول ممن يستهويهم الغموض والإثارة عن كشف وفك هذه الإشارات والطلاسم الفكرية. وفي المقابل كان صلاح الدين سنياً على مذهب أهل السنة والجماعة شافعياً يكره علوم الكلام عامة والفلسفة خاصة، فشن حرباً لا هوادة فيها على الفلسفة وأهلها وحاصرهم وضيق عليهم بمنتهى الحسم، بحيث لا يتهاون أو يتسامح مع أي دعوة لإحياء علومها.
وخير دليل على بغضه وكراهيته للفلسفة والمنتسبين إليها، وأنه كان يؤدّب أصحاب البدع وأهل الزندقة، أنه في عام 587هـ أمر إلى ابنه الأمير الظاهر غازي حاكم حلب بقتل الفيلسوف أبي الفتح يحيى بن حبش السُهرَوَدي، وذلك بعد أن استفتي الفقهاء في شأنه وشأن أفكاره ومذهبه فأفتوا بإباحة دمه، خوفاً على المسلمين من أن يُفسد عليهم عقيدتهم بآرائه الفلسفية التي تمس الذات الألهية، ومنعاً لحصول الفتن.
وقد حاول بعض المعاصرين مثل صاحب الخطط-محمد كردعلي- تصوير مقتل السهروردي بأنه أحد أخطاء صلاح الدين الفادحة التي لا تغتفر، والتي جنت على الفكر الإسلامي جناية كبيرة، فأماتت فيه روح التفكير، فضعف مستوى العقل واعتراه الجمود، سيطرت عليه الأوهام، ولكنّ في هذا الزعم تجنًّ واضح على صلاح الدين، الذي لم يُقدم على الأمر بقتل السهروردي، إلا بعد أن أفتى جميع فقهاء حلب بوجوب قتله، وذلك لأنه في فلسفته مزج بين الحكمة اليونانية وديانات الفرس من مزدكية ومانوية ومذاهب الصابئة في الكواكب والنجوم، يضاف إلى ذلك أن السهروردي في فلسفته كان متأثراً بالمذهب الإسماعيلي الذي يقول أن أولاد علي بن أبي طالب هم صور للتجلّي الإلهي، لذلك اعتبره صلاح الدين ثائراً سياسياً يسعى للقضاء على حكمه وإعادة الدولة الفاطمية.
المحور الثاني: بناء مجتمع المعرفة أو النهضة المؤسسية
من أجل تحقيق الهدف الأهم في خطة صلاح الدين لبناء مجتمع المعرفة السليمة اهتم صلاح الدين اهتماماً عظيماً ببناء المؤسسات التعليمية بكافة مستوياتها، وتوسع جداً في بناء المدارس وإحياء المذاهب الفقهية السنية التي خرجت من مصر أثناء حكم الدولة الفاطمية بعد إغلاق مدارسها ومطاردة علمائها قتلاً وتشريداً ومنعاً. وذلك من خلال ثلاثة محاور:
1- بناء المدارس
فلو أحببنا أن نضع وصفاً مختصراً لتجربة صلاح الدين للنهوض بالعلم في دولته لن نجد أفضل من وصفها بالنهضة المؤسسية.
فقد اعتمد صلاح الدين على بناء المدارس ونشرها في شتى أنحاء دولته بما يضمن له تحقيق هدفه الأهم في بناء المجتمع العلمي الصحيح على عقيدة أهل السنة والجماعة بعد قرنين من الضلال والظلام والجهل والخرافة.
والحق أن صلاح الدين الأيوبي كان متأثراً ومتأسياً في هذا النهج بأستاذه السلطان نور الدين محمود الذي طبق تجربة المدارس في بلاد الشام التي كانت تخضع من قبل للحكم الفاطمي، وقد آتت تجربته ثماراً طيبة وآثاراً حسنة، فعمل صلاح الدين على استنساخها وإعادة إنتاجها في مصر ولكن بصورة أوسع وأكثر مؤسسية لعمق وطول الأثر الفاطمي في البيئة المصرية. فرتبها وأحسن تنظيمها إدارياً ومالياً ليحقق لها انتظاماً واستقلالاً يضمن له سلاسة الأداء واستمرار العطاء، فأوقف عليها الأوقاف الكثيرة وخصص لها العطاءات الجزيلة لرواتب المدرسين والمعيدين ونفقة الطلبة المتفرغين بصورة جعلت تلك المدارس محط رحال طلبة العلم من جميع أرجاء العالم الإسلامي.
ومن أهم المدارس التي ابتناها صلاح الدين والتي ممكن أن يطلق عليها وصف الحكومية أو الرسمية:
المدرسة الناصرية لتدريس المذهب الشافعي: بناها صلاح الدين في (الفسطاط) سنة 566هـ مكان سجن المعونة الذي كان يستخدمه الفاطميون للتنكيل بمعارضيهم، في لمحة لطيفة لزوال عهد الظلم والقهر والجهل وبداية عهد العلم والنور والحرية.
المدرسة القمحية لتدريس المذهب المالكي: بناها صلاح الدين في سنة 566 ه، وسميت بذبك لأنها كان توزع جراية من القمح بانتظام على المدرسين والطلبة.
المدرسة الصلاحية: أنشأها صلاح الدين سنة 570ه، بجوار قبر الشافعي بالقرافة، وجعل التدريس فيها على المذهب الشافعي، وجعل لأستاذ المدرسة راتباً في كل شهر أربعين ديناراً عن التدريس، وعشرة دنانير عن النظر في أوقاف المدرسة، ورتّب له من الخبز في كل يوم ووقف ستين رطلاً، ورواتين من ماء النيل، ووقف عليها حمّاما بجوارها، وحوانيت بظاهرها وجعل فيها معيدين، وكانت من أضخم المدارس وأكبرها حتى وصفها الرحالة ابن جبير بأنها مدينة صغيرة.
المدرسة السيفية: أسسها صلاح الدين سنة 571ه، جعل التدريس فيها على المذهب الحنفي.
وقد أدت سياسة صلاح الدين في التوسع في بناء المدارس العلمية إلى مسارعة الأغنياء والوجهاء والقادة والوزراء والعلماء والتجار وحتى النساء لحذو سير ملكهم صلاح الدين، فبدأوا في التنافس في بناء المدارس والكتاتيب، ومن أهم المدارس التي أُسست في عهده والتي بناها غيره والتي من الممكن أن يطلق عليها وصف الأهلية أو غير الحكومية:
المدرسة الإقبالية: أنشأها خادم صلاح الدين جمال الدين بن جمال الدولة وقسمها إلى قسمين أحدهما للشافعية والآخر للحنفية.
مدرسة منازل العز: كانت في الأصل داراً تابعة للقصر الفاطمي في القاهرة، اشتراها الأمير تقي الدين بن عمر شاهنشاه بن أيوب، ابن أخي صلاح الدين، وجعلها مدرسة للشافعية سنة 574هـ كما بنى هذا الأمير في دمشق المدرسة التقوية، وأنشأ مدرستين بالفيوم للشافعية والمالكية كما بنى مدرسة فخمة في حماة.
المدرسة العادلية: عمّرها أخو صلاح الدين العادل أبو بكر أيوب، في القاهرة وكان بناؤها متقناً محكماً لا نظير له في بنيان المدارس.
المدرسة الشامية: بنتها أخت صلاح الدين ست الشام في دمشق، وهي من مدارس الشافعية. مدرسة الصاحبة: بنتها ربيعة خاتون في دمشق للحنابلة.
المدرسة العاشورية: كانت داراً لليهودي ابن جّميع الطبيب كاتب الأمير بهاء الدين قراقوش، فاشترتها منه الست عاشوراء بنت ساروح الأسدي زوجة الأمير ايازكوج الأسدي، ووقفتها على الحنفية، وكانت من الدور الحسنة، ولكنه لم تعمر طويلاً بسبب موقعها في قلب حي اليهود.
المدرسة الفاضلية: بناها القاضي الفاضل عبد الرحيم بن علي البيساني سنة 580هـ ووقفها على الشافعية والمالكية، ووقف بها ما يقارب مائة ألف كتاب التي اصطفاها من مكاتب الفاطميين.
المدرسة العصرونية: أنشأها قاضي القضاة الفقيه شرف الدين أبو سعيد عبد الله بن محمد بن أبي عصرون. والمدرسة القُطبية: بناها قطب الدين خسرو بن بلبل بن شجاع الهدباني في سنة 570ه وجعلها وقفاً على الفقهاء الشافعية.
المدرسة الأرسوقية: بناها التاجر عفيف الدين عبد الله بن محمد الارسوقي في سنة 570هـ.
يعتبر نظام الوقف أحد الأسس المهمة للنهضة الاسلامية, وقد أدى إلى نشاط واسع في الحركة العلمية والعمرانية والصحية ونتج عنه مؤسسات متكاملة في كافة الميادين الحيوية للمجتمع, عملت على ابتكار الحلول لما يستجد من مشكلات. |
المدرسة الغزالية بدمشق التي أنشأها السلطان صلاح الدين الأيوبي وأوقف عليها سنة 572ه قرية حزم على من يشتغل بها بالعلوم الشرعية أو بعلم يحتاج إليه الفقيه, والمدرسة العصرونية التي أوقفها الإمام عبد الله محمد بن أبي عصرون (ت585ه) ورصد لها مزرعتين في بعلبك.
والمدرسة الجهاركسية التي أوقفها الأمير فخر الدين جهاركس بن عبد الله الصلاحي (ت608ه) والمدرسة المسرورية التي أوقفها مسرور الخصي الطواشي شمس الدين وقيل إنها منسوبة إلى الأمير فخر الدين مسرور الملكي الناصري العادلي واشترط كتاب وقفها أن يكون مدرساً عالماً بالخلاف بين المذاهب.
2- تقريب أهل العلم
كان صلاح الدين حريصًا على العلم محباً له، شغوفاً بأهله، شديد الرغبة في سماع الحديث، يذكر كاتب سيرته القاضي العلامة بهاء الدين بن شدَّاد في كتابه (النوادر السلطانية): "كان متى سمع عن شيخ ذي رواية عالية وسماع كثير، فإن كان ممن يحضر عنده استحضره وسمع منه، وكان يأمر الناس بالجلوس عند سماع الحديث إجلالاً له، وكان يوقِّر العلماء، ويحفظ لهم مكانتهم دائمًا".
تلكم المحبة والتبجيل جعلت صلاح الدين دائم التقريب والمشورة لأهل العلم من الفقهاء والمحدثين والوعاظ، وكان بلاطه ودوائر حكمه عامرة بالفقهاء والعلماء، لا يكاد يقطع أمراً دون مشورتهم والعمل بها. وفي المقابل كان الفقهاء والعلماء نعم العون لصلاح الدين في إدارة شئون دولته وتحقيق رؤيته وخططه نحو إقامة الدولة الإسلامية الراشدة. ةنخص بالذكر في هذا المقام القاضي الفاضل عبد الرحيم البيساني الصديق المقرب لصلاح الدين وذراعه الأيمن في إدارة شئون الدولة وموضع سره ومسشاره الخاص، حتى وُصف بالباب الذي يأتي منه أي قرار لصلاح الدين.
وفي بداية تسلم صلاح الدين للوزارة من قبل الخليفة الفاطمي العاضد أدّى الفقهاء وعلى رأسهم الفقيه عيسى الهكّاري دوراً كبيراً في إقناع كبار الأمراء المعارضين لتولية صلاح الدين أن يدخلوا في طاعته. وكان لهذا الدور الأثر الكبير في تثبيت قدم صلاح الدين في الحكم.
كما كان للفقيه زين الدين بن النجا أيضاً، دوراً مهماً في ترسيخ ملك صلاح الدين في مصر. حيث يعود الفضل إليه في كشف المؤامرة الكبيرة التي تزعّمها عمارة اليمني سنة 569ه والتي استهدفت قتل صلاح الدين وأنصاره، وإعادة الدولة الفاطمية بالتعاون مع الصليبيين والإسماعيلية الباطنية في الشام والمعروفين بالحشاشين. وبنو قدامة الحنابلة وهم من وجهاء دمشق وأعيانه وأكبر اسرة علمية فيها كان من قادة جنده واشتركوا مع في معظم الفتوحات.
ولاشك أن إرجاع مكانة أهل العلم لنصابها الصحيح وتثبيت هبيتهم ورفع قدرهم عند الراعي سيرفعها بالتالي عند الرعية، وسيمكن العلماء من أداء دورهم المنوط بهم من تعليم العلم ونشره بين الناس دون خوف أو كتمان أو مداهنة، وكل ذلك سيعود على المجتمع بأسره بالنفع والخير.
3- التوسع في الوقف العلمي
يعتبر نظام الوقف أحد الأسس المهمة للنهضة الاسلامية, وقد أدى إلى نشاط واسع في الحركة العلمية والعمرانية والصحية ونتج عنه مؤسسات متكاملة في كافة الميادين الحيوية للمجتمع, عملت على ابتكار الحلول لما يستجد من مشكلات.
وعندما جاء صلاح الدين الأيوبي كان العبء عليه أكبر والمهمة أكثر تعقيداً، ففي حين واجه نور الدين مدناً وقرى شيعية فإن صلاح الدين كان عليه مواجهة دولة بكاملها وهي دولة قامت على أساس تشابكت فيه السياسة مع الدين إلى حد أن كل تنظيم سياسي واجتماعي وعلمي وثقافي في هذه الدولة كان انعكاساً لروح العقيدة الفاطمية نفسها. وقد أحسن صلاح الدين الأيوبي استخدام وتفعيل نظام الوقف الإسلامي ووسعه بدرجة كبيرة من أجل تمويل وإدارة المدارس والمؤسسات العلمية والصحية في البلاد.
لقد كانت الأوقاف بمثابة النهر الدائم الجريان الذي طالما رفد المدارس والمراكز العلمية، وكلما كانت المدرسة ضخمةً ببنائها وطلابها ومدرسيها فهذا يعني أن وقفها سيكون ضخماً أيضاً ونهض الوقف مساعداً للدولة وحمل عنها الكثير من أعبائها.
تقييم تجربة صلاح الدين للنهوض بالعلم
لاشك أن تجربة صلاح الدين التاريخي ودوره الكبير في استفاقة الأمة وتوليه لأشرف مهمة عرفتها الأمة الإسلامية في القرون الوسطى؛ تحرير بيت المقدس وإرجاعه لحوزة الإسلام، هذه التجربة تعتبر من أعظم التجارب التاريخية وأكثرها ثراءً وأهمية على المستوى الاستراتيجي في حياة الأمة في حقبة القرون الوسطى. ولسنا بصدد تقييم تجربته الشاملة خاصة وأن خصوم الأمة من كافة التيارات والاتجاهات قد أجمعت على عداوة صلاح الدين الأيوبي وتشويه انجازاته الكبرى، وللشيعة بكافة تياراتها النصيب الأكبر في حملة التشوية والتزييف الكبيرة التي تعرض لها شخص وتجربة صلاح الدين الأيوبي، ولكننا سنقصر الحديث عن تجربته في مجال التعليم.
وبعيداً عن الأحقاد والعداوات الطائفية والدينية التي أُثيرت حول عصر صلاح الدين الأيوبي، يبقى هناك عدة ملاحظات على تجربته العلمية، من أهمها:
1- تركيزه على العلوم الدينية وإهماله للعلوم الدنيوية
لاشك في أن هذه ملاحظة بها قدر كبير من الصحة. فصلاح الدين قد ركزّ بشكل كبير وواسع على التعليم الديني، وكان له من المبررات والقراءات الواقعية للبيئة المصرية ما دفعه لسلوك هذا المسلك.
فالبيئة المصرية بعد قرنين من حكم الباطنية الفاطمية قد تعرضت لتجريف كبير في الوعي والفهم والأصول والفروع، وأصبحت إلى حد كبير بيئة مسمومة مليئة بالآفات والأمراض، ومن ثم كانت تحتاج إلى جرعات مكثفة من العلاجات التي تستهدف إزالة الأمراض والأورام السرطانية في جسد المجتمع المصري، ثم العلاجات التي تستهدف بناء العقل والوعي المجتمعي على مستوى العقيدة والشريعة والأصول والفروع.
ثم إن السمة الغالبة والعامة للتعليم في عصر القرون الوسطى وما قبلها وحتى نهاية تلك الحقبة، هي السمة الدينية، ليس فقط في الحضارة الإسلامية ولكن في سائر الحضارات القائمة وقتها.
ويبقى القول أن تجربة صلاح اليد لم تخلو من العلوم الدنيوية كما يقول منتقدو التجربة، إذ نراه اهتمَّ اهتمامًا بالغًا بالأطباء، وأقام عددًا من المستشفيات التي جلب لها الأطباء المتخصصين من المسلمين وغيرهم في شتى التخصصات، ومن أهم هذه المستشفيات (المارستان) الذي أمر ببنائه في القاهرة، وهو بناء ضخم متَّسع، وضع عليه صلاح الدين مشرفين من ذوي العلم والدراية تكون مهمتهم ليس علاج المرض فحسب ولكن تدريب الطلبة على فنون الطب وتركيب الأدوية ووصف الأمراض، ووضع لديهم خزائن الأدوية، وكان هذا المستشفى مزودا بأَسِرَّة كبيرة ومجهزا لاستقبال المرضى.
كما أن صلاح الدين أدخل دراسة الحساب واللغة والفلك في الكتاتيب الأولية حتى إذا ما ظهر نبوغ بعضهم في علم من العلم الحياتية أفسح له المجال للدراسة عند المتخصصين في أي مكان بالشام أو العراق أو خراسان وهكذا.
2- تأثره بتجربة السلطان نور الدين محمود
والمعروف عن السلطان نور الدين محمود أنه كان زاهداً عابداً أقرب إلى النساك والرهبان منه إلى السلطان حتى اتهمه البعض بالتشدد، وهو محض كذب على السلطانين العظيمين؛ نور الدين وصلاح الدين.
فلاشك في تأثر صلاح الدين بنور الدين فهو أستاذه ومعلمه وأول من اكتشف مواهبه وخلاله الباهرة وتوسم فيه الخير للأمة والإسلام، ولكن هناك بون واضح بين الكبيرين مع اتفاقهما على الأهداف الكبرى والمصالح العليا للأمة الإسلامية.
ولكن كلٌ من تجربة نور الدين وصلاح الدين تعتبران إمتداد لفكرة المدارس النظامية التي أنشأها الوزير السلجوقي الكبير نظام الملك وزير السلطان ملكشاه السلجوقي في العراق ثم امتدت إلى أرجاء العالم الإسلامي وقد أُنشئت لنفس الدوافع والأسباب والغايات التي توافرت في الشام ومصر بسبب سيطرة الفكر الباطني وإتلافه لعقول وعقائد المسلمين، فالقرن الرابع الهجري كان قرن السيطرة الشيعية على مراكز وقواعد العالم الإسلامي. البويهيون في العراق وفارس، الحمدانيون والأسديون في الشام، القرامطة في البحرين وجنوب الجزيرة، الصلحيون في اليمن، الفاطميون في الشام والحجاز ومصر والمغرب.فكان ظهور السلاجقة ثم الزنكيين ثم الأيوبيين طوق إنقاذ للأمة الإسلامية من مستقبل مظلم.
3- إتلافه لكثير من المؤلفات النافعة
وهو انتقاد مصدره الشيعة الذين هالهم ضياع قاعدة ملكهم وزوال شمس إمبراطوريتهم بعد قرنين من الزمان. كما أن مكتبة الفاطميين الضخمة قد تعرضت للإتلاف سنة 461هـ/1068م إثر الخلاف الذي نشب بين الجنود السودانيّين والأتراك في مصر، وأحرق العابثون الكثيرَ من محتوياتها، ويُذكر أنّ بعضهم جعل من جلودِ كُتبها نعالًا له. ولم يبقَ من هذه الدار، يومَ دخل صلاح الدين القاهرةَ بعد قرن تقريبًا من تلك الكارثة، سوى أقل من الربع!!
والمؤرخون المعاصرون لصلاح الدين لم يذكروا حادثة إحراق أو إتلاف مؤلفات دار العلم، فابن الأثير صاحب الكامل في التاريخ، المعاصر للأحداث لم يذكر أنّ صلاح الدين أحرق مكتبةَ القصر البتّة، بل ذكر أنّه باع جميع ما في القصر. ومثلَه المقريزي يكتب، في اتّعاظ الحنفا، أنّ صلاح الدين أخرج سائر ما في القصر من العبيد والإماء، فباع بعضَهم، وأعتق بعضَهم، ووهب منهم، وخلا القصر من ساكنيه، كذلك لم يَذكر الحريق المزعوم القاضي بهاء الدين بن شدّاد (الذي لازم صلاح الدين وكان كاتبَه الخاصّ)، ولا ابنُ أبي طيّ (المؤرِّخُ الشيعيّ المعاصر لصلاح الدين)، ولا ابنُ العماد الحنبليّ، ولا ابنُ واصل الحمويّ (صاحبُ كتاب مفرِّج الكروب) ولو أحرق صلاح الدين مؤلفات دارَ العلم كما زُعِم، لما أغفلها ابنُ الأثير، وهو خصمٌ لصلاح الدين، وكان مواليًا للأتابكيّين وعاملًا عندهم، ولا ابن طيّ وهو مؤرخ شيعي معاصر لصلاح الدين. والحق أن الإتلاف كان قاصراً على كتب الفلسفة والزندقة التي تحوي عقيدة الباطنية فحسب.
صلاح الدين من التفكيك إلى البناء.. قراءة في النهضة العلمية في الدولة الأيوبية ( 1-2)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق