الاثنين، 30 سبتمبر 2024

الخيانة العبيدية الشيعية

 الخيانة العبيدية الشيعية





 أ.د. راغب السرجاني

ملخص المقال

موقف الدولة العبيدية بمصر بعد إرسالهم سفارة العار إلى الصليبيين يحتاج إلى وقفة، خاصة أن هذه ليست المحاولة الأولى التي يتضح فيها مدى كرههم للسنة


السفارة العبيدية الشيعية

وصلت السفارة العبيدية الشيعية المصرية إلى الصليبيين محمَّلة بالأموال الغزيرة والهدايا الثمينة لكل قائد من قوَّاد الحملة الصليبية، وبعرضٍ من الدولة العبيدية أن تسهِّل حجَّ الصليبيين وكل النصارى إلى بيت المقدس (المحكوم حتى هذه اللحظة بالدولة العبيدية)، على أن يدخل الحجاج إلى القدس غير مسلَّحين[1]، وسوف تقرُّ الدولة العبيدية الصليبيين على ما تحت أيديهم من بلاد، سواء في آسيا الصغرى أو سوريا أو لبنان.

هكذا!!

الرد الساخر


فاجأ الصليبييون السفارة العبيدية بالردِّ الساخر، أنهم سيتمكَّنون من أداء الحج كما يريدون ولكن ليس بمساعدة الدولة العبيدية، وهذا يعني إعلانًا مباشرًا للحرب[2]، إذ كيف سيدخلون البلد دون سماح حُكَّامها؟!

تاريخ الدولة العبيدية وبيت المقدس

الحقُّ أن موقف الدولة العبيدية يحتاج إلى نظرة وتدبُّر، وعودة للوراء قليلاً لنعرف شيئًا عن الدولة العبيدية، وعن تاريخ بيت لمقدس في هذه الفترة.

إن بعض المؤرِّخين -سواء من القدامى أو من المحدثين- يتعجَّبون من ردِّ فعل الدولة العبيدية تجاه الحملة الصليبية، ومن حالة المعاملة الفجَّة التي ظهرت في أقوالهم وأفعالهم، ومن بعض المواقف التي لا تُوصَف بأقل من أنها مخزية ومشينة[3]، ومع ذلك فالذي يُرَاجِع التاريخ يجد أنه لا عجب مطلقًا فيما رأيناه من ردِّ فعلٍ للدولة العبيدية تجاه الحروب الصليبية.

لقد كان من أهداف الدولة العبيدية الرئيسية منذ قامت هي أن تُحَارِب المسلمين السُّنَّة في كل مكان، فقد حاربت أهل السُّنَّة في المغرب، وقتلت العلماء والعُبَّاد، وكان ذلك في سنة 296هـ، ثم جعلت من همِّها أن تحارب الدولة السُنِّيَّة في الأندلس، بل وتعاونت مع الصليبيين في شمال الأندلس ضد دولة عبد الرحمن الناصر رحمه الله، ثم اجتاحت شمال إفريقيا، واحتلت مصر سنة (358هـ= 969م)، وفعلت بعلمائها السُّنَّة مثلما فعلت في المغرب، ثم توسَّعت في نفس السنة في الشام، واحتلت بيت المقدس وكذلك دمشق[4]، ودام هذا الاحتلال أكثر من مائة سنة.

لقد بقِيَ العبيديون في بيت المقدس حتى حرَّرها ألب أرسلان - رحمه الله- عن طريق قائده أتسز (الأقسيس)، وذلك في سنة (463هـ= 1071م)[5]، ثم دخل بيت المقدس في مُلْكِ تتش بن ألب أرسلان سنة (471هـ= 1079م)[6]، وتولَّى الإمارة حينئذ أرتق بن أكسب، ثم ابنه سكمان بن أرتق سنة (485هـ= 1091م) تحت ولاية دقاق بن تتش مَلِكِ دمشق[7].

ولكن العبيديين لم يُسَلِّموا بضياع بيت المقدس وفلسطين من أيديهم؛ ولذلك رحبوا بقدوم الصليبيين إلى آسيا الصغرى والشام لكي يشغلوا الأتراك السُّنَّة وينفردوا هم ببيت لمقدس وفلسطين[8]؛ ولذلك فقد استغلَّ العبيديون فرصة انشغال الأتراك في حرب الصليبيين، ووجَّهوا قوتهم لغزو بيت المقدس سنة (490هـ) 1097م، واستولَوْا عليه بالفعل[9]، بل ولم يتورَّعوا عن القيام بمفاوضات مع الصليبيين لإقرارهم على الشام في مقابل إقرار الصليبيين لهم على فلسطين كما وضَّحْنَا[10].

إنه تاريخ طويل من الخيانة والعمالة والطعن في ظُهُورِ المسلمين السُّنَّة.

أمَّا الصليبيون فقد أخذوا قرار احتلال فلسطين، وخاصَّةً بيت المقدس، فلا مجال عندهم الآن للتفاوض مع العبيديين، ومن ثَمَّ كان ردُّهم الساخر على سفارتهم.

خط سير الجيوش الصليبية نحو بيت المقدس

ترك الصليبيون طرابلس ووصلوا إلى بيروت فصيدا ثم صور، والمسلمون في كل ذلك يتجنَّبونهم بالهدايا والأموال لكيلا يتعرضوا للإيذاء، ثم اخترقوا لبنان إلى فلسطين، وعبروا نهر الكلب، وهو الحدُّ الفاصل آنذاك بين أملاك السلاجقة وأملاك الدولة العبيدية، فمرُّوا بعكا فقام أميرها العبيديّ بتمويلهم بالطعام والمؤن، ووعد بالدخول في طاعتهم بعد سقوط بيت المقدس[11]!

ثم مرَّ الصليبيون بقَيْسَارِيَة ثم أُرْسُوف[12]،[13] ثم غيَّروا طريق الساحل، وشقُّوا البلاد شرقًا إلى الداخل صوب بيت المقدس، واحتلُّوا في طريقهم الرَّمْلَة، وهي مدينة صغيرة، ولكنها تسيطر على الطريق الواصل من بيت المقدس إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، فسيطر عليها الصليبيون ليؤمِّنوا طريقهم بعد ذلك إلى البحر[14]؛ حفاظًا على إمدادات السفن والأساطيل الأوربية، وفي هذه المدينة (الرملة) توقَّف الصليبيون ليعقدوا اجتماعًا مهمًّا لتحديد خطوات الغزو، وكان ذلك في (492هـ= أوائل يونيو 1099م).

التطلع لاحتلال مصر

بحث الصليبيون في هذا اجتماع الرملة نقطة مهمة تُفَسِّر خطوات مستقبليَّة في الحملات الصليبيَّة، لقد ناقشوا قضيَّة غزو القاهرة وإسقاط مصر[15]!!

لقد فهم الصليبيون في ذلك الوقت المتقدِّم أن مفاتيح بيت المقدس موجودة في القاهرة، ولم يكن هذا فقط لأن العبيديين يُسيطرون على بيت المقدس الآن؛ فقد اتضح للصليبيين مدى هلع العبيديين من قوَّة الصليبيين، ولكن للبُعْدِ الإستراتيجي المهمِّ لهذا البلد الكبير مصر، والذي يحدُّ فلسطين من جنوبها وغربها، والذي به طاقة بشريَّة ضخمة، وإمكانيات اقتصاديَّة عالية، وشعور فطريّ بالتقارب مع فلسطين، وخاصَّة فيما يتعلق ببيت المقدس، وبه المسجد الأقصى؛ لذلك فكَّر الصليبيون في هذا الاجتماع في قضية غزو مصر، غير أنهم وجدوا أن قوتهم غير كافية لهذه الخطوة الجريئة، خاصة أن عليهم إذا فعلوا ذلك أن يجتازوا حاجزًا صحراويًّا صعبًا وهو صحراء سيناء، وقد تهلك فيه القوة الصليبية.

ولذلك عدلوا عن هذا الرأي، وقرَّروا التوجُّه مباشرة إلى بيت المقدس، لكن هذا الاجتماع أظهر فكرة ظلَّت مسيطرة على عقول قادة الحروب الصليبية وخلفائهم، والتي وُضِعت بعد ذلك موضع التنفيذ في الحملتين الخامسة والسابعة من الحملات الصليبية، حيث تمَّ غزو مصر غزوًا صريحًا[16].

سنة الله الماضية

سؤال لا بد منه: أين الجيوش الإسلاميَّة في طول هذه المسافة التي قطعها الجيش الصليبي من أنطاكية إلى بيت المقدس، وهي مسافة تزيد على ستمائة كيلو متر؟!

أليس في هذه المناطق كلها رجل رشيد؟!

لقد افتقد المسلمون في هذه الآونة لمقوِّمات رئيسية من مقومات قيام الأُمَّة؛ لذلك قَبِلَتْ جموع المسلمين أن تَحُثَّ هذه الأقدام النجسة على طريقها إلى مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأُولَى القبلتين وثالث الحرمين، وإلى الأرض المباركة، دون أن يتحرَّك لهم ساكن؛ ولذلك حُصِر المسلمون في بيت المقدس!

لقد عانى المسلمون في هذا الوقت من أمراضٍ شتَّى.

لقد عانَوْا من بُعْدٍ عن الدين، وغياب للحميَّة الإسلاميَّة، وافتقاد للنخوة المستندة إلى عقيدة قويَّة صحيحة.

وعانوا كذلك من فُرقة مؤلمة، وتشتُّت فاضح، حتى صارت كل مدينة إمارة مستقلة، ودويلة منفصلة، بل ومتصارعة مع جيرانها المسلمين.

وعانوا -أيضًا- من افتقار لزعامة مخلصة متجرِّدة، تجمع الشتات في كيان واحد، وترغب في رفعة هذه الأمة دون نظر إلى مصالح الذات ورغبات النفس.

كما عانى المسلمون فوق ذلك من رؤية واضحة للواقع الذي يعيشونه، وللأخطار المحدقة بهم، وعانوا أيضًا من نقص حادٍّ في الدراية السياسية أو الكفاءة العسكريَّة.

لقد كانت الأُمَّة تمرُّ فعلاً بأزمة مركَّبة معقدة!

لكن إن كنا نتعجب من موقف الأمة وتخاذلها، فإن العجب يأخذنا وبشكل أكبر من موقف الصليبيين! كيف أَمِنُوا على أنفسهم أن يخوضوا كل هذه المسافات في عمق العالم الإسلامي، وهم لا يشعرون بخوفٍ ولا وَجَلٍ؟! إنهم يتوغلون في كثافة بشريَّة عالية جدًّا، ومحصورون بين عدة إمارات تحوي عدَّة جيوش مسلمة، والمسافة بينهم وبين أوطانهم بعيدة هائلة، فلو هُزِمُوا سُحِقُوا، وليس لهم مهرب ولا منجى!

كيف استطاعوا أن يتغلَّبوا على الخوف الفطريّ للبشر، وقَبِلُوا بهذه المغامرة الخطيرة؟!

إن الإجابة بأنهم خرجوا من ظروف صعبة جدًّا في أوروبا، جَعَلَت الحياة هناك أقرب إلى الموت، وجعلت طموحهم في ترك واقعهم الأليم يطغى على أية رغبة أخرى، وجعلت الموت في أرض فلسطين لا يفترق كثيرًا عن الحياة في أوربا الفقيرة آنذاك. إن هذه الإجابة فقط لا تشفي الغليل، ولا تفسِّر عدم الرهبة، وقلَّة الاكتراث الذي رأيناه في الجيوش الصليبية؛ فالروح عزيزة على النفس، وخاصَّةً إن لم يكن الإيمان باليوم الآخر والجنة وازعًا قويًّا يدفع إلى الموت.

فما تفسير هذه المعادلة الصعبة؟

ولماذا بدت الشجاعة في قلوب الصليبيين واضحة جليلة؟!


إن هذا يفسره لنا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه ثوبان رضي الله عليه وسلم، وبه يفسِّر الأوضاع وكأنه يراها رأي العين؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يُوشِكُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ الأُمَمُ مِنْ كُلِّ أُفُقٍ كَمَا تَدَاعَى الأَكَلَةُ عَلَى قَصْعَتِهَا". قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَمِنْ قِلَّةٍ بِنَا يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: "أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنْ تَكُونُونَ غُثَاءً كَغُثَاءِ السَّيْلِ، يَنْتَزِعُ الْمَهَابَةَ مِنْ قُلُوبِ عَدُوِّكُمْ، وَيَجْعَلُ فِي قُلُوبِكُمْ الْوَهْنَ". قَالَ: قُلْنَا: وَمَا الْوَهْنُ؟ قَالَ: "حُبُّ الْحَيَاةِ وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ"[17].

إن الأمم الغربيَّة التي تداعت من فرنسا وإيطاليا وإنجلترا وألمانيا لم تأتِ بهذه القوة والشجاعة إلاَّ لأنَّ الله عز وجل نزع الرهبة من قلوبها من جموع المسلمين، فصاروا لا يكترثون بهم ولا بأعدادهم وحصونهم وسلاحهم، ورأينا اجتماعات الصليبيين لا تُعَبِّر أبدًا عن خوف في صدورهم، أو عن قلق من مقاومة المسلمين، إنما يتحرَّكون هنا وهناك بحرية تامَّة، وباطمئنان كامل!!

والمسلمون على الجانب الآخر أُلقى في قلوبهم الوَهْن والضعف والخَوَر، فيرتعبون لرؤية الجنود الصليبيين، ولو كان الصليبيون أقلَّ منهم في العدد، وأضعف منهم في العُدَّة.

ولنا مع الحديث وقفتان، وإن كانت وقفاته كثيرة:

أمَّا الوقفة الأولى:
فهي أن الله عز وجل هو الذي ينزع الرهبة مِنَّا من قلوب أعدائنا، وهو الذي يلقي في قلوبنا الوهن! وقد يقول قائل: ولماذا يفعل ربنا ذلك، مع أننا في النهاية مؤمنون، وهم كافرون؟! فنقول: إن الله عز وجل أَبَى أن يُعِزَّ المسلمين إلا إذا ارتبطوا بالإسلام، والتزموا بالقرآن والسُّنَّة، ولو نَصَرَهُم وهم يُفْرِطون في الشرع لصارت فتنة عظيمة؛ إذ سيقول الناس: إننا لسنا في حاجة للإسلام، فقد نُصِرْنَا بغيره؛ لذلك تحدث مثل هذه المواقف العجيبة ليلتفت المسلمون إلى دينهم، وليضع المسلمون أيديهم على مفاتيح النصر الحقيقيَّة.

أما الوقفة الثانية:
فإنها مع السبب الذي من أجله حدثت كل هذه التداعيات المؤلمة، إنَّ وصف الحدث والمأساة أخذ كلمات كثيرة، ولكن السبب وراء كل ذلك لم يأتِ إلاَّ في جُمْلَتين قصيرتين: حُبّ الدنيا، وكراهية الموت.

إن المسلمين تعلَّقوا بالدنيا تعلُّقًا غير مقبول، حتى صاروا يكرهون الموت في سبيل الله، وأُمَّة ترهب الموت لا بُدَّ أن تُقْهَر، وأُمَّة تعشق الدنيا لا بُدَّ أن تذلَّ، والدنيا ملعونة كما ذكر رسولنا صلى الله عليه وسلم، والمتمسِّك بها يهلك، ليس هذا فقط بل وتضيع منه الآخرة.

إن هذا السبب يُفَسِّر لنا التخاذل الرهيب الذي رأيناه من جموع المسلمين التي كانت تخرج إلى الصليبيين وهي تحمل الهدايا النفيسة، والأموال الطائلة، لكي يتركونهم "يعيشون"! مجرَّد حياة، أيًّا كانت هذه الحياة، وهذا -والله- هو الهوان بعينه.

هكذا حُصِرَ المسلمون المتمسِّكون بدُنياهم في بيت المقدس، وراقب المسلمون البعيدون عن القدس الموقف في سكون، ينتظرون اليوم الذي ستدور عليهم فيه الدوائر!!

المراجع

[1] Michaud: op. cit. 1, pp. 362-363.


[2] Guillaume de Tyr, 1, pp. 305-306.


[3] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 9/13، 14.


[4] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 7/309، وابن كثير: البداية والنهاية 11/266، 267.


[5] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 8/390


[6] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 8/418.


[7] ابن القلانسي: ذيل تاريخ دمشق ص135.


[8] سعيد عاشور: الحركة الصليبية 1/191.


[9] ابن القلانسي: ذيل تاريخ دمشق ص135.


[10] Setton: op. cit., vol. 1, p. 316.


[11] توديبو: تاريخ الرحلة إلى بيت المقدس ص294-299، وليم الصوري: تاريخ الأعمال المنجزة في ما وراء البحر 1/358، والمؤرخ المجهول: أعمال الفرنجة وحجاج بيت المقدس ص277.


[12] أرسوف: مدينة على ساحل بحر الشام بين قيسارية ويافا. ياقوت الحموي: معجم البلدان 1/151.


[13] Aِlbert d`Alex, p. 460.


[14] المؤرخ المجهول: أعمال الفرنجة وحجاج بيت المقدس ص277، فوشيه الشارتري: تاريخ الحملة إلى القدس ص70، وليم الصوري: تاريخ الأعمال المنجزة في ما وراء البحر 1/400.


[15] Raymond d`Alx. P. 299; Chalandon:p. 267; Grousset: 1, pp. 150-151.


[16] Albert d`Aix, p. 292.


[17] أبو داود: كتاب الملاحم، باب في تداعي الأمم على أهل الإسلام (4297)، وأحمد (22450) واللفظ له، والطيالسي (992)، وابن أبي شيبة في مصنفه 7/463، والبيهقي في شعب الإيمان (10372)، وأبو نعيم في الحلية 1/182، وقال الألباني: صحيح (8183) صحيح الجامع.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق