لهذه الأسباب سيدخل السيسي التاريخ
هل تصدق أن نتوءًا في قاع البحر، عبارة عن صخرة صلدة، أرض قاحلة جرداء، جزيرة غير مأهولة بالسكان، تزيد مساحتها قليلا عن كيلومتر مربع واحد، تقع داخل مياه القطب الشمالي، لا يوجد فيها أي مصادر طبيعية تُذكر، وتقع على مسافة شاسعة من كل صور الحياة، تسببت في نزاع طويل بين بلدين، تواصل على مدار عقود.. حرب باردة استمرت لمدة 50 عاما، عُرفت باسم حروب الويسكي!. إنها صخرة هانز، والصراع من أجل السيطرة عليها بين كندا والدنمارك، إنه النزاع الذي بدأ في عام 1973م، وانتهى باتفاق وُقِّع بشق الأنفس بين البلدين في يونيو 2022، حيث تم تقسيم الصخرة فيما بينهما إلى نصفين.
دعونا نتعرف على أبعاد النزاع:
تقع جزيرة هانز على بعد 18 كيلومترا تقريبا من كل من كندا و”جرينلاند” (ولمعلوماتك فإن جرينلاند هي أكبر جزيرة في العالم، وبالرغم من أنها تنتمي جغرافيا لأمريكا الشمالية، فإنها تتبع سياسيا مملكةَ الدنمارك)، وتلك المسافة تسمح لكل من كندا والدنمارك- طبقا للقانون الدولي- بالمطالبة بملكية الجزيرة، إلا أنه عند توقيع معاهدة حدودية بين البلدين، في عام 1973م، لم يتمكنا من التوصل إلى اتفاق يحسم بشكل قاطع إلى من تعود ملكيتها.
وفي عام 1984، أقدمت كندا على خطوة جريئة، تعلن فيها سيادتها على الصخرة، حيث أنزلت قوات عسكرية عليها، قامت بزرع علم كندا، ودفنت فيها زجاجة من الويسكي.
حينها لم يستطع وزير شؤون “جرينلاند” الدنماركي التغاضي عن مثل هذا الاستفزاز، فسافر بعد أسابيع إلى الصخرة ذاتها، واستبدل بالرمز الكندي المسيء علما دنماركيا وزجاجة من أفضل أنواع الخمور في الدنمارك. ثم ذهب خطوة أبعد مما فعله الكنديون، فترك لافتة مكتوب عليها: “مرحبا بكم في الجزيرة الدنماركية”.
وهكذا استمرت “حروب الويسكي”على مدار 49 سنة تالية، وقد شارك العشرات من الكنديين والدنماركيين في فعاليات وزيارات للجزيرة، تركوا على إثرها بحرا من الأعلام الممزقة واللافتات. لكنه أخيرا في عام 2018، قرر البلدان إنشاء مجموعة عمل مشتركة لحل هذا النزاع، وتوصلا إلى اتفاق تم توقيعه في عام 2022، حسم ملكية الجزيرة بتقسيمها إلى نصفين، وبذلك يصبح لكندا والدنمارك أطول حدود بحرية في العالم بطول 3882 كيلو مترا.
والعجيب، أنه يوجد في العالم عدد مدهش آخر من النزاعات، تدور جميعها حول الجزر والنتوءات الصخرية التي تبرز داخل البحار، وهو ما يبدو محيرا، ويثير التساؤلات، فما هي أهمية تلك الصخور والجزر التي لا أثر فيها للحياة؟ ولماذا تدخل الحكومات في نزاعات مريرة وطويلة، من أجل تملكها والسيطرة عليها؟
وللإجابة على هذا السؤال، يجب أن نعرف أن القوانين الدولية تعتبر المساحة الممتدة إلى 22 كيلومترا أو 13.6 ميلا من شاطئ أي منطقة، ملكاً لمن يملك تلك المنطقة. وبالتالي، فملكية تلك الصخور أو الجزر غير المأهولة بالسكان، سيعطي للدول التي تسيطر عليها، مساحات أكبر داخل المياه من أجل صيد الأسماك، وكذلك فرصة للتنقيب داخلها عن آبار للنفط أو الغاز.
وبين أمثلة تلك النزاعات، تقابلنا جزيرة “نورث روك” أو الصخرة الشمالية، وهي عبارة عن نتوء صخري في المحيط الأطلنطي، بالقرب من كندا وولاية “مين” الأمريكية، وتدعي كلٌّ من الدولتين ملكيتها، ولم تتوصلا حتى الآن إلى اتفاق ينهي هذا النزاع. وهناك نموذج آخر، يتمثل في صخور معروفة باسم جزر “دوكودو”، وهي سلسلة من الجزر الصغيرة تسيطر عليها كوريا الجنوبية منذ عام 1952، بينما تدعي اليابان أن تلك الجزر تابعة لها.
وهناك أيضا جزيرة “ميغينغو”، التي تبلغ مساحتها “هكتارا واحدا، وتقع في بحيرة فيكتوريا بأفريقيا، وتتنازع كلٌّ من كينيا وأوغندا حول ملكيتها. والطريف أنه في وقت من الأوقات، اختفت الجزيرة بأكملها أسفل المياه، لكنْ بعد تراجع البحيرة تناوب جنود كلٍّ من الدولتين على احتلالها والسيطرة عليها، فبملكيتها يتم حسم أمر الصيد في تلك البحيرة.
وفي تقرير لموقع (بي بي سي) سُئل “جوناثان إيال”، مدير الدراسات الأمنية في المعهد الملكي للخدمات الموحدة، عن أسباب النزاعات على الجزر البحرية والصخور، فقال إن الأمر لا يعود فقط إلى الخلاف على المصادر الطبيعية أو الأطماع الحدودية لتلك البلاد، موضحا أن قانون الحدود البحرية الدولي يطبق بالتقادم، بمعنى أن التنازل عن منطقة ما قد يكون له نتائج غير مقصودة في المستقبل البعيد، فإذا قررت الولايات المتحدة -مثلا- التنازل لكندا عن بعض المناطق المتجمدة في القطب الشمالي، فسوف يُستخدم المبدأ ذاته لجعل الولايات المتحدة تقبل بتفسير معين للقانون البحري، لم تكن لتقبل به في مناطق مغايرة.
كما أن السياسيين الذين تمكنوا من إنهاء نزاع ما، يمكن أن توجه إليهم- فيما بعد- الانتقادات، ويُتهم بعضهم بأنهم تنازلوا عن سيادة بلادهم على جزء من أراضيها، ما يدفع الحكومات إلى إبقاء تلك النزاعات معلقة وبلا حل على مدار عقود.
وهنا، يجب أن نُسجل بأنه -يوما ما- سيكتب التاريخ، أن حكومة واحدة، فعلت ببلادها ما لم تفعله من قبل كل أنظمة الاحتلال، إنها حكومة الجنرال “عبد الفتاح السيسي”، الذي استولى على الحكم في بلاده عبر انقلاب عسكري في يوليو/ تموز 2013.
ودعونا نعود بالزمن قليلا إلى الوراء، حيث الثامن من أبريل/ نيسان 2016، حين فوجئ المصريون بقرار “السيسي” التنازل عن جزيرتي “تيران وصنافير” المصريتين للمملكة العربية السعودية، وقد تمت المصادقة على اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين البلدين في 24 يونيو/ حزيران 2017، وبموجبها انتقلت ملكية الجزيرتين لحوزة المملكة.
وتبعد جزيرة تيران التي تبلغ مساحتها 61,5 كلم مربعا قرابة ستة كيلومترات فقط عن الساحل الشرقي لشبه جزيرة سيناء، حيث تقع مدينة شرم الشيخ السياحية، عند مدخل خليج العقبة. أما صنافير، التي تمتد على مساحة 33 كلم مربعا، فتقع على بعد 2,5 كلم أخرى شرقا من جزيرة تيران، وتتحكم الجزيرتان في مدخل خليج العقبة، وميناءي العقبة في الأردن، وإيلات في دولة الاحتلال الإسرائيلي.
وكانت جزيرة تيران من بين القواعد العسكرية الاستراتيجية لمصر في فترة “العدوان الثلاثي” عام 1956م، والجزيرتان هما الشرارة التي أشعلت الحرب العربية الإسرائيلية عام 1967، حين أعلنت مصر نشر قواتها فيهما وإغلاق مضيق تيران، وبهزيمة مصر في الحرب، استولت إسرائيل على الجزيرتين بالإضافة إلى كامل شبه جزيرة سيناء، وفي عام 1982 استعادت مصر السيطرة على الجزيرتين بموجب “معاهدة السلام المصرية-الإسرائيلية” الموقعة في 1979، وتم إعلانهما محميتان طبيعيتان، وأصبحتا مقصدا عالميا مهما في البحر الأحمر يفضله السياح لممارسة رياضة الغوص.
وبتنازل السيسي عن الجزيرتين للسعودية، أصبحت “تيران” مضيقا دوليا بعدما كان مصريا خالصا، وبهذا فقدت مصر ميزة استراتيجية واقتصادية كبرى، فالعبور في خليج العقبة كان حقا أصيلا لمصر وحدها؛ ففي نهاية خليج العقبة جنوبا لا يوجد إلا ممر تيران، ومن نقطة الممر حتى رأس الخليج، تعتبر المياه شبه مصرية”. لكنها اليوم، بعد التنازل عن جزيرتي “تيران وصنافير” باتت مياها دولية، يحق لإسرائيل وغيرها من دول العالم المرور بها.
كذلك خسرت مصر كثيرا من أمنها القومي، حيث تم منح دولة الاحتلال فرصة ذهبية لتنمية اقتصادها وزيادة استثماراتها، من خلال عقد اتفاقيات لنقل البترول من الإمارات عبر سفن عملاقة إلى ميناء “إيلات” مرورا بمضيق تيران، وكانت أول شحنة لها في 28 مايو/ أيار2021، بالإضافة إلى مساعدة الاحتلال على المضي قدما في مشروعه لحفر قناة مزدوجة تربط البحر المتوسط بالبحر الأحمر، ويُراد لها أن تكون بديلا عن قناة السويس، كي تفقد الأخيرة أهميتها الملاحية والتجارية التي تمتعت بها عبر عشرات الأعوام.
وبالرغم من الرفض الشعبي الكبير لقرار التنازل هذا، بالإضافة إلى صدور حكم نهائي من المحكمة الإدارية العليا في مصر في 16 يناير/ كانون الثاني 2016 ببطلان اتفاقية ترسيم الحدود، والإقرار بمصرية الجزيرتين، فإن السيسي أصر على التنازل عنهما، بدعوى اقتناعه بأنهما ملك للسعودية، وأن والدته قد نصتحه وهو صغير، ألا يعتدي على حقوق الغير.
وفي تنازل جديد، لكن هذه المرة بدعوى الاستثمار، قام نظام السيسي ببيع مئات الكيلومترات من الأراضي شديدة الأهمية على ساحل البحر المتوسط شمالي مصر لصالح الإمارات، فيما عرف باسم مشروع رأس الحكمة، وهو المشروع الذي وصفته الحكومة المصرية بأنه أكبر استثمار أجنبي لصالح دولة أخرى داخل البلاد، وفيه يقوم المستثمر الإماراتي بدفع مبالغ مالية تقدر بـ 35 مليار دولار، مقابل حصوله على حق تملك وإدارة مدينة رأس الحكمة في محافظة مطروح، وذلك بعد نزع السلطات المصرية قسرا ملكية المنازل والأراضي فيها من المصريين الذين يتملكونها ويعيشون عليها.
كذلك تم الإعلان في فبراير/ شباط الماضي عن تفاوض النظام المصري على بيع منطقة “رأس جميلة” للمملكة العربية السعودية، بقيمة 15 مليار دولار، وهي المنطقة الاستراتيجية المهمة التي تقع على ساحل البحر الأحمر، ضمن امتداد مدينة شرم الشيخ بمحافظة جنوب سيناء، وتبلغ مساحتها نحو 860 ألف متر مربع، وتتميز بقربها من مطار شرم الشيخ الدولي، كما أنها تطل على جزيرتي تيران وصنافير، التي سبق وأن تنازل عنهما النظام.
وأخيرا (وربما ليس آخرا) صفقة “رأس بناس”، حيث أعلنت حكومة السيسي في الـرابع عشر من سبتمبر/ أيلول الجاري، عن طرحها لشبه جزيرة “رأس بناس” للمستثمرين الأجانب، بالإضافة إلى تحديد 4 إلى 5 مناطق أخرى كبيرة على الساحل الجنوبي للبحر الأحمر، وتعد “رأس بناس” بمحافظة البحر الأحمر، واحدة من أجمل المناطق والجزر في العالم، تحدها من الشمال مدينة “مرسى علم” ومن الجنوب “حلايب وشلاتين”.
وهي منطقة ساحلية تتمتع بإمكانيات طبيعية هائلة؛ حيث تُعد أكبر تجمع للشعاب المرجانية في العالم، ويمتد لسانها بطول 50 كيلومترا داخل مياه البحر الأحمر، وتقع بالقرب من الأماكن الأشهر سياحياً، مثل محمية “وادى الجمال” و”خليج القلعان” وشاطئ “حنكوراب” والذي يطلق عليه اسم “شرم اللولي”، وهو المصنف ضمن أجمل 10 شواطئ في العالم، ومساحة المنطقة الكلية لا تقل عن 200 مليون متر مربع، وهي بذلك تزيد عن مساحة رأس الحكمة البالغة 170 مليون متر.
وباستمرار نظام السيسي في نهجه الرامي للبيع والتنازل عن الأراضي والجزر والمناطق الساحلية الاستراتيجية المهمة التي تملكها بلاده، فقد ضمن دخوله التاريخ كأول نظام حكم (من المفترض أنه ينتمي إلى مصر)، جعل من إضعاف مصر وإفقارها وتدميرها، والتنازل عن مواردها ومقدارتها، والتخلص من عوامل قوتها وأهميتها، مخططا يسير عليه بكل قوة، ويحرص على تنفيذه بمنتهى الدقة والإتقان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق