حلف المصالح المشتركة
( التعاملات السرية بين إيران، أمريكا، إسرائيل)
صدر كتاب مهم جدا يتناول تفاصيل الاتصالات والتعاملات السريّة بين (إيران، أمريكا، إسرائيل) للكاتب “تريتا بارزي” أستاذ العلاقات الدولية في جامعة جون هوبكنز
"التعاملات السريّة بين إسرائيل وإيران والولايات المتّحدة الأمريكية" - هذا ليس عنوانا لمقال لأحد المهووسين بنظرية المؤامرة من العرب، وهو بالتأكيد ليس بحثا أو تقريرا. "دعائيا أو ترويجيا"، لمجرد عرضه للعلاقة بين إسرائيل وإيران وأمريكا وللمصالح المتبادلة بينهم وللعلاقات الخفيّة.
وصف الكتاب بأنه الكتاب الأكثر أهمية على الإطلاق من حيث الموضوع وطبيعة المعلومات الواردة فيه والأسرار التي يكشف بعضها للمرة الأولى وأيضا في توقيت وسياق الأحداث المتسارعة في الشرق الأوسط ووسط الأزمة النووية الإيرانية مع الولايات المتّحدة.
الكاتب هو “تريتا بارزي” أستاذ في العلاقات الدولية في جامعة “جون هوبكنز”، ولد في إيران ونشأ في السويد وحصل على شهادة الماجستير في العلاقات الدولية ثم على شهادة ماجستير ثانية في الاقتصاد من جامعة “ستوكهولم” لينال فيما بعد شهادة الدكتوراة في العلاقات الدولية من جامعة “جون هوبكنز” في رسالة عن العلاقات الإيرانية-الإسرائيلية.
وتأتي أهمية هذا الكتاب من خلال كم المعلومات الدقيقة والتي يكشف عن بعضها للمرة الأولى، إضافة إلى كشف الكاتب لطبيعة العلاقات والاتصالات التي تجري بين هذه البلدان (إسرائيل- إيران – أمريكا) خلف الكواليس شارحا الآليات وطرق الاتصال والتواصل فيما بينهم في سبيل تحقيق المصلحة المشتركة التي لا تعكسها الشعارات والخطابات والسجالات الإعلامية الشعبوية والموجّهة.
كما يكتسب الكتاب أهميته من خلال المصداقية التي يتمتّع بها الخبير في السياسة الخارجية الأمريكية “تريتا بارزي”. فعدا عن كونه أستاذا أكاديميا، يرأس “بارزي” المجلس القومي الإيراني-الأمريكي، وله العديد من الكتابات حول الشرق الأوسط، وهو خبير في السياسة الخارجية الأمريكية، وهو الكاتب الأمريكي الوحيد تقريبا الذي استطاع الوصول إلى صنّاع القرار (على مستوى متعدد) في البلدان الثلاث أمريكا، إسرائيل وإيران.
يستند الكتاب إلى أكثر من 130 مقابلة مع مسؤولين رسميين إسرائيليين، إيرانيين وأمريكيين رفيعي المستوى ومن أصحاب صنّاع القرار في بلدانهم. إضافة إلى العديد من الوثائق والتحليلات والمعلومات المعتبرة والخاصة.
ويعالج “تريتا بارزي” في هذا الكتاب العلاقة الثلاثية بين كل من إسرائيل، إيران وأمريكا لينفذ من خلالها إلى شرح الآلية التي تتواصل من خلالها حكومات الدول الثلاث وتصل من خلال الصفقات السريّة والتعاملات غير العلنية إلى تحقيق مصالحها على الرغم من الخطاب الإعلامي الاستهلاكي للعداء الظاهر فيما بينها.
اللعبة السياسية التي تتّبعها هذه الأطراف الثلاث، ويعرض بارسي في تفسير العلاقة الثلاثية لوجهتي نظر متداخلتين في فحصه للموقف بينهم:
أولا: الاختلاف بين الخطاب الاستهلاكي العام والشعبوي (أي ما يسمى الأيديولوجيا هنا)، وبين المحادثات والاتفاقات السريّة التي يجريها الأطراف الثلاث غالبا مع بعضهم البعض (أي ما يمكن تسميه الجيو-استراتيجيا هنا).
ثانيا: يشير إلى الاختلافات في التصورات والتوجهات استنادا إلى المعطيات الجيو-ستراتيجية التي تعود إلى زمن معين ووقت معين.
ليكون الناتج محصلة في النهاية لوجهات النظر المتعارضة بين “الأيديولوجية” و “الجيو-ستراتيجية”، مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ المحرّك الأساسي للأحداث يكمن في العامل “الجيو-ستراتيجي” وليس “الأيديولوجي” الذي يعتبر مجرّد وسيلة أو رافعة.
بمعنى ابسط، يعتقد بارزي أنّ العلاقة بين المثلث الإسرائيلي- الإيراني - الأمريكي تقوم على المصالح والتنافس الإقليمي والجيو-استراتيجي وليس على الأيديولوجيا والخطابات والشعارات التعبوية الحماسية... الخ.
وفي إطار المشهد الثلاثي لهذه الدول، تعتمد إسرائيل في نظرتها إلى إيران على “عقيدة الطرف” الذي يكون بعيدا عن المحور، فيما تعتمد إيران على المحافظة على قوّة الاعتماد على “العصر السابق” أو التاريخ حين كانت الهيمنة “الطبيعية” لإيران تمتد لتطال الجيران القريبين منها.
وبين هذا وذاك يأتي دور اللاعب الأمريكي الذي يتلاعب بهذا المشهد ويتم التلاعب به أيضا خلال مسيرته للوصول إلى أهدافه الخاصّة والمتغيّرة تباعا.
واستنادا إلى الكتاب، وعلى عكس التفكير السائد، فإن إيران وإسرائيل ليستا في صراع أيديولوجي بقدر ما هو نزاع استراتيجي قابل للحل. يشرح الكتاب هذه المقولة ويكشف الكثير من التعاملات الإيرانية – الإسرائيلية السريّة التي تجري خلف الكواليس والتي لم يتم كشفها من قبل. كما يؤّكد الكتاب في سياقه التحليلي إلى أنّ أحداً من الطرفين (إسرائيل وإيران) لم يستخدم أو يطبّق خطاباته النارية، فالخطابات في واد والتصرفات في واد آخر معاكس.
وفقا للكاتب بارزي، فإنّ إيران الثيوقراطية ليست “خصما لا عقلانيا” للولايات المتّحدة وإسرائيل كما كان الحال بالنسبة للعراق بقيادة صدّام وأفغانستان بقيادة الطالبان. فطهران تعمد إلى تقليد “اللاعقلانيين” من خلال الشعارات والخطابات الاستهلاكية وذلك كرافعة سياسية وتموضع ديبلوماسي فقط. فهي تستخدم التصريحات الاستفزازية، ولكنها لا تتصرف بناءاً عليها بأسلوب متهور وأرعن من شانه أن يزعزع نظامها. وعليه فيمكن توقع تحركات إيران وهي ضمن هذا المنظور “لا تشكّل “خطرا لا يمكن احتواؤه” عبر الطرق التقليدية الدبلوماسية.
وإذا ما تجاوزنا القشور السطحية التي تظهر من خلال المهاترات والتراشقات الإعلامية والدعائية بين إيران وإسرائيل، فإننا سنرى تشابها مثيرا بين الدولتين في العديد من المحاور بحيث أننا سنجد أنّ ما يجمعهما أكبر بكثير مما يفرقهما.
كلتا الدولتين تميلان إلى تقديم أنفسهما على أنّهما متفوقتين على جيرانهم العرب (superior). إذ ينظر العديد من الإيرانيين إلى أنّ جيرانهم العرب في الغرب والجنوب اقل منهم شأنا من الناحية الثقافية والتاريخية وفي مستوى دوني.
رابط الكتاب
https://drive.google.com/file/d/1PewVEMa4k2JPOfPCM1WGkYGY-C7my5d-/view
المضدر:شبكة البصرة
الاثنين 11 شوال 1444 / 1 آيار 2023
*************
التعاملات السرّية بين إسرائيل وإيران والولايات المتحدة
تأليف د. تريتا بارزي
فقرات مهمة من كتاب: حلف المصالح المشتركة
موقع الراصد
تمهيد: هذه فقرات من كتاب تريتا بارزي الكاتب الإيراني/ الأمريكي رئيس المجلس الوطني الأمريكي الإيراني والمدرس بجامعة هوبكنز بالولايات الأمريكية المتحدة، ونهدف من نقل هذه الفقرات تقديم لب هذا الكتاب القيم والذي يتناول تاريخ العلاقات بين مثلث أمريكا إسرائيل إيران، والتحولات السياسية ومستقبل العلاقات.
ليكون القارئ المسلم والعربي على اطلاع متجدد بالدراسات الرصينة حول الموضوع من مصادر تحسب على أعضاء المثلث نفسه!
ننبه إلى أن عناوين الفقرات من وضعنا وليست من الكتاب. الراصد
أولاً:علاقات إيران وإسرائيل
إسرائيل ترفض اغتيال الخميني زمن الشاه!
فرّ الشاه، وسلّم شهبور بختيار مقاليد السلطة، وهو معارض بارز لحكم الشاه ولم يكن موضع ثقة الشاه، ولا الإسلاميين، ولا اليساريين. عرض الموساد دعمه على بختيار الذي ألمح إلى أنه سيكون مفيداً قيام إسرائيل "بإسكات الخميني"، وهو آية الله الإيراني المتشدد الذي تزعّم المعارضة في وجه الشاه من مقره خارج باريس. وعرض بختيار نصح الشاه بالتقدم بالطلب مباشرة إلى تل أبيب، ولكن إسرائيل رفضت طلب بختيار، مذكّرة رئيس الوزراء الإيراني الجديد بأن إسرائيل ليست شرطي العالم. (انقلبت الأدوار بعد عقد من ذلك. فاستناداً إلى تقارير صحفية، دخل عملاء إيرانيون منزل بختيار بباريس ـ حيث كان لاجئاً ـ وقتلوه بوحشية).
(ص122)
إسرائيل تتودد إلى ثورة الخميني!
بعد شهور قليلة فقط على انتصار الثورة، وبالرغم من قطع العلاقات، عرضت تل أبيب إعادة عدد من الدبابات الإيرانية أميركية الصنع والتي كان الشاه قد شحنها إلى إسرائيل من أجل تحديثها، وقبلت إيران ذلك العرض. وسعت إسرائيل بعدة طرق إلى التودد إلى حكومة الخميني، ولكنها وجدت أن مشاعر مختلطة تنتاب طهرا إزاء مدى فائدة الدولة اليهودية.
(ص140)
وزير إيراني يزور إسرائيل لشراء الأسلحة بداية حكم الخميني!
في مستهل العام 1980، أي بعد شهور من اندلاع أزمة الرهائن، قام أحمد كاشاني، النجل الأصغر لآية الله العظمى أبو القاسم كاشاني الذي لعب دوراً رئيسياً في تأميم صناعة النفط الإيرانية في العام 1951، بزيارة إسرائيل ـ وعلى الأرجح أنه كان أول إيراني يقوم بذلك بعد الثورة ـ لمناقشة مبيعات الأسلحة والتعاون العسكري ضدّ البرنامج النووي العراقي في أوزيراك. بالرغم من أنه عرّف عن نفسه بأنه "مواطن غير رسمي قلق"، أثمرت رحلته عن موافقة بيغن على شحن إطارات لطائرات الفانتوم المقاتلة إضافة إلى شحن أسلحة إلى الجيش الإيراني. جاء قرار بيغن متناقضاً تماماً مع مصلحة الولايات المتحدة وسياسة واشنطن الصريحة القائمة على فرض عزلة على إيران لتأمين تحرير الرهائن الأميركيين. انتاب كارتر الحنق من عدم تحسس بيغن للآلام التي كنت تعاني منها أميركا. وبعد تبادل عنيف للعبارات بين الرئيسين العنيدين، وبّخ كارتر إسرائيلّ بتعليقه المبيعات المستقبلية من قطع الغيار للدولة اليهودية.
لكنّ تحدّي بغين آتى ثماره، فقد بادل آية الله الخميني الخطوة الإسرائيلية بالسماح لعدد كبير من اليهود الإيرانيين بمغادرة إيران. عبر الآلاف منهم نحو باكستان باستخدام الحافلات، ومن هناك، جرى نقلهم بواسطة الطائرات إلى أستراليا حيث سُمح لهم بالهجرة إلى الولايات المتحدة أو إلى إسرائيل. واستناداً إلى محمد رضا أمين زاده، وهو مسؤول إيراني فرّ من البلاد في العام 1985، أجرى عقيدة في الجيش الإسرائيلي اسمه يوري المفاوضات على الصفقة، والذي زار إيران في مستهل العام 1980.
كشف استعداد إيران للتعامل مع إسرائيل كيف أن المآزق التي كانت تعاني منها طهران حدّت من قدرتها على متابعة أهدافها الإيديولوجية. خلال هذه المرحلة المبكرة، أظهر الثوريون ميلاً إلى وضع الإيديولوجية جانباً لتقديم أمنهم ومصالحهم الخاصة. في لحظة معينة، قام أحد المقربين من آية الله الخميني بإخباره بأن هناك شحنة كبيرة من الأسلحة تفكر إيران بشرائها ومصدرها إسرائيل. سعى هذا الشخص إلى الحصول على موافقة آية الله الخميني على المضي قدماً في صفقة الشراء. وسأل آية الله الخميني إن كان من الضروري مناقشة مصدر الأسلحة والاستعلام عنه عند القيام بعملية الشراء، فأجاب ذلك الشخص بالنفي. فردّ عليه آية الله الخميني بهدوء، "إذاً، نحن لا نبالي".
بدا وضحاً بشكل متزايد أن خطاب إيران المعادي لإسرائيل لا يتطابق مع سياستها الفعلية. ففي الوقت الذي كانت إيران تتعامل فيه سرّاً مع الحكومة الإسرائيلي، كانت تدين علناً الدولة اليهودية، وتشكك في حقها في الوجود. على سبيل المثال، دعا وزير الخارجية الإيراني في 14 أغسطس/ آب 1980 إلى وقف مبيعات النفط إلى الدول التي تدعم إسرائيل. وبعد صخب كبير، لم يتم تنفيذ ذلك التهديد. ويشرح خبير في قضايا السياسة الخارجية الإيرانية يقيم بطهران المسألة فيقول: "لعبت المعارضة الإيديولوجية لإسرائيل دوراً لصالح هذا النظام قبل انتصار الثورة. وبعد أن تولّى الثوريون السلطة، تصرفوا بناء على مبادئ مختلفة. إحدى الركائز الأساسية للسياسة الخارجية للحكومة الثورية كانت "المعارضة الخطابية لإسرائيل، والتعاون العملي... مع الدولة اليهودية".
من الواضح، أن الترتيبات لم تكن مثالية بالنسبة إلى إسرائيل، لكن منطق المبدأ المحيطي أرغم إسرائيل على التودد إلى الإيرانيين. فتصاعد شعبية السادات في الولايات المتحدة، وعلاقات بيغن الخاصة المجمّدة مع كارتر، عقّدا الخيارات الاستراتيجية الإسرائيلية. فإذا كان التقارب الأميركي العربي بعد كامب ديفيد سيتعزز أكثر، فإن حاجة إسرائيل إلى ثقل موازِن إقليمي للعرب ـ إيران ـ سيزداد تبعاً لذلك. لذلك، كان من الضروري إبقاء الأبواب مفتوحة للفوز بإيران مجدداً. ويعلّق غاري سيك، الذي خدم في مجلس الأمن القومي الأميركي في ذلك الوقت، على ذلك بالقول: " من منظور إسرائيلي، كانت تلك خطة استراتيجية بعيدة المدى، كانت تلك السياسة المحيطية. كانوا يحاولون تكرار التجربة الأثيوبية مع إيران" . لكن في 22 سبتمبر/ أيلول 1980، تحققت تكهنات الشاه بأن صدام حسين سيهاجم إيران عندما يُعطى الفرص؛ بعد خمس سنين فقط من التوقيع على اتفاقية الجزائر. وبدلاً من أن تجد إسرائيل نفسها أكثر اعتماداً على إيران، كانت طهران هي التي وجدت نفسها فجأة في حاجة ماسة إلى قدرة إسرائيل على الحصول على الأسلحة الأميركية.
(ص 141 ـ 143)
جوهر السياسة الإيرانية!
انسجمت الحقيقة مع الإيديولوجيات في طهران. فبغزو إيران، جسّد صدام حسين الخطر العربي الذي يهدد إيران، وزاد من تأثير القوى الجيوسياسية التي أوجدت المحور الإسرائيلي الإيراني قبل عدة عقود. يمكن للحماسة الإيديولوجية أن تدافع عن إيران إلى حدّ معين، ودار جدال بين الثوريين بكثافة داخل الدوائر المغلقة حول ما إذا كان يوجد شيء اسمه "مصلحة قومية" أو ما إذا كان ينبغي على الإيديولوجية وحدها أن تملي على الدولة أفعالها. مع تزايد الصعوبات الناشئة عن الحرب، مالت النقاشات بشكل متزايد إلى البراغماتية. وبالرغم من أن هذا الميل لم يبدأ إلاّ في الشهور التي تلت انتصار الثورة، فقد زاد اعتداء صدام وعزلة إيران من حدّة التحوّلات في السياسة الخارجية الإيرانية ـ في سلوكها وليس في خطابها ـ بعيداً عن الإيديولوجية ونحو النهج العملي والمنفعة الذاتية. في النهاية، لم يعد في مقدور إيران صدّ الجيش العراقي الغازي بدون توسيع قنواتها مع إسرائيل وواشنطن من أجل شراء الأسلحة وقطع الغيار للعتاد الحربي المنوع في الولايات المتحدة.
بعد أن بدأ مفهوم المصلحة القومية يفرض هيمنته، بدأ العديدون يجادلون بالحاجة إلى فتح قنوات مع الولايات المتحدة، وحتى استخدام وسطاء إسرائيليين إذا لزم الأمر. لكن كان يتعين الإبقاء على كافة الاتصالات مع الإسرائيليين سرّية لأن القنوات المفتوحة ستقوّض مصداقية إيران الإيديولوجية. لكن بدلاً من الرجوع إلى أنماط السياسة الأولى التي كان يتّبعها الشاه في تحالفه مع إسرائيل ومع الغرب، توصل الثوريون إلى استنتاج مختلف، وهو استنتاج أقرب إلى طريقة الشاه في التفكير بعد التوقيع على اتفاقية الجزائر، وهو أن غزو صدام ـ الذي لم يكن بأي حال سيقنع إيران بالتخلّي عن فكرة التقرّب من جيرانها العرب والسنّة وربط مصيرها بمصير إسرائيل ـ قوّى على نحو يوحي بالتناقض من اعتقاد حكومة آية الله الخميني بأن التوصل إلى تسوية مع العرب عامل حيوي في أمن إيران الدائم والبعيد المدى.
برزت من المأزق الاستراتيجي لإيران ـ مع جذب كل من القوى الإيديولوجية والاستراتيجية السياسةَ الخارجية الإيرانية في اتجاهات مختلفة ـ استراتيجية متعددة المراحل لا تزال تربك المحلّلين السياسيين والقادة الأجانب على حدِّ سواء. فبدلاً من تفضيل إيجاد توازن مع العرب عبر التحالف مع إسرائيل، أو السعي إلى التوصل إلى تسوية مع العرب عبر تولّي الدور الريادي في مواجهة إسرائيل، اختارت طهران القيام بالأمرين معاً عبر التمييز بين سياستها العملانية وخطابها العلني. فمن ناحية، تعاونت إيرانُ سرّاً مع إسرائيل في المسائل الأمنية، ورفعت حدّ خطابها المعادي لإسرائيل إلى مستويات أعلى بكثير للتغطية على تعاملاتها معها. هدفت هذه السياسة، التي ربما برزت كحل وسطي بين الفصائل ذات الدرجات المتفاوتة من الحماسة الإيديولوجية داخل الحكومة، إلى جعل المصالح الإيديولوجية والاستراتيجية يقويّ بعضها البعض الآخر. تضمنت لائحة الأهداف ضمان الأمن بعيد المدى بوصفها دولة غير عربية في الشرق الأوسط، وإيجاد مكانة متفوقة في المنطقة بالرغم من الانقسام العربي ـ الفارسي أو السنّي ـ الشيعي، وأخيراً، النقاوة الإيديولوجية لحماية هوية الثورة واستخدام الإيديولوجية الإسلامية لإيران كوسيلة لتسهيل بلوغ الهدفين السابقَين.
(ص 148 ـ 149)
ضرب الشعوب العربية بحكوماتها من سياسات إيران!
لكن الإسلام السياسي والمعارضة لإسرائيل خدما غايات استراتيجية أيضاً. فبعد الفشل في تصدير الثورة وإسقاط الأنظمة في الدول العربية المجاورة، سعت إيران إلى استغلال وتوسيع الفجوة بين الشعوب العربية ـ الشارع العربي ـ وبين والحكومات الفاسدة وغير الشعبية عبر استجداء الاعتزاز الديني لدى العرب وشعورهم بالإحباط من عجز الحكومات العربية إزاء إسرائيل والقوى العظمى.
(ص 150)
العراق هو الخطر على إيران!
لكن خطاب إيران العنيف الموجّه ضدّ إسرائيل كان مجرّد خطاب؛ كلمات. ففي انتصار للواقعية على الإيديولوجية، كانت إيران حريصة على عدم ترجمة هذا الخطاب إلى أفعال ملموسة، لأن إيران لا تتحمل الدخول في مواجهة مع الدولة اليهودية في غمرة حربها مع العراق. في هذا الصدد، قال لي نائب وزير الخارجية الإيراني السابق عباس مالكي: "كان صنّاع السياسة الإيرانية أذكى من أن يجعلوا من إسرائيل خطراً مباشراً على إيران، لأنه في ذلك الوقت، كان العراق هو الخطر".
( ص 151)
حقيقة سياسة إيران ودور حزب الله!
ففي العام 1986، اندلعت اشتباكات بين حزب الله والحزب القومي السوري الاجتماعي الموالي لسوريا نتيجة للجهود سوريا الهادفة إلى إخضاع حزب الله لسيطرتها. وهذا ما وضع حليف إيران بلبنان على طرفي نقيض مع حليف إيران ضدّ العراق، فاختارت طهران الحليف الثاني. جدد قرار آية الله الخميني التأكيد على الأهداف الإيديولوجية لإيران مع ضمان عدم متابعة تلك الأهداف بطريقة نشطة بالضرورة. سيبقى تحرير القدس أداة خطابية للفوز بالشرعية في العالم العربي، ولكنه ليس قيمة مثالية في حدّ ذاتها ينبغي السعي إليها عبر القيام بأعمال ملموسة، لكي لا تتعرض حاجات إيران الأمنية قصيرة المدى إلى الخطر. يجادل نائب وزير الخارجية السابق وازي، بالقول: "جدد التأكيد على أن سياستنا تجاه المنطقة تملك جانباً ناعماً وآخر قاسياً للقوة. إننا نعبّر دائماً عن آرائنا ومعتقداتنا. لكن ذلك لا يعني أننا بحاجة إلى تجسيد تلك الآراء في سياستنا الفعلية" . بتجنّب التورّط بشكل مباشر في القضية الفلسطينية، يمكن لإيران مراعاة حاجاتها الأكثر إلحاحاً. ويصرّ نائب وزير الخارجية السابق عباس مالكي على القول بأنه "كان قرارً استراتيجياً عميقاً. ولو أن آية الله الخميني لم يعارض في ذلك الوقت هذه الخطوة، لما كانت إيران ستتمكن من مقاتلة صدام". يمكن فهم المعارضة الشديدة المتفجرة لإسرائيل ـ التي كانت إيران في أمسّ الحاجة إليها للحصول على إمدادات من الأسلحة ـ بدون ترجمة ذلك الخطاب إلى جهود عملية فقط على ضوء مركزية طموحات إيران إلى قيادة العالم الإسلامي.
الأهم من ذلك ربما هو أن دعم إيران لحزب الله كان مدفوعاً بجهودها الهادفة إلى نشر نموذجها الإسلامي السياسي لكي تتبوأ مركزاً قيادياً في العالم الإسلامي أكثر مما كان مدفوعاً بمعارضة إسرائيل. يشرح سفير إيران لدى لبنان الأمر فيقول: "إذا ركّزنا على النقطة التي تقول بأن لبنان يعتبر قلب البلدان العربية في الشرق الأوسط، ومنصة يجري توزيع الأفكار المختلفة إلى باقي أنحاء العالم العربي انطلاقاً منها، يمكننا الاستنتاج بأن وجود حركة إسلامية في ذلك البلد سيثمر عن ظهور حركات إسلامية في مختلف أنحاء العالم العربي.
( ص 152ـ 153)
إسرائيل تساند إيران في حربها مع العراق!
بعد مرور ثلاثة أيام على دخول القوات العراقية الأراضي الإيرانية، قطع موشي دايان زيارة خاصة كان يقوم بها إلى فيينا لعقد مؤتمر صحفي لحثّ الولايات المتحدة ـ في غمرة أزمة الرهائن ـ على نسيان الماضي ومساعدة إيران على مواصلة دفاعها عن نفسها. بعد ذلك بيومين، قال نائب وزير الدفاع الإسرائيلي موردخاي زيبوري لصحيفة معاريف الإسرائيلية بأن إسرائيل ستقدم مساعدات عسكرية لإيران في حال غيّرت موقفها العدائي من الدولة اليهودية: "يمكن لإسرائيل أن تقدم مساعدات هامة لإيران وأن تمكّنها ـ من وجهة نظر لوجستية ـ من مواصلة حربها مع العراق. بالطبع، هذا لا يمكن أن يحدث طالما أنه لم يطرأ تغيير جدّي في النظام الإيراني المتطرّف".
تنقلت إسرائيل برشاقة على عدة جبهات. ففي زيوريخ، أفيد بأنه تم عقد لقاء جمع بين مسؤولين إيرانيين وإسرائيليين لإبرام صفقة أسلحة. وهناك، ناقش العقيد الإسرائيلي بن يوسف ونظيره الإيراني العقيد زارابي، مدير المجمّع الصناعي العسكري بإيران اقتراحات كثيرة، منها اتفاق يسمح لتقنيين إسرائيليين بتدريب الجيش الإيراني على تعديل العتاد الحرب أميركي الصنع بيحث يتلاءم مع قطع الغيار إسرائيلية الصنع، وفي واشنطن، حثّ السفيرّ الإسرايلي لدى الأمم المتحدة، إفراييم إيفرون، وزيرَ الخراجية الأميركي إدموند موسكي على تليين موقف إدارة كارتر من مبيعات الأسلحة إلى طهران مع نقل هواجس تل أبيب من مضامين الانتصار العراقي. وعلى العكس من رغبات واشنطن، تراجع بيغن عن الوعد الذي قطعه لكارتر واستأنف مبيعات الأسلحة وقطع الغيار لإيران.
(ص155)
إيران تساعد إسرائيل على ضرب المفاعل النووي العراقي سنة 1981م!
لم تتخلَّ إسرائيل عن فكرة إعادة بناء علاقاتها مع طهران. ربما كانت اتصالات إسرائيل المكثفة مع الجيش الإيراني هي التي مهدت الطريق أمام أكثر تدخلات إسرائيل حسماً في الحرب. ففي 7 يونيو/حزيران 1981، أقلعت، ثماني طائرات إسرائيلية من طراز أف ـ 16 وأربع طائرات من طراز أف ـ 15 قاعدة إتزيون الجوية في ما أُطلق عليه العملية أوبرا. كان هدف تلك المهمة مفاعل البولتونيوم البحثي العراقي في أوزيراك والذي يُشتبه في أنه يُستخدم في تطوير موادّ لصنع أسلحة دمار شامل. أدّت الضربة الجوية إلى تدمير موقع المفاعل بسرعة، وأعادت برنامج الأسلحة النووية العراقي عدة سنين إلى الوراء. عادت جميع الطائرات إلى إسرائيل سالمة مع الغسق في عملية اعتّبرت خالية من الأخطاء، واستناداً إلى صحيفة صنداي تلغراف اللندنية، استعانت إسرائيل بصور فوتوغرافية وخرائط إيرانية للمنشآت النووية. كان هجوم أوزيراك قد نوقش من قبل ضباط إسرائيليين كبار ومندوب عن نظام آية الله الخميني بفرنسا قبل شهر من تنفيذه، استناداً إلى آري بن ميناشي الذي شارك عن قرب في الاتصالات الإسرائيلية الإيرانية في مستهلّ الثمانينيات. في ذلك الاجتماع، شرح الإيرانيون تفاصيل هجومهم غير الموفّق على الموقع في 30/ سبتمبر/ أيلول 1980، ووافقوا على السماح للطائرات الإسرائيلية بالهبوط في مطار إيراني بتبريز في حال الطوارئ. وسواء لعبت إيران دوراً في قصف أوزيراك أم لا، استغلّ العراق الهجوم الإسرائيلي في دعايته الهادفة إلى تقويض الجهود التي تبذلها إيران لإعطاء دورها القيادي في العالم الإسلامي صبغة شرعية. قال العراقيون بأن إيران تخوض حرباً إسرائيلية.
(ص 157 ـ 158)
إسرائيل هيئت المناخ لتصدير ثورة إيران للبنان!
كان العالم في العام 1983 مكاناً مختلفاً عما هو عليه اليوم. ففيما كان دونالد رامسفيلد، المبعوث الخاص للرئيس ريغان، يغدق الثناء على صدام حسين ببغداد، كانت إسرائيل تحثّ واشنطن على عدم الالتفات إلى الدعوات الإيرانية التي تطالب بتدمير الدولة اليهودية، وكان المحافظون الجدد يخططون للتقارب مع نظام الخميني، فيما كانت إيران ـ وليس الولايات المتحدة ـ تُعتبر بعيدة عن الواقع بتخيّلها بروز هلال شيعي.
بدلاً من مواجهة نفوذ إيران في المنطقة، وتحذير الغرب من الهيمنة الإيرانية، سلّمت إسرائيلُ إيرانَ عن غير قصد ـ باجتياحها لبنان ـ نجاحها الوحيد في تصدير ثورتها إلى العالم العربي. بدأ الاجتياح الإسرائيلي في 6 يونيو/ حزيران 1982 ردّاً في الظاهر على محاولة مسلّحين فلسطينيين اغتيال شلومو أرغوف، سفير إسرائيل لدى المملكة المتحدة. غير أن أرييل شارون، الذي كان حينها وزير الدفاع في إسرائيل، كان يخطط لاجتياح لبنان منذ عدة شهور بغرض التخلّص من وجود منظمة التحرير الفلسطينية هناك؛ منذ أواخر العام 1981 على أقل تقدير. مع أن منظمة التحرير كانت ملتزمة بوقف إطلاق النار منذ صيف العام 1981، حسب شارون ورئيس الوزراء مناحيم بغين أنه في حال استطاعا القضاء على وجود المنظمة بلبنان، فسيتمكنا من عكس ميل القوة الدبلوماسية المتنامية للمنظمة، وإخماد الشعلة الفلسطينية الوطنية داخل الأراضي المحتلّة.
جنوب لبنان موطن تقليدي للطائفة الإسلامية الشيعية المحرومة بلبنان. كان الشيعة مستائين من منافسة اللاجئين الفلسطينيين لهم على الموارد المحلّية، وكذلك كانوا مستائين من تصرفات منظمة التحرير في الجنوب. لكنّ الاجتياح الإسرائيلي للجنوب، وطول المدة التي بقي فيها الإسرائيليون في الجنوب، وإنشاؤهم للمنطقة الأمنية أشعر الشيعة بالخوف، وسرعان ما ثاروا على إسرائيل لأنها حرمت الشيعة من إمكانية الوصول إلى الأسواق الجنوبية، وبدأت تغرق اقتصادهم المحلّي بالبضائع الإسرائيلية، مما ألحق أضراراً جسيمة بالمصالح الاقتصادية المحلّية. بالإضافة إلى ذلك، ألحق الاجتياح الإسرائيلي الكثير من الدمار بلبنان، ولم يعمل سوى على زيادة مأساة اللبنانيين الذين كانوا يعانون أصلاً من حرب أهلية استمرّت سبع سنين. قُتل نحو من 20.000 لبناني في ذلك الاجتياح، وشُرّد 150.000 آخرون. وفي سبتمبر/ أيلول 1982، نُفذت مجزرة مخيمي صبرا وشاتيلا للاجئين الفلسطينيين ببيروت. وبموافقة إسرائيلية ضمنية، اغتصب في تلك المجزرة، وقتل، وشوّه عدة آلاف من اللاجئين المدنيين.
هذه المحنة التي عانى منها الشيعة في ظل الاحتلال الإسرائيلي جعلتهم أكثر تقبّلاً لرسالة طهران. في مواجهة خصم إسرائيلي قوي، احتاج الشيعة إلى حليف خارجي، وكانت طهران أكثر من مستعدّة للعب هذا الدور؛ ليس بدافع من مشاعرها المعادية لإسرائيل بل لإيجاد معقل قوي لها في دولة عربية. كانت طهران في أمسّ الحاجة إلى تصدير ثورتها. وهي فشلت في ذلك في العراق بالرغم من أن أغلب السكان هم من الشيعة. والآن، وبفضل الاجتياح الإسرائيلي للبنان، حصلت إيران على فرصة لزرع بذور ثورة إسلامية في المشرق، ومن رحم الاجتياح الإسرائيلي وُلدت حركة شيعية جديدة ونشيطة تستلهم من الثورة الإيرانية. بدأت الحركة بعدد صغير من المجموعات المسلحة من الشباب المنظمين تحت راية الإسلام، وكرّست نفسها لمقاومة الاحتلال الإسرائيلي. مع مرور الوقت، توحّدت هذه المجموعات ـ من خلال المعونات والمساعدات الإيرانية ـ ضمن ما تبيّن أنه أكثر أعداء إسرائيل منعة؛ حزب الله اللبناني.
(ص 161 ـ 162)
نفاق السياسة الإيرانية!
من جانبهم، أنكر الإيرانيون بشدّة إجراء أية مفاوضات مع الإسرائيليين، فأعلن رفسنجاني في أواخر نوفمبر/ تشرين الثاني بأننا "لم نفاوض إسرائيل أبداً... من أجل شراء أسلحة. وفي حال تبين لنا أن الأسلحة التي وصلتنا جاءت عبر إسرائيل، فلن نستخدمها في جبهات القتال". لكن رفسنجاني أوضح بأن إيران لا تزال على استعداد لتحرير الرهائن الأميركيين في لبنان في حال قامت واشنطن بتسليم الأسلحة التي اشتراها الشاه الراحل. وطالبت العناصرُ اليسارية بإيران بفتح تحقيق، لكن بعد استشعار آية الله الخميني بالضرر الذي سيلحقه الكشف عن الاتصالات الإيرانية الإسرائيلية بصورة إيران في العالم الإسلامي، تدخّل شخصياً ووضع حداً للمطالب بفتح تحقيق.
مع فتح تحقيق أو بدونه، كان ضرر كبير قد وقع أصلاً. فقد نفّست الدول العربية عن غضبها من واشنطن لدعمها إيران من خلال إسرائيل ضدّ صدام حسين. بالنسبة إلى بعض الدول، كانت الإيديولوجية الأصولية لإيران أشدّ خطراً من إسرائيل. والنتيجة هي أن هذه القضية وضعت العلاقات العربية الإيرانية على مسار لولبي هابط. فقد أصبحت العلاقات مع بعض الدول العربية غير قابلة للإصلاح. جاء ردّ طهران متوقعاً؛ المزيد من الشجب لإسرائيل ولكافة الحكومات العربية التي تفكر في التفاوض مع الدولة اليهودية. حتى أن آية الله الخميني هاجم منظمة التحرير الفلسطينية في العام التالي عندما اعترفت بإسرائيل مجادلاً بأن "تقسيم فلسطين أمر غير مقبول" وأنه يمكن إقامة دولة فلسطينية فقط عندما "يتم سحق الصهاينة واستعادة الأراضي التي سلبوها". لكن مع ظهور المدى الكامل لتعاملات إيران مع إسرائيل على العلن، باتت التصريحات الإيرانية الشاجبة في غير محلها.
(ص 181)
تحولات سياسة إسرائيل نحو إيران!
جوهر الاستراتيجية الموجّهة لإسرائيل منذ أيام من غوريون؛ المبدأ المحيطي. بالسعي إلى التوصل إلى سلام مع الدول العربية المجاورة لإسرائيل وتصوير دولة محيطية رئيسية ـ إيران ـ بأنها خطر، قلَب رابين وبيريز المبدأ المحيطي رأساً على عقب. كان التحول مثيراً للدهشة على الخصوص لأن بيريز ورابين قادا قبل بضع سنين فقط جهوداً لتحسين العلاقات بين الرئيس الأميركي رونالد ريغان ونظام آية الله الخميني بإيران. دافع بيريز عن موقفه الجديد بالمجادلة بأنه ـ بوصفه أحد الشخصيات المحظية لدى بن غوريون ـ لم يتغّير بل العالم هو الذي تغير. وبدلاً من الاعتماد على المحيط في موازنة العرب، أدى الضعف الذي اعترى العرب، وقوة المحيط، والقوى التي ضغطت في اتجاه بناء نظام جديد إلى وضع إسرائيل وإيران على طرفي متقابلَين في المعادلة الجيوسياسية الجديدة. كان ذلك المسمار الأخير في نعش مبدأ المحيط؛ فلقد بات المحيط الفارسي هو الذي يمكن أن يشكل الآن خطراً على الدولة اليهودية، وليس الجوار العربي. ففي النهاية، جاء الدور الذي تصوّره بيريز لإسرائيل في الشرق الأوسط الجديد على حساب إيران. ولكي تحتل إسرائيل المركز الرئيسي في الشرق الأوسط الجديد، ينبغي أن تبقى إيران على الهامش السياسي للمنطقة ويجب أن تستمر محرومة من الدور الذي تعتقد بأنها تستحقه. يشرح ديفيد ماهوفسكي، وهو خبير في السياسة الخارجية الإسرائيلية، هذا الوضع الجديد بالقول: "ما من شك في أنه عندما برزت احتمالات التوصل إلى سلام مع الدائرة الضيقة، برز تصوّر إيران بأنها خطر".
(ص 225ـ 226)
دفاع إسرائيل عن إيران الخميني في الثمانينات!
شهد المثلث الإسرائيلي الأميركي الإيراني تحولاً ملحوظاً في سنوات قليلة. ففي الثمانينيات، كانت إسرائيل المدافع غير المتوقَّع عن إيران والذي يختلق الأعذار لها بواشنطن، والمجازف الكبير في الضغط على إدارة ريغان لكي تفتح قنوات اتصال مع إيران. الآن، قامت إسرائيل بالعكس تماماً. أرادت إسرائيل من الولايات المتحدة أن تفرض حصاراً اقتصادياً وسياسياً على إيران. أي أن الشرق الأوسط الجديد الذي تحدث عنه شمعون بيريز والسياسة الأميركية القائمة على الاحتواء المزدوج التي دخلت حيز التأثير في العام 1993 بعد أكثر من عام على الضغوط الإسرائيلية وضعا عزلة إيران في إطار قانوني.
(ص 254 ـ 255)
حقيقة التهديد الإيراني لإسرائيل!
أهم خطر أوجدته إيران على إسرائيل بعد العام 1996 كان قدرتها على البروز كقوة إقليمية يمكنها تحدّي الاحتكار العسكري والنووي الإسرائيلي والحدّ من قدرة الدولة اليهودية على المناورة السياسية والعسكرية. لم يكن بالضرورة أن يكون التعرض لهجوم نووي إيراني في حدّ ذاته على قمة لائحة المخاوف الإسرائيلية. فإيران لا تفتقر إلى هذه القدرة وحسب، بل وحتى عندما أصبح برنامج إيران الصاروخي عملانياً، لم يكن في مقدورها تدمير إسرائيل بدون أن تجلب الدمار على نفسها بسبب قدرة إسرائيل على توجيه ضربة ثانية. فمن خلال غواصاتها النووية الألمانية الصنع، ستكون إسرائيل قادرة على الثأر من هجوم نووي تشنّه عليها إيران، مما يوفر لإسرائيل قوة ردعية منيعة. يقول غيسين" "بغض النظر عن الإجراء الذي يتخذونه، لا يمكنهم تدمير قدرة إسرائيل على الردّ". لكن يمكن لإيران الصاعدة على أقل تقدير أن تتحدى التصوّر القائم على تفوق إسرائيل العسكري وعلى قدرتها على المناورة التي تحلّت بها نتيجة لهذا التصوّر. ويجادل عموس جلعاد بأن ذلك "سيعرض للخطر صورتنا بأننا قوة عظمى لا يمكن إنزال الهزيمة بها".
(ص 292)
ثانياً: إيران والقضية الفلسطينية
رفض إيران لعملية السلام لأنها عزلتهم!
على الرغم من خطاب إسرائيل الموجّه ضدّ رجال الدين وإيديولوجية الإسلاميين التي لا يمكن التصالح معها، فهم العديد من الإسرائيليين الحسابات الاستراتيجية التي تقف خلف معارضة إيران للعملية السلمية. فقد أقرّت واشنطن وتل أبيب بأن العملية السلمية والجهود الدبلوماسية التي تبذلها إسرائيل لتشكيل نظام جديد في الشرق الأوسط تضرّان بالوضع الاستراتيجي لإيران. فخطوط التقسيم الجديدة للشرق الأوسط أصبحت بين أولئك المنضوين في عملية أوسلو وأولئك الذين هم خارجها. يمكن أن يؤدي السلام مع الفلسطينيين إلى سلام مع سوريا، وهذا بدوره يجعل ميول العالم العربي تصبّ في خانة إسرائيل، ويزيد من إضعاف النفوذ الإيراني في المنطقة. نتيجة لذلك، ظنّ الإسرائيليون بأن لدى إيران مصلحة استراتيجية في معارضة الجهود السلمية. يقول إتمار رابينوفيتش، الذي كان مستشاراً لدى رئيس الوزراء إسحاق رابين والذي خدم كسفير لإسرائيل لدى الأمم المتحدة: "تخيل أنه تم إبرام اتفاق بين إسرائيل وسوريا في العام 1993، وهو الأمر الذي كان قريب المنال، وأن إيران وجدت نفسها بدون الحليف السوري، وبدون إمكانية الوصول إلى لبنان مما يجعلها تخسر قاعدة لبنان، وأن حدّة التوترات تراجعت بين إسرائيل والفلسطينيين. ستفقد السياسة الإيرانية في الشرق الأوسط العديد من أرصدتها ومواردها. ستبدأ بالتالي تطوير مصلحة لها في إفشال العملية السلمية، وإحدى الطرق الرئيسية لإفشال العملية السلمية هي في العمل مع الجماعات الفلسطينية الأصولية".
لم تكن إيران معرّضة لخطر خسارة تحالفها مع سوريا وحسب، بل وكانت العملية السلمية "ستعزز التواجد العسكري الأميركي في المنطقة، وهو دور تراه إيران خطراً على هدفها المتمثل في بسط هيمنتها الإقليمية"، كما كتب معهد سياسات الشرق الأدنى. ويقول كيث وايزمان من إيباك: "شعرت دائماً بأن الإيرانيين أحسّوا بأنهم مهددون لأسباب جيوسياسية. انظر، كان العرب سيتحلون بمزيد من الثقة بالنفس لأنهم كانوا سيشعرون بأن الإسرائيليين سيدعمونهم الآن في مواجهة إيران، فضلاً عن الأميركيين".
على الرغم من خوف إيران الواضح من العزلة، لم تتكهن واشنطن بأن إيران ستنقلب ضدّ العملية السلمية على النحو الذي قامت به. وبالاستناد إلى مارتن إندك، مساعد وزير الخارجية الأميركي السابق، خشيت الولايات المتحدة من أن يشكّل العراق وإيران محوراً لموازنة الولايات المتحدة، ولإفشال الجهود الهادفة إلى عزلهما. ويشرح ذلك فيقول: "كنا أكثر تركيزاً، في ذلك الوقت، على استراتيجية تدفع فيها سياسة الاحتواء المزدوج إيران إلى التقارب مع العراق". والفكرة في أن إيران ستلجأ إلى الإرهاب لم تكن شيئاً ترجحه واشنطن، حتى بالرغم من استخدام تهمة دعم الإيرانيين للإرهاب في تبرير فرض العزلة على إيران. ما قام به الإيرانيون هو أنهم تفوقوا علينا بذكائهم عبر استهداف العملية السلمية. وبالتالي، أصبحوا داعمين شديدي العدوانية للإرهاب الفلسطيني وليس لحزب الله فقط".
بدأت واشنطن تفهم الخطأ الاستراتيجي الخطير في سياستها القائمة على الاحتواء المزدوج. فبرفض مبادرات التودد الإيرانية والتخطيط لإنشاء نظام جديد في الشرق الأوسط يستند إلى إقصاء إيران، كانت الولايات المتحدة توفّر لإيران حوافز قوية لتخريب الحلقة الأضعف في السياسة، وهي المحادثات الإسرائيلية الفلسطينية الهشة. واستناداً إلى إندك، كان لدى الإيرانيين "كل الحوافز لمعارضة العملية السلمية. أما استراتيجيتنا فكانت، من ناحية، استخدام محرّك صنع السلام في تحويل المنطقة، ومن ناحية أخرى، كانت احتواء الإيرانيين عبر فرض العقوبات والعزلة عليهم. كان أحد شقّي هذه الإستراتيجية مكمّلاً للشقّ الآخر. فكلما نجحنا في صنع السلام، كلما زادت عزلة الإيرانيين، وكلما نجحنا في احتوائهم، كلما زادت فرص صنع السلام. لذلك كان لديهم حافز لإفشالنا في العملية السلمية لكي يهزموا سياسة الاحتواء والعزلة. ولهذا السبب استهدفوا العملية السلمية".
(ص 267 ـ 269)
سياسة إيران تجاه إسرائيل!
فوجئت طهران بحملة حزب العمل التي هدف من ورائها إلى عزل إيران. فقد اعتقد الإيرانيون بأن إسرائيل ستواصل الإعراض عن انتقادات إيران العنيفة الموجهة ضدّ الدولة اليهودية على غرار ما فعلت في الثمانينيات، واعتقدوا أن التفاهم الضمني بين الدولتين لا يزال سارياً من وجهة نظر الإيرانيين: ستبقى إيران مجرّد ناقد منظّر، وستستمرّ في إلقاء الخطب الملونة المعادية لإسرائيل فيما تدعم بالكلام لا بالأفعال، القضية الفلسطينية. بدورها، ستعبر إسرائيل آذاناً صمّاء لخطاب إيران، وتتذكر أن الشعارات التي تطلقها طهران لا تعكس السياسة الحقيقية لإيران. لكن التحوّل الهجومي لبيريز ورابين أشار إلى أن ذلك الزمان قد ولّى. بشكل تدريجي، بدأت إيران تدرك بأن إسرائيل آخذة في التحول إلى منافس رئيسي في بناء نظام الشرق الأوسط الجديد. بالنسبة إلى الإيرانيين، ليس هناك من اتهام إسرائيلي يكشف عن نوايا إسرائيل الحقيقية أكثر من ادّعائها أن إيران تريد الهيمنة على الشرق الأوسط.
(ص 243)
غضب إيران لعدم إشراكها في مسيرة السلام!
لم يكن السلام بين العرب وإسرائيل يشكّل بحّد ذاته خطراً على إيران. لكن غضب إيران كان يُثار فقط عندما يجتمع السلام مع جهد إسرائيلي أميركي لعزل إيران بتصويرها بأنها خطر وإقصائها عن صناعة القرار على المستوى الإقليمي. لقد خشي الإيرانيون من أن تسعى إسرائيل إلى استخدام صورة مرعبة عن إيران لزيادة تقبّل العرب لإبرام السلام مع الدولة اليهودية. وخشي رفسنجاني من أنه إذا تكللت اتفاقية أوسلو بالنجاح، واندفع العرب لإبرام سلام مع إسرائيل، ستُترك إيران في حالة من العزلة الطويلة. في النظام الجديد الذي يتمحور حول إسرائيل المزمَع إنشاؤه، ستتولى إسرائيل دور القيادة في حين ستُمنع إيران من "لعب دور يكافئ قدرتها ونفوذها". والشيء الذي كان خطراً سياسياً في الأصل يمكن أن يتحول مع الوقت إلى خطر عسكري. ويشرح مسعود إسلامي من وزارة الخارجية الإيرانية هذه الفكرة فيقول: "إذا اقترب العرب من إسرائيل، ستزداد عزلة إيران. عندئذ، تكون إسرائيل في وضع يمكّنها من تحويل نفسها إلى مشكلة كبيرة تواجه إيران". بعبارات بسيطة، سيتم إخضاع إيران للهيمنة الإسرائيلية، وهو ما بعث الخوف في نفوس الإيرانيين من "الفكرة القديمة المتمثلة في سيطرة اليهود على المنطقة من النيل إلى الفرات". أصرّ الإيرانيون على أنه في حال تم إشراك إيران في العملية السلمية، ستبرز صورة مختلفة كلّياً. يقول علي رضا علوي تابار، وهو إصلاحي إيراني بارز: "كان سيغلب علينا ميل إلى دعم الجهود السلمية والتعاون من أجلها لو أننا مُنحنا دوراً نشطاً وفاعلاً منذ البداية، بدلاً من أن يضعوا خطة مختلفة كلياً ثم يتوقعوا منّا الموافقة عليها ببساطة".
كانت إيران في عهد رفسنجاني، التي قللت من مستوى تدخلها قبل مؤتمر مدريد في القضية الفلسطينية، وأطلقت إشارات بأنها لن تقف في طريق التوصل إلى اتفاقية سلام، ستبدي استعدادها للتعاون من أجل التوصل إلى اتفاقية إسرائيلية فلسطينية لو أن أميركا قبلت بلعب إيران دوراً قيادياً في المنطقة، وفي مقابل ذلك، أنهت سياسة عزل طهران. بإشراك إيران في العملية السلمية، يمكن أن تضمن عدم الإضرار بصالحها من جراء معاهدة السلام مع إثبات قدرتها على أن تكون قوت إيجابية وباعثة على الاستقرار في المنطقة. يقول علوي تابار: "يمكننا لعب دور إيجابي جداً عندما يتم إشراكنا في العملية. تذكر كيف أننا ساعدنا على حل الصراع بين أرمينيا وأذربيجان. لقد قدّمنا مساعدات إنسانية لكِلا الطرفين، فضلاً عن وقود التدفئة الذي اشتدت الحاجة إليه خلال فصل الشتاء البارد هناك... يمكننا لعب دور إيجابي في الشرق الأوسط بكامله".
لعبة بيسبول مختلفة: بدأت إيران لأول مرة ترجمة خطابها المعادي لإسرائيل إلى سياسة عملانية. فعلى النقيض من رأي الخميني، ستتحول إيران الآن إلى دولة على خط المواجهة مع إسرائيل، لأنه إذا فشلت اتفاقية أوسلو، ستفشل معها الجهود الهادفة إلى إيجاد نظام إقليمي جديد على ظهر عزلة إيران، من دواعي السخرية أن دعم إيران لحزب الله تراجع بدرجة كبيرة في السنين السابقة بسبب التوجه الجديد للسياسة الخارجية التي انتهجها الخميني، مما جعل العديد من قادة الشيعة بلبنان يشعرون بأن إيران تخلّت عنهم. أما الآن، فقد عاد تركيز طهران مجدداً إلى حزب الله والجماعات الإسلامية الأخرى. عللت طهران بأن الموقف العلني الإيراني المعارض لإسرائيل والولايات المتحدة سيقوّي موقفها في عيون الجماهير العربية، وهذا بدوره سيزيد من صعوبة تشكيل إسرائيل لجبهة عربية إسرائيلية في مواجهة إيران. وكما فعلت عند بداية الثورة، ناشدت إيران الشارع العرب لإضعاف الحكومات العربية الموالية للغرب من الأسفل بجعلها تبدو ليّنة في مواجهة إسرائيل. كان الهدف، كما تشرح شخصية سياسية إيرانية، "إيجاد وضع لا يتمكّن فيه الإسرائيليون من التوصل إلى اتفاق، لأنه كلما زاد الوضع تأزماً، كلما صار وضعنا أحسن، لأن ذلك يوفر لنا مزيداً من الوقت".
( ص 247 ـ 249)
مصالح إيران لا حق الفلسطينيين!
نأت إيران عن التدخل نسبياً أثناء مباحثات كامب ديفيد2. كالعادة، انتقدت المباحثات، وشككت في مزاعم واشنطن بالنزاهة، لكن حدث تغيّر جارف في نهج إيران مقارنة بنهجها في العامين 1994 ـ 1995. في هذا الصدد، يقول هالفي: "لا أذكر أنه كان هناك أي نشاط إيراني على الإطلاق". هناك سببان دفعا إيران إلى الإحجام عن التدخل. السبب الأول هو أن إيران عزلت نفسها عن التطورات الإسرائيلية الفلسطينية عبر تحسين علاقاتها مع الدول المجاورة القريبة ومع أوروبا. لم ترّ إيران في محادثات كامب ديفي2 خطراً استراتيجياً على وضعها، مما يجعل المعارضة الإيرانية للصفقة أمراً غير ضروري. وردّة فعل إيران تجاه انتفاضة الأقصى زادت من التأكيد على أن النهج الإيراني في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني يتأثر بالاعتبارات الاستراتيجية أكثر مما يتأثر بالاعتبارات الإيديولوجية. فلو أن الإيديولوجية أو المحنة التي يعاني منها الفلسطينيون كانا المحرّك للسياسة الإسرائيلية، لكانت ردّة فعل طهران على قمع الانتفاضة أشدّ قسوة.
السبب الثاني هو أن انسحاب إسرائيل من لبنان حدّ من قدرة إيران على إفشال المحادثات. كانت إيران بحاجة إلى الوقت لكي تتعافى من ذيول الانسحاب والعثور على قنوات جديدة للتواصل مع الجماعات الفلسطينية الرافضة. يقول بن عامي: "أعتقد أن إيران فوجئت بالانسحاب من لبنان، وجدوا أنفسهم في وضع لم يألفوه من قبل. فلأول مرّة، لم تعد في حوزتهم أداة لعرقلة المفاوضات بين الإسرائيليين والفلسطينيين". واستناداً إلى بن عامي، لو أن إسرائيل لم تنسحب من لبنان، ربما كانت إيران ستستخدم حزب الله في نشر الخراب في المنطقة. كان حرمان إيران من لعب هذه الورقة ـ بالإضافة إلى إشباع رغبة قوية تملكت جمهور الناخبين الإسرائيليين في الانسحاب ـ أحد الأسباب الرئيسية التي دعت إلى الانسحاب من لبنان.
( ص 306 ـ 307).
الدعم الكلامي لفلسطين!
كما حصل في الماضي، سعت طهران إلى استغلال التوترات بين إسرائيل والعرب عبر دعوة العالم الإسلامي إلى التوحد ضدّ إسرائيل، واصفة الدولة اليهودية "بالورم الخبيث وشجرة الشرّ" وتصويرها "بخطر يهدد العالم الإسلامي بأكمله، وحتى تلك الحكومات التي تعتقد بأن الحكومة الصهيونية الغاصبة تخدم مصالحها. لكن بالمقارنة مع منتصف التسعينيات، بدت الهجمات الكلامية الإيرانية على إسرائيل أقل تكراراً، وفي ما عدا استثناءات جديرة بالملاحظة، لم تكن تلك التهجمات تستهدف إثارة الجماهير العربية. وبذلك تكون إيرن قد فازت بالحكومات العربية؛ عززت الانتفاضةُ والفوز الانتخابي الذي أحرزه أرييل شارون في مستهل العام 2001 جهودَ المصالحة بين إيران والدول العربية، بما في ذلك الحكومات التي وقّعت على معاهدات سلام مع إسرائيل. بدأ الانفراج في العلاقات مع حركة فتح التي يترأسها عرفات، مما قرّب إيران من الجماعات الفلسطينية العلمانية أيضاً. ثم سعت طهران إلى تعبئة الرأي العام الدولي ضدّ إسرائيل عبر الدعوة، على سبيل المثال، إلى "تشكيل محكمة خاصة بجرائم الحرب للتعامل مع الجرائم الإسرائيلية في الأراضي المحتلة" ودعوة مجلس الأمن الدولي إلى إرسال مراقبين دوليين لمنع تصاعد أعمال العنف. لكن في حين اتهمت إسرائيلُ إيران بتمويل الإرهاب الفلسطيني، اشتكى الفلسطينيون أنفسهم من الوعود الإيرانية الكلامية. من الواضح أن خطاب إيران بقي محافظاً على الحس بالواجب الإيراني تجاه الفلسطينيين، فخاطب المرشدّ الأعلى زعيم حماس قائلاً: "بأن الحرب المقدسة لتحرير فلسطين حرب للدفاع عن شرف الإسلام والمسلمين، وسنواصل دعمنا الثابت للشعب الفلسطيني بالرغم من كافة الضغوط السياسية والاقتصادية، وأن مسألة القدس ليست مشكلة فلسطينية، وإنما مشكلة كافة المسلمين". غير أن توفير إيران الدعم الكلامي كان أسهل من توفير الدعم العملي. ونادراً ما أُتبعت الشعارات الإيرانية بأفعال ملموسة، حتى بعد اندلاع الانتفاضة الثانية. احتل الإيرانيون موقع الصدارة في إلقاء الخطب الرنانة التي تتحدث عن القضية الفلسطينية، لكنهم نادراً ما التزموا بالمعايير التي وصفوها في تصريحاتهم. وأشار الدبلوماسيون الأوروبيون الذين أجروا اتصالات مع ممثلين عن الجهاد الإسلامي وحماس ممن زاروا إيران بعد اندلاع الانتفاضة الثانية إلى أن كلتا المجموعتين شعرت بخيبة أمل مريرة من مضيفيهم الإيرانيين. فإيران لم تقدم لهم المال ولا الأسلحة. وانتشرت نكتة في شوارع طهران عكست هذا الادعاء الإيراني: "لماذا لم يعد يوجد أحجار لرجم الزانية؟ وفقاً لأوامر المرشد الأعلى، تم شحن كل الأحجار إلى فلسطين كمساهمة من إيران في الانتفاضة".
(ص 308 ـ 309)
ثالثاً: إيران وأمريكا
التعاون التجاري الأمريكي – الإسرائيلي مع إيران برغم المقاطعة!
إدارة كلينتون قد تبنّت خطاب إسرائيل وموقفها المتشدد من إيران في الميدان السياسي. بلغ حجم التجارة بين البلدين 3.8 مليار دولار في العام 1994، فضلاً عن 1.2 مليار دولار على شكل سلع باعتها شركات أميركية عبر شركات تابعة أجنبية، مما جعل الولايات المتحدة أحد أكبر شركاء إيران التجاريين. لقد لفت هلموت كول، المستشار الألماني، انتباه إيباك إلى هذا التضارب والذي دافع في لقاء مع إيباك في العام 1994 عن تجارة ألمانيا مع إيران بالإشارة إلى علاقات واشنطن التجارية الواسعة مع طهران. يقول كيث وايزمان منظمة إيباك: "نظرنا إلى الأرقام، فوجدنا أنه كان محقاً. من الناحية الأساسية، كانت الأموال الأميركية التي تتدفق إلى طهران تفوق الأموال التي ترسلها أية دولة أخرى. وهذا جعلنا نهتم بالجانب الاقتصادي للمسألة". (المثير في الأمر هو أن إسرائيل لم تقرّ أية قوانين تحظر التجارة الإيرانية الإسرائيلية طوال طوال فترة التسعينيات). شنّت إيباك حملة لردم الهوة بين النهج السياسي والنهج الاقتصادي الأميركي من إيران.
(ص 261ـ 262)
التعاون الإيراني الأمريكي في أفغانستان!
في البداية، لم يحرز المحافظون الجدد سوى تقدم متواضع. لكن مع بدء الولايات المتحدة عملياتها العسكرية بأفغانستان، بدأت وزارة الخارجية ومجلس الأمن القومي الاجتماع سرّاً بدبلوماسيين إيرانيين بباريس وجنيف في أكتوبر/ تشرين الأول2001، برعاية الأخضر الإبراهيمي، رئيس لجنة مساعدات الأمم المتحدة بأفغانستان. بدأ الاتصالات السفير جايمس دوبنز، مبعوث إدارة بوش الخاص بأفغانستان. وبدعم كامل من باول، قال دوبنز للإبراهيمي بأنه يرغب في الاجتماع بالإيرانيين. في غضون أيام قلائل، اتصل مسؤولون من وزارة الخارجية الإيرانية بدوبنز، وعرضوا عليه مساعدتهم. كما حضر الاجتماعات التمهيدية وفود ألمانية وإيطالية لتوفير الغطاء السياسي لإيران والولايات المتحدة، حيث أعطى حضورهم المحادثات ـ التي سرعان ما أُطلق عليها اسم قناة جنيف ـ مظهراً متعدد الأطراف. لكن في الحقيقة، كانت المناقشات ثنائية والاتصالات على أعلى مستوى بن مسؤولي البلدين منذ فضيحة إيران ـ كونترا.
سارت المحادثات على نحو أفضل مما كان متوقعاً. ركّزت المناقشات على "كيفية إزاحة طالبان بفاعلية، وكيفية تشكيل حكومة أفغانية بعد رحيل طالبان" لقد قدّم الإيرانيون مساعدة كبيرة للولايات المتحدة في الحرب، من غير أن يعرفوا شيئاً عما سيتكشف بعد النجاح بأفغانستان. لقد أدهش الدبلوماسيون الإيرانيون نظراءهم الأميركيين والأوروبيين بما لديهم من معارف وخبرات بشؤون أفغانستان وطالبان. لم تكن المساعدة التي قدّمتها إيران شكلية، فعرض الإيرانيون السماح للولايات المتحدة باستخدام قواعدهم الجوية، وعرضوا توفير قاعدة لتنفيذ مهام البحث والإنقاذ للطيارين الذين يتم إسقاط طائراتهم، وخدموا كجسر بين التحالف الشمالي والولايات المتحدة في قتال الطالبان. حتى أنهم استخدموا في قليل من المناسبات معلومات أميركية للعثور على زعماء تنظيم القاعدة الفارّين وقتلهم.
بالرغم من أن تكليف دوبنز اقتصر على إجراء محادثات حول أفغانستان، أعدّت مجموعة مغلقة من المسؤولين المحيطين بباول رزمة سرّية كاملة من الجزرات وعصا واحدة لعرضها على الإيرانيين. فعلى النقيض من البنتاغون، آثرت وزارة الخارجية فتح قناة اتصال استراتيجية مع إيران، وليس مجرّد محادثات تكتيكية. أدرك الدبلوماسيون الأميركيون أن التعاون بشأن أفغانستان يمكن أن يتوسّع ليشمل القاعدة والمنظمات الإرهابية الأخرى. بناء على ذلك، يمكن للولايات المتحدة وإيران توسيع تعاونهما على صعيد تقاسم المعلومات الاستخبارية، وتنسيق دوريات حدودية مكثفة لاعتقال مقاتلي القاعدة الذين يريدون الهرب إلى باكستان وإيران. عرف ريان كروكر، وكان عضواً في فريق التفاوض الأميركي ومكلفاً بمناقشة القضايا العامة، بأمر الرزمة. كان كروكر، إلى جانب زملائه الذين يتفقون معه في الرأي بوزارة الخارجية، على استعداد لتنفيذ اقتراح باول على الفور؛ في حال وافق الرئيس عليه. لكنّ المتشددين في البيت الأبيض عملوا بجدّ لمنع بوش من المضي فيه. يقول ويلكرسون: "كان نائب الرئيس تشيني ووزير الدفاع دونالد رامسفيلد هناك دائماً لتخريب تعاوننا في أفغانستان إذا قطع شوطاً طويلاً".
لم تكن المصلحة المشتركة بين الولايات المتحدة وإيران على هذا القدر من الوضوح كما تبين في مؤتمر بون الذي انعقد في ديسمبر/ كانون الأول 2001، حيث التقى عدد من الأفغان البارزين ومندوبون من بلدان متنوعة، منها الولايات المتحدة وإيران، برعاية الأمم المتحدة في ألمانيا للاتفاق على خطة لحكم أفغانستان. أعدّت الولايات المتحدة وإيران بعناية الأرضية اللازمة للمؤتمر قبل انعقاده بعدة أسابيع. وأثبت النفوذ السياسي الإيراني في أوساط الجماعات الأفغانية المحاربة المتنوعة أنه كان حاسماً، فكان هذا النفوذ بين أوساط الأفغان ـ وليس تهديدات أميركا ووعودها ـ هو الذي حرّك عجلة المفاوضات إلى الأمام. كما أن الوفد الإيراني ـ وليس دوبنز ـ هو الذي أشار إلى أن مسودة إعلان بون لم تتضمن أية إشارة إلى الديموقراطية أو إلى أي التزام من جانب أفغانستان بمحاربة الإرهاب الدولي. لكن المثير للفضول هو أن تعليمات دوبنز لم تحتوِ على أي شيء يشير إلى الديموقراطية.
بحلول الليلة الأخيرة للمؤتمر، تمت الموافقة على دستور موقت، وتمّ حل كافة القضايا الأخرى باستثناء القضية الأصعب: من الذي سيحكم أفغانستان؟ أصرّ التحالف الشمالي، بوصفه المنتصر في الحرب، على أن من حقّه الاستئثار بالغنائم. بالرغم من أنه ممثَّل في حوالي 40 في المائة من البلاد، أراد أن يشغل ثمانية عشر منصباً وزارياً من أصل أربعة وعشرين. وقرابة الساعة الثانية فجراً، جمع دوبنز الأحزاب الأفغانية، والإيرانيين، والروس، والهنود، والألمان، والإبراهيمي من الأمم المتحدة لحل هذه النقطة الأخيرة العالقة. تناوبت الوفود على الكلام على مدى ساعين في محاولة لإقناع يونس قانوني، مندوب التحالف الشمالي بالقبول بعدد أقل من الوزارات، ولكن بدون جدوى. أخيراً، اجتمع كبير المفاوضين الإيرانيين ـ جواد ظريف ـ بالمندوب الأفغاني على انفراد، وبدأ يهمس في أذنه باللغة الفارسية. بعد بضع دقائق، عادا إلى الطاولة، وأذعن الأفغاني، وقال: "حسناً، أنا موافق. يمكن للفصائل الأخرى الحصول على وزارتين أخريين". كانت تلك نقطة تحوّل حاسمة لأن الجهود التي بذلتها الدول الأخرى لإقناع القانوني باءت كلها بالفشل. في هذا الصدد، يقرّ دوبنز بأن "المسألة لم تُحسم إلاّ بعد أن اجتمع به ظريف على انفراد. ربما كنا سنواجه وضعاً مثل الوضع الذي واجهناه بالعراق، حيث لم نتمكن أبداً من اتفاق على زعيم واحد وعلى تشكيل حكومة". في صباح اليوم التالي، تم التوقيع على اتفاقية بون التاريخية. النتيجة هي أن أميركا لم تنتصر في الحرب وحسب، بل وانتصرت، بفضل إيران، في السلام أيضاً.
بالنسبة إلى الإيرانيين، كانت تلك لحظة انتصار. فلم يقتصر الأمر على إلحاق الهزيمة بعدو رئيسي لإيران ـ حركة طالبان ـ بل واظهار كيف يمكن أن تساعد على إرساء دائم الاستقرار في المنطقة، وكيف يمكن أن تساعد على إرساء دعائم الاستقرار في المنطقة، وكيف يمكن أن تستفيد أميركا من بناء علاقة أفضل معها. وفي تلميح إلى استعداد إيران للتوسع في المناقشات لتشمل نواحي أخرى، قال ظريف في إحدى المراحل لكروكر ممازحاً بأنه بعد أن تم حل القضية الأفغانية، ربما آن الوقت لمعالجة النزاع النووي الذي يزرع الخلاف بين البلدين. وبدون أي تردد، أعاد كروكر الكرة إلى معلب ظريف، وسأله إن كان يجدر به التطرّق إلى التعليمات الخاصة بهذا الملف، مشيراً إلى أن وزارة الخارجية سبق أعدّت نقط بحث بشأن هذه القضية. لكن ظريف لم يكن يملك صلاحية الذهاب إلى ما هو أبعد من موضوع أفغانستان في ذلك الوقت علماً بأن الإيرانيين تعاملوا مع تلك المناقشات كقناة استراتيجية. يشرح دوبنز واقع الحال فيقول: "جاء ذلك منسجماً مع رغبتهم في إجراء محادثات استراتيجية". في إشارة إلى أن الإيرانيين لم يكشفوا عن نواياهم الكاملة إلاّ في مرحلة متأخرة جداً.
تمثل المأزق الإيراني في أن جدول أعمال المناقشات ـ أفغانستان، المسألة النووية، الإرهاب ـ تصدّى للهموم الأميركية فقط، بحيث لم يكن هناك مكان لهموم إيران المتعلقة بالسياسات الأميركية. في حين أبدى المرشد الأعلى للثورة الإيرانية آية الله خامنئيي والرئيس خاتمي دعمهما الكامل للمحادثات الأفغانية ولفكرة فتح قناة اتصال استراتيجية مع واشنطن، لكنهما أصراً على أنه ينبغي أن تتضمن المحادثات الأوسع نطاقاً الهموم الإيرانية والهموم الأميركية على حدً سواء. بالنسبة إلى وزارة الخارجية الأميركية ومستشارة الأمن القومي كوندوليزا رايس، لم يكن في ذلك مشكلة. فكلاهما أراد استكشاف مزيد من الفرص مع إيران، ولكنهما كانا يتعرضان للإعاقة من بعض المسؤولين في البيت الأبيض المتحمسين لعداء إيران. يقول دوبنز: "لم ألحظ أي اهتمام خارج البلاد. بإجراء مناقشة استراتيجية مع الإيرانيين. فعلى الرغم من المساعدة الحاسمة التي قدّمتها إيران للولايات المتحدة بأفغانستان، لم يكن يوجد تقبّل لإجراءات حسن النية الإيرانية في البيت الأبيض في عهد بوش. أي أن أحداث العام 1991 عادت لتتكرر من جديد: لا يوجد تقدير للمصلحة الاستراتيجية الإيرانية في شرق أوسط مستقر، ولإمكانية أن تكون إيران راغبة في ترقيع علاقاتها مع الولايات المتحدة. حتى أن تعهّد إيران في مؤتمر الدول المانحة بطوكيو الذي انعقد في يناير/ كانون الثاني 2002 بتقديم 500 مليون دولار إلى أفغانستان ـ وكان أكبر تعهد من جانب أية دولة شاركت في المؤتمر، بما في ذلك الولايات المتحدة ـ لم يحز على إعجاب المتشددين في البيت الأبيض.
كما لاقى عرض إيران بالمساعدة على إعادة بناء الجيش الأفغاني ـ في ظل قيادة أميركية ـ من أجل تقوية الحكومة الأفغانية إزاء أمراء الحرب المتنوعين الذين كانوا لا يزالون يسيطرون على أجزاء من البلاد، آذاناً صمّاء أيضاً. ففي أحد الاجتماعات التي عُقدت بجنيف، قال الإيرانيون لدوبنز: "نحن على استعداد لاستقبال ما يصل إلى عشرين ألف جندي، وكسوتهم، وتسليحهم، وتدريبهم ضمن برنامج واسع تحت قيادتكم". لكن دوبنز أشار إلى أنه إذا كانت إيران والولايات المتحدة ستتقاسمان المسؤولية في تدريب الجنود، فسينتهي بهم الأمر إلى العمل وفقاً لمذهبين عسكريَّين مختلفَين. عندئذٍ، ضحك قائد الجيش الإيراني، الذي صاحب الوفد الإيراني لمنماقشة العرض مع دوبنز، وقال: "لا تقلق، لا زلنا نستعمل الكتيبات التي تركتموها وراءكم في العام 1979". وأضاف بأنه لن تبرز أية مشكلات تتعلق بولاء الجنود أيضاً، لأن إيران كانت لا تزال تدفع رواتب الجنود الأفغان الذين تستخدمهم الولايات المتحدة في القضاء على عناصر القاعدة وطالبان على الحدود الأفغانية الباكستانية. ووجّه سؤاله إلى دوبنز بطريقة منمّقة وقال: "هل تواجهون أية مشكلات تتعلق بولائهم؟"
(ص 317 ـ 321)
صراع حول العلاقة بين أمريكا وإيران!
في 3 يناير/ كانون الثاني 2002، اعترض الإسرائيليون السفينة كارين أيه في المياه الدولية في البحر الأحمر. كان يقود السفينة قبطان من البحرية الفلسطينية، وكانت محمّلة بصواريخ كاتيوشا، وقذائف مورتو، وبنادق آلية، وبنادق قنص، وذخائر، وألغام مضادّة للدروع، وأنواع أخرى من المتفجرات. زعم الإسرائييون بأن السفينة قدمت من جزيرة كيش الإيرانية، وبما أن أغلب الأسلحة كانت لا تزال في صناديق المصانع التي أنتجتها، وتحمل رموزاً تشير إلى أنها من صنع إيراني، جادل الإسرائيليون بأن الاستنتاج بديهي: إيران تسعى إلى تزويد السلطة الوطنية الفلسطينية بقيادة عرفات بالأسلحة في خرق للاتفاقات التي أبرمتها السلطة مع إسرائيل. كان ذلك الدليل القاطع الذي احتاج إليه الإسرائيليون لوقف الحوار الأميركي الإيراني، ووضع حدّ للضغوط التي تمارسها واشنطن على إسرائيل لكي تتعامل مع الفلسطينيين. كانت العملية هدية لشارون، وتزامنت بالمصادفة مع زيارة كان يقوم بها الجنرال أنتوني زيني لإٍسرائيل، مبعوث بوش الجديد للشرق الأوسط. بالنسبة إلى العديد من المراقبين، كان الخبر من الروعة بحيث لا يمكن أن يكون صحيحاً لدرجة أنه حتى حلفاء إسرائيل بدأوا يشككون في صحته. فالمسار المعتاد للشحنات الإيرانية المتجهة إلى وكلائها يمرّ عبر دمشق ولبنان ـ جواً، وليس بالقوارب في محيط شبه الجزيرة العربية حيث كان من المعلوم أن البحرية الإسرائيلية تسيّر دوريات هناك.
أنكر الإيرانيون أن تكون لهم أية علاقة بالسفينة، لكن لم يكن الإنكار ليوازي صورة شارون وهو يتفحص السفينة والأسلحة الإيرانية المحمّلة عليها. قبلت واشنطن بالرواية الإسرائيلية للقصة، ووصفت الدليل الإسرائيلي بأنه مقنع. بالنسبة إلى إدارة بوش، زال أي شك ربما كان يساورها في مواصلة إيران اتصالاتها مع الإرهابيين. كانت تلك نكسة كبيرة للمدافعين عن الحوار مع إيران مثل باول. يقول ويلكرسون: "بدد ذلك توقعات باول بما كان من الممكن تحقيقه مع الإيرانيين".
في إيران، أخذ الخبرُ الرئيس خاتمي على حين غرّة، فأمر بعقد اجتمع لمجلس الأمن القومي الإيراني لكي يعرف من الذي يقف خلف هذه الشحنة. كان خاتمي يعلم حق العلم بوجود عناصر شرّيرة داخل الحكومة الإيرانية تسعى متى سنحت لها الفرصة إلى إفشال سياسته القائمة على الانفتاح على الولايات المتحدة. غير أن أحداً في المجلس لم يعترف بأنه كان على علم بأمر السفينة. سارع الإيرانيون، من خلال قناة جنيف، إلى الاتصال بدوبنز وإبلاغه بأمر اجتماع خاتمي بالمجلس، وأمر الدبلوماسيون الإيرانيون بطلب الحصول على دليل من الولايات المتحدة يثبت هوية مصدر تلك الشحنة لكي تتمكن السلطات بطهران من التصرف بناء على ذلك. في نفس الوقت، بعثت حكومة خاتمي برسالة إلى واشنطن عبر السفارة السويسرية بطهران أنكرت فيها أية مشاركة إيرانية في القضية. كررت طلب الحصول على معلومات من الولايات المتحدة، وعرضت إعطاء واشنطن أية معلومات ربما تتوصل إليها إيرن. لكن لا الرسالة التي وصلت إلى دوبنز ولا المذكرة التي أُرسلت عبر السويسريين عوملت بطريقة جادّة من قبل إدارة بوش. لم تقدّم واشنطن أي دليل إلى طهران يثبت المزاعم الإسرائيلية، ولكنها ردّت على طهران بعد أسابيع قليلة، وأكدت على أن المعلومات كافية وجديرة بالاعتماد، مما يعني من الناحية العملية رفض الإنكار الإيراني.
بالنسبة إلى الإيرانيين المرتابين دوماً، كانت المسألة بأكملها ملفّقة. ورأوا أنها تحولت سياسة التعاون إلى سياسة مواجهة. ولا تزال كارين أيه لغزاً ظهر في الوقت المناسب بالنسبة إلى الأشخاص الذين أرادوا منع حدوث تقارب أميركي إيراني". ولو عدنا إلى الماضي، نجد أن بعض المسؤولين في إدارة بوش بدأوا يشككون في القضية. تكهن البعض بأنها من تدبير إسرائيل، وجادل البعض بأن عناصر شرّيرة بإيران ربما تقف خلفها. لكن ما من أحد في إدارة بوش تابع القضية إلى ما هو أبعد من ذلك. فبعد أن أكدت الاستخبارات الأميركية صحة الرواية الإسرائيلية، بات الأمر مفروغاً منه. ويعترف ويلكرسون فيقول: "لكن بالنتيجة، تساءلنا جميعاً إن كانت خدعة أم حقيقة".
(ص324ـ 326)
التعاون في العراق!
كان لا يزال في حوزة رجال الدين القليل من الأوراق القيّمة التي أملوا بأن يلعبوها لقلب الجدال الدائر بواشنطن لمصلحة وزارة الخارجية الأميركية وأولئك الذين يفضّلون الحوار. إحدى هذه الأوراق كانت المعلومات الاستخبارية الإيرانية فائقة النوعية، واطلاع الإيرانيين على الأوضاع بالعراق. بفضل سنوات الحرب الثماني في الثمانينيات، استوعب الإيرانيون، بخلاف الأميركيين، الشبكات الاجتماعية العشائرية العراقية المعقدة، وعرفوا كيفية التعامل معها. رأت طهران أن واشنطن ستكون بحاجة إلى هذه المعرفة، وهذا ما سيعطي الإيرانيين بعض النفوذ على المحافظين الجدد. فبدون قناة اتصال، يمكن أن يحدث سوء تفاهم، وهو ما سيفيد المنافسين الإقليميين لإيران، بما في ذلك إسرائيل والدول العربية. كما ضغطت جماعات المعارضة العراقية التي لديها روابط وثيقة مع طهران ـ سواء المنظمات الشيعية أم الفصائل الكردية بقيادة جلال الطالباني (الذي أصبح في وقت لاحق رئيس العراق) ـ على الإيرانيين لكي يساعدوا الأميركيين. في النهاية، احتاج الإيرانيون إلى قناة لفهم القرارات الأميركية الخاصة بالعراق والتأثير فيها، واحتاج الأميركيون إلى إيران لكي لا تعقّد الخطط الأميركية. لذلك، أعيد فتح قناة جنيف في أواخر ربيع العام 2002 بعد اتصال وزارة الخارجية الأميركية بالإيرانيين.
(ص 334 ـ 335)
الصفقة الكبري بين أمريكا وإيران!
أعدّ الإيرانيون اقتراحاً شاملاً بيّن حدود صفقة ضخمة محتملة بين البلدين تعالج كافة نقاط النزاع بينهما. كتب صادق خرازي، نجل شقيق وزير الخارجية الإيراني وسفير إيران لدى فرنسا، المسودة الأولى للاقتراح. ثم رُفعت المسودة إلى المرشد الأعلى للثورة الإيرانية للمصادقة عليها، والذي طلب بدوره من ظريف ـ السفير لدى الأمم المتحدة ـ مراجعتها قبل إرسالها إلى الأميركيين، ووضع اللمسات الأخيرة عليها. لم يكن على علم بهذا الاقتراح ويشارك في إعداده سوى دائرة مغلقة من صنّاع القرار بطهران؛ وزير الخارجية كمال خرازي، والرئيس محمد خاتمي، والسفير لدى الأمم المتحدة ظريف، والسفير لدى فرنسا خرازي، والمرشد الأعلى للثورة علي خامنئي. بالإضافة إلى ذلك، أجرى الإيرانيون مشاورات مع تيم غالديمان، السفير السويسري لدى إيران، والذي كان سيسلّم الاقتراح في النهاية إلى واشنطن.
أذهل الاقتراحُ الأميركيين. فهو لم يكن اقتراحاً رسمياً وحسب ـ على اعتبار أنه حصل على موافقة المرشد الأعلى ـ بل إن ما تضمنه من بنود كان مدهشاً أيضاً. يقول فينت ليفيريت الذي خدم كمدير رفيع في شؤون الشرق الأوسط لدى مجلس الأمن القومي حينها: "اعترف الإيرانيون بأن أسلحة الدمار الشامل ودعم الإرهاب قضيتان هامتان بالنسبة إليهم، وأنهم على استعداد للتفاوض عليهما. لقد حضيت الرسالة بموافقة كافة المستويات العليا للسلطة". بذلك، وضع الإيرانيون كافة أوراقهم على الطاولة، وصرّحوا عن كل ما يريدونه من الولايات المتحدة، وعن الأشياء التي هم على استعداد لتقديمها بالمقابل. يقول محمد حسين عادلي الذي كان حينها نائب وزير الخارجية الإيراني: "مضت تلك الرسالة التي جرى تسليمها للأميركيين إلى حدّ القول بأننا على استعداد للتحاور، وعلى استعداد لمعالجة قضايانا".
في حوار حول الاحترام المتبادل، عرض الإيرانيون وقف دعمهم لحماس والجهاد الإسلامي ـ الإخوة الإيديولوجيون لإيران في صراعها مع الدولة اليهودية ـ والضغط على المجموعتين لكي توقفا هجماتهما على إسرائيل، وفي ما يتعلق بحزب الله؛ وليد أفكار إيران، وشريكها الأكثر جدارة بالاعتماد عليه في العالم العربي، عرض رجال الدين دعم عملية نزع سلاحه وتحويله إلى حزب سياسي صرف. في الموضوع النووي، عرض الاقتراح فتح البرنامج النووي الإيراني بالكامل أمام عمليات تفتيش دولية غير مقيدة من أجل إزالة أية مخاوف من برامج التسلّح الإيرانية. وسيوقّع الإيرانيون على البروتوكول الإضافي الخاص بمعاهدة عدم الانتشار، كما سيعرضون على الأميركيين إمكانية المشاركة الكثيفة في البرنامج كضمانة إضافية وإيماءة على حسن النية. في موضوع الإرهاب، عرضت طهران التعاون الكامل في مواجهة كافة المنظمات الإرهابية؛ وأهمها القاعدة. في الموضوع العراقي، ستعمل إيران بنشاط مع الولايات المتحدة على دعم الاستقرار السياسي وإقامة مؤسسات ديموقراطية، والأهم من ذلك، تشكيل حكومة غير دينية.
ربما كان البند الأكثر إثارة للدهشة ذلك المتعلق بعرض إيران القبول بإعلان بيروت الصادر عن القمة العربية؛ أي خطة السلام التي أعلنها ولي العهد السعودي في مارس/ آذار 2002 والتي عرض العرب بموجبها إبرام سلام جماعي مع إسرائيل، مقابل موافقة إسرائيل على الانسحاب من كافة الأراضي المحتلة والقبول بدولة فلسطينية مستقلة بالكامل، والتوصل إلى حلّ عادل لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين. من خلال هذه الخطوة، ستعترف إيران رسمياً بالحل القائم على دولتين. وكان المتشددون بطهران قد رفضوا قبل سنة واحدة المبادرة العربية، مجادلين بأن عودة إسرائيل إلى حدود ما قبل العام 1967 ستكون حلاً غير عادل بالنسبة إلى الفلسطينيين.
(ص 338 ـ 340)
الأمنيات الإقليمية الإيرانية!
بالرغم من أن إيران لم تكن في وضع يمكّنها من تحدّي الولايات المتحدة أو الحلول محلها كقوة منفردة في المنطقة ـ أصبحت أميركا قوة بحكم الأمر الواقع في المنطقة من خلال تواجدها العسكري في دول مجلس التعاون الخليجي ـ فقد غذّى تصاعد إيران وسعيها إلى إيجاد نظام جديد شهية إيران بالتأكيد للعب دور سياسي واقتصادي على حساب مكانة إسرائيل. لقد رأى رجال الدين أن العزلة المفروضة على إيران غير طبيعية، وغير عادلة، ولا يمكن تبريرها. كان يجدر أن تتعلم واشنطن من فشل مؤتمر مدريد عام 1991 درساً قيّماً؛ لا يمكن أن يحدث تغير جوهري بدون تعاون من جانب إيران. يشرح هادي نجاد حسينيان، الذي خدم في وزارة الرئيس هاشمي رفسنجاني في التسعينيات، "ما من شك في أن إيران أرادت وشعرت بأنه من حقها أن تلعب دور قوة إقليمية. ينبغي أن نكون القوة الأوسع نفوذاً في المنطقة، وأن نلعب دوراً بناء على ذلك، فنحن نملك الإمكانيات وينبغي علينا أن نجسّد ذلك". وسواء راق الأمر لأميركا وإسرائيل أم لا، فليس أمامهما خيار سوى الاعتراف بحقيقة قوة إيران ونفوذها. ويجادل عباس مالكي، الذي خدم كنائب لوزير الخارجية في ذلك الوقت قائلاً: "إيران قوة إقليمية. وإيران يمكنها حل المشكلة الأرمينية أذربيجانية. وينبغي أن تكون إيران جزءاً من مؤتمر شنغهاي. وإيران جزء من منظمة التعاون الاقتصادي، وينبغي أن تكون طهران جزءاً من مجلس التعاون الخليجي".
(ص 243 ـ 244)
المصالح المتناقضة!
فلو وضعنا الإيديولوجية والخطب جانباً، نجد أن إيران والولايات المتحدة تتقاسمان العديد من المصالح المشتركة في المنطقة. فكلتاهما في حالة عداء مع العراق، وكلتاهما بحاجة إلى إرساء الاستقرار في الخليج العربي، وكلتاهما تؤيد تدفق النفط بدون إعاقة، وكلتاهما تعارض ـ بدرجات متفاوتة ـ تنامي قوة حركة طالبان بأفغانستان وتجارة المخدرات الأفغانية. خافت إسرائيل من أن تطغى هذه المصالح المشتركة بين إيران والولايات المتحدة في أي حوار أميركي إيراني على هواجس إسرائيل حيال طهران، وتترك إسرائيل بمفردها في مواجهة منافستها الفارسية.
(ص 256)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق