كاتب وطالب دكتوراة في الأدب من أوزبكستان
تظل رواية "1984" لجورج أورويل بلا شك واحدة من أكثر الأعمال الأدبية شهرة وتأثيرًا. ولعل ما يميز هذه الرواية بشكل خاص عن غيرها من الأعمال الأدبية المكتوبة باللغة الإنجليزية هو الكم الكبير من المصطلحات والتعابير التي أصبحت جزءًا لا يتجزأ من اللغة والثقافة الإنجليزية. ربما كانت هذه إحدى أعظم هدايا أورويل للبشرية: لغة جديدة يمكن من خلالها وصف العصر الحديث الذي يسيطر عليه الرقابة الحكومية، الأخبار الزائفة، وسياسة ما بعد الحقيقة التي نشهدها اليوم. عندما يُقال إن سياسة أو تصرفات حكومة ما هي "أورويلية"، يفهم الجميع بوضوح ما يعنيه هذا الوصف.
إحدى العبارات الشهيرة من "1984" التي قد تكون مألوفة للكثيرين، حتى لأولئك الذين لم يقرأوا الرواية، هي:
"يأتي وقت في مسيرة التاريخ يُعاقب فيه بالموت من يتجرأ أن يقول إن مجموع اثنين واثنين هو أربعة".
ومع أن هذه الكلمات ليست من تأليف أورويل، بل هي اقتباس من رواية "الطاعون" للروائي الفرنسي ألبير كامو التي نُشرت عام 1947، قبل رواية "1984" بعامين، إلا أنها بالطبع، فكرة "اثنان زائد اثنان يساوي خمسة" لها جذور تسبق كلا من أورويل وكامو.
ولا داعي اليوم لأن نتخيل عالماً يصبح فيه الكذب هو الحقيقة بفعل الهيمنة والإخضاع، لأننا بالفعل نعيش في عالم مُعولم يخضع لرقابة صارمة، حيث الناس مبرمجون ومحكومون ومهيؤون لقبول عبوديتهم وأوهامهم.
عالم من التضليل والتزوير واسع النطاق، حيث يمكن أن يصبح "2+2=5" حقيقة معترف بها، والحرية ليست إلا وهماً. هذا الواقع المعاصر بات يتحول تدريجياً إلى تجسيد حي لما كان يعتبر في الماضي خيالاً أدبياً.
فاليوم، تشن حرب وحشية صريحة واضحة المعالم على غزة، ورغم ذلك ما زالت أغلب الحكومات التي تدعي بأنها ديمقراطية تتجاهل أن هناك إبادة، وتسخر سياستها وممارساتها لتمجيد القاتل وسحق الحقيقة مع المقتول.
ولعل بشاعة الواقع اليوم، تفوق خيال أورويل في رواية 1984، حيث لا داعي لوجود وزارة الحقيقة، فأكبر المؤسسات الإعلامية الغربية مع الأحداث الدولية تتعامل بمنطق ازدواجي يخلو من العدالة منذ بداية الحرب على غزة، فتلك المؤسسات تستغل تاريخها المزعوم في صناعة الأخبار بموضوعية، لقلب الحقيقة التي تناسب سياسة دولها، فمنذ اندلاع حرب الإبادة الوحشية على غزة، يُمكن العثور على آلاف الأمثلة التي تميع الحقيقة وقلبها في الإعلام الغربي، ولنأخذ مثالاً بسيطاً من صحيفة نيويورك تايمز، حيث يقول عنوانٌ: " الحرب والأمراض قد تقتل 85 ألف فلسطيني في غزة خلال ستة أشهر ". بشكل فج قرر محررو الصحيفة تجاهل أن الكارثة المحتملة من الأمراض ونقص المياه والموت المتفشي ليست سوى نتائج مباشرة للحرب الشاملة التي تشنها إسرائيل من البر والجو والبحر، بالإضافة إلى الحصار الخانق المفروض على غزة منذ أكثر من نصف عام، وكأنهم يحاولون تحميل غزة بمن فيها وزر ما يحدث، وتبييض وتبرئة المحتل بعدم ذكر اسمه في العنوان.
في "1984"، قدم أورويل مفهوم وزارة الحقيقة، وهي مؤسسة حكومية مسؤولة عن تعديل السجلات التاريخية، وإعادة صياغة الأخبار لتتوافق مع مصالح النظام.
الشعار الشهير "الحرب هي السلام، الحرية هي العبودية، الجهل هو القوة"، ولا أعتقد أن من الصعب إسقاط تلك التخيلات الأدبية على واقعنا اليوم، إذ يشهد العالم كيف أن الإمبراطورية التي تهيمن على مفاصل العالم تسعى لقلب المفاهيم رأسًا على عقب لتخدم مصالحها.
في يومنا هذا، نرى كيف يتم التلاعب بالحقائق حول الحرب على غزة بشكل مشابه، حيث تُصور المقاومة الفلسطينية على أنها الإرهاب، بينما يُبرر إجرام الاحتلال العسكري على أنه دفاع عن النفس. هذه الاستراتيجيات ليست بعيدة عن تلك التي وصفها أورويل؛ حيث يتم إعادة كتابة الواقع ليتماشى مع رواية القوة المهيمنة.
الحرب على غزة تشهد اليوم نفس التلاعب بالحقيقة الذي تنبأ به أورويل. إذ يتم قمع المعلومات، وتحريف الوقائع، ونشر الدعاية لتشويه صورة الضحية وتبرئة الجاني. كما قال أورويل:
"إذا كانت جميع السجلات تحكي نفس القصة، فإن الكذبة تصبح حقيقة وتبقى كذلك إلى الأبد."
هذا الاقتباس يتجسد اليوم في الإعلام الغربي الذي غالبًا ما يتجاهل أو يقلِّل من حجم المعاناة التي يعيشها الفلسطينيون، ويصور الاحتلال وكأنَّه فعل دفاعي مشروع.
في "1984"، كان هناك مصطلح "جريمة الفكر" الذي يعاقب عليه كل من يفكر بشكل مخالف لما تفرضه الدولة. وبالعودة لواقعنا، نرى بكل وضوح العديد من الأمثلة حيث يتم وصف أي محاولة لكشف حقيقة حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل على الفلسطينيين أو لوقف المذبحة التي راح ضحيتها أكثر من 40 ألف من الفلسطينيين بأنها "تحيز" أو "دعم للإرهاب"، ويتم التحقيق والتضييق على كل من يحاول أن يقول لا للمذبحة في بلاد تزعم أن تنعم بالديمقراطية وحرية التعبير، كألمانيا وغيرها.
بهذا الشكل، يتم قمع أي محاولة لنشر الحقيقة، ويُعاد تشكيل الرأي العام ليقبل بالنسخة المشوهة التي تروج لها وسائل الإعلام الكبرى.
لقد صحب أورويل القرّاء إلى عالم خيالي مُرعب يعيش الناس فيه في ظروف مأساوية، حيث ترصدهم شاشات المراقبة على الدوام، ففي رواية أورويل، كانت شاشات المراقبة تراقب الناس على الدوام، مما جعل الرقابة جزءًا لا يتجزأ من حياتهم.
اليوم، لا تختلف الأمور كثيرًا؛ فالرقابة الإلكترونية والرقابة على وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت وسيلة فعالة لقمع الأصوات التي تحاول فضح الحقيقة. فيتم حظر المحتوى، وتوجيه الخوارزميات لتسليط الضوء على الأخبار التي تخدم الرواية السائدة، تمامًا كما كان يفعل النظام في عالم أورويل.
يبدو أن عالم أورويل الخيالي قد أصبح واقعًا نعيشه اليوم.
إن الحرب على غزة ليست حرب فقط على الفلسطينيين، بل هي أيضًا حرب على الحقيقة، حيث يتم تزوير الواقع لخدمة الإمبراطورية الغربية ومصالحها عن طريق التلاعب بالحقائق وقمع الأصوات الناقدة أصبح جزءًا من اللعبة الكبرى التي تسيطر على العالم اليوم، مما يجعلنا نتساءل: هل نحن حقًا أحرار في واقعنا؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق