القاتل المتسلسل والضحيّة القادمة
يوسف الدموكي
صحفي، وطالب بقسم التلفزيون والسينما في كلية الإعلام بجامعة مرمرة
حين شنّ الاحتلال عدوانه الأشرس والأكثر جرمًا على قطاع غزّة بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول، مواصلًا سلسلته من الحروب ذات الطرف النظامي الواحد، حيث تهاجم جيوشُه مقاومين شبه مسلّحين وشبه عزّل، بأحدث أسلحته وآخر ما مدّته به وزارات الدفاع الأميركية والغربية، فإنّ الدولَ العربيّة لزمت الخرس والعجب والذهول من هول ما يحدث، كيف لهؤلاء الشبان أن يحرجونا مع العدو إلى تلك الدرجة؟ وعليه فليدفعوا ما كُتب عليهم دفعه، بينما سنحاول نحن الانزواء حتى لا يرانا العدو الممسوح بكبريائه الأرض، وهو متعطّش للدماء ومُشبع بالانتقام، فوضعت كلّ حكومة رأسها في التراب كي لا ترى غزّة تُذبح، فتبقّع الدماء قمصانها المُهندمة ذات الياقات البيضاء.
عدا قوم قليلين حاولوا الاشتباك مع الحدث، لا هم جيوش نظاميّة كاملة، ولا هم جماعات مسلّحة محدودة، وإنّما بين بين، لكنّهم على كلِّ حال ليسوا بقوّة جيوشٍ عربيّةٍ صدِئتْ مدافعها، وعطبت طائراتها في مرابضها دون خوض مغامرة واحدة إلا تجاه بعضهم البعض في آخر خمسين سنة، فقرّر هؤلاء في اليمن ولبنان أن "يساندوا" غزّة، بين من وضع قدميه في البحر وسدّ ما بينهما وقال "أروني من يعبر اليوم وغزة محاصرة"، وبين من حسب حساباته ووضع خططه وكان دقيقًا في استهدافاته التي لم يتفق معها كثير، واختلطت فيها الأجندات المستوردة والتحفظات الأصيلة المعتبرة، فانخرط في القتال ودفع من دمائه الكثير أيضًا، بل وضحّى بأعلى قادته وأغلى رتبه لديه.
وغزّة، واقفة وحدها بين جيرانها لا تجد من يناولها لقمةَ خبزٍ ولا شربة ماء، ناهيك عن أن يناولها سلاحًا أو أن ينصرها شرفًا وكفاحًا، ينفرد بها العدو ويضيّق عليها أرضها، وضاقت على أهلها الأرض بما رحبت، حتى شُحنوا قسرًا في معشار مساحة القطاع، الذي كان كاملًا يضيق بهم أصلًا، ومسّتهم البأساء والضرّاء وزلزلوا، لكن يُهوّن عليهم قليلًا، أنّ ثمّة من يُقصف في اليوم والليلة تضامنًا معهم، ودفعًا لثمنِ إسنادهم والشدّ على أيديهم، بألسنة الصدق والوفاء لا الحناجر المستأجرة بالبيانات مقصوصة الأجنحة، مصفّفة الشعر، مؤجنَبة الفكرة، مدجّنة المروءة والهوُيّة. وكان يكفي غزّة أن يقوم من كلِّ بلدٍ ولد، يذود عنها، فتشعر بأنّ حزنها الهائل الكبير الضخم المفجع له صدى في نفوسِ المحيطين بها.
حتى وصلنا إلى يومٍ تتحوّل فيه كلّ بقعةٍ ناصرت غزّة إلى غزّة أخرى، فباتت مخيّمات الضفة مليئة بالجرافات ومقلوبةً تربتها رأسًا على عقب وتُستهدف بالطائرات والمسيّرات وتُفجّر البيوت والألغام، ويجري اغتيال القادة في السيّارات، ويُعتقل الصغار ويهجّر الأهالي، وباتت لبنان في مرمى الاستهداف، إذ يُقتل منها في اليوم الواحد أكثر من خمسمئة إنسان ويُجرح الآلاف، لا لشيء سوى أنّ ذلك البلد أراد البعض فيه ألّا تكون غزّة وحدها!وضعت كلّ حكومة عربيّة رأسها في التراب كي لا ترى غزّة تُذبح، فتبقّع الدماء قمصانها المُهندمة ذات الياقات البيضاء
لكن المثير للعجب، أنّ قصف دولة عربيّة كاملة السيادة اليوم لا يستدعي ثورةً عربيّةً رسميّةً، ولو ببياناتٍ شديدة اللهجة وإجراءاتٍ صوريّة كطرد السفراء وتعليق الاتفاقات الذليلة المهينة، بل بالعكس، أذن من طين وأذن من عجين، ظانّين بذلك أنهم يتجنبون "العاركة" التي تحدث على الباب، لكن الحقيقة أنّ العاركة في بيتك أصلًا، لكنّك وحدك من تعتبر غرفتك بيتًا منفصلًا، مع أنّ النيران المتصاعدة لا تفهم ذلك، وألسنة اللهب لا تلتزم بحدود حمقاء في داخل من يعتقدونها، والأهم من ذلك أنّ مصّاص الدماء، السفاح، لا يفاضل بين فرائسه، وإنّما بعضها يجرح وهو يقاوم، فلا يموت أبدًا ولو سفك من دمه ما سفك، والبعض يموت ذليلًا غارقًا في ذلّه وخانعًا في مكانه، ولو عاش بعدها أبدًا، وستنبئه الأيّام بما جهل، ويغشيه الذل دفينًا فيه بدلًا من الثرى، وغدًا يرى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق