صلاح الدين من التفكيك إلى البناء.. قراءة في النهضة العلمية في الدولة الأيوبية (1-2)
عند الحديث عن عصر الدولة الأيوبية بكل ما تمثله في الذاكرة الإسلامية من أحدوثة الجهاد والبطولة والنهوض بعد قرنين من الكبوة والتراجع وبالأخص فترة السلطان صلاح الدين الأيوبي، يركز معظم الدراسين على مشاهد البطولات الاسلامية وفروسيات الفتح المقدس ومعركة حطين، والقليل من الباحثين في تاريخ العهد الوسيط يتطرقون للجوانب الثقافية والعلمية والاجتماعية في ذلك العهد المنير والذي تميز بسرعة جريان الأحداث من سقوط سلطانات ودويلات وظهور سلطانات ودويلات جديدة في العراق وبلاد الشام ومصر.
واتسم العهد الأيوبي بشكل عام وعهد صلاح الدين الأيوبي بشكل خاص بعوالم وشواهد النهضة الحضارية، وكانت خطته في التعامل مع الفترات الانتقالية في مرحلة ما بعد سقوط الدولة الفاطمية العبيدية في مصر في غاية الذكاء والحرفية والرؤية الثاقبة في التعامل مع عقبات مشروعه الطموح في تطهير سواحل العالم الإسلامي من الوجود الصليبي وتحرير درّته ؛ بيت المقدس.
فقد اعتمد صلاح الدين على خطة نهوض متكاملة الأركان وتعمل على كل الأصعدة ويتكامل فيها جهاد القلم مع جهاد السيف لخلق حالة شعبية جماعية من الوعي والاستعداد للمشاركة في العمل الكبير وركوب الأخطار.
أخذ الفاطميون في بث عقائدهم وأفكارهم بين المصريين خاصة تلك المتعلقة بالاستغاثة بالأولياء والأضرحة وراجت سوق التصوف بقوة في مصر ورعى الفاطميون مروجها لما بين التصوف والتشيع من تماس في العديد من المبادئ والأفكار والرؤى. |
فقد انتشرت في عهده المدارس والمعاهد الدينية ودور التحفيظ، وشهدت الحركة العلمية على يديه ازدهارا كبيرا، فضلاً عن دعمه للعلماء ولطلاب العلم.وإلى جانب ذلك خلّد العهد الأيوبي معالماً تاريخية هامة وآثاراً حضارية لافتة وصل أكثرها حتى يومنا هذا كالزوايا والمدارس والمساجد والجوامع والبيمارستانات وماشابه ذلك من صروح حضارية هامة. لذلك يمكننا أن نستنتج ونقول بأن العهد الأيوبي –على قصره-كان من أكثر عهد نهضة وازدهار في التاريخ الوسيط للحضارة الاسلامية إلى جانب كونه عصر استفاقة وعهد ووحدة اسلامية في وجه الحروب الحملات الصليبية ذلك الحين.
لذلك سنحاول تسليط الضوء على تجربة صلاح الدين الأيوبي للنهوض بالعلم بكافة مكوناته؛ طلاب ومعلمين ومدارس ومناهج ومصادر تمويل.
وقبل أن نشرع في تفاصيل تلك التجربة وخصوصيتها وتفردها عن غيرها من التجارب السابقة واللاحقة يجب أن نمر سريعاً على الحياة العلمية والثقافية في المجتمع المصري خلال حكم الدولة الفاطمية العبيدية لما كان من أثر واضح في تخطيط وترتيب خطة صلاح الدين الأيوبي للنهوض بالتعليم والثقافة.
الفاطميون والتدرج الماكر
عندما نقل الفاطميون مركز دولتهم من المغرب إلى مصر في عهد المعز الفاطمي قرروا الاستفادة من تجربتهم المريرة مع المغاربة بعد المقاومة العنيفة والشديدة التي أبداها المغاربة تجاه محاولات فرض التشيع قسراً عليهم، وقرروا تلافي الأخطاء التي وقعوا فيها هناك، فعملوا في بادئ الأمر على استمالة المصريين بترك حرية الاعتقاد وعدم إجبارهم على مذهب الفاطميين، وسمحوا ببقاء المدارس السنية التي تدرس المذاهب الفقهية المعروفة، وسمحوا للمحدثين والعلماء بالتدريس على عادتهم دون تضييق بادئ الأمر، وعملوا على إظهار حب آل البيت، كما استغلوا الميل الفطري عند المصريين نحو الاحتفال واللهو، فاستحدثوا 24 عيدًا ومناسبة دينية إسلامية ونصرانية ويهودية كلها بدعية ما أنزل الله بها من سلطان، ومن خلال هذه المناسبات وفي أجوائها الاحتفالية أخذ الفاطميون في بث عقائدهم وأفكارهم بين المصريين خاصة تلك المتعلقة بالاستغاثة بالأولياء والأضرحة وراجت سوق التصوف بقوة في مصر ورعى الفاطميون مروجها لما بين التصوف والتشيع من تماس في العديد من المبادئ والأفكار والرؤى.
كما توسعوا في بناء المكتبات الكبيرة وبناء المؤسسات الثقافية والعلمية، ومن أهم مؤسساتهم العلمية؛ الجامع الأزهر، الذي كان بمثابة قلعة علمية لنشر العقائد الشيعية عامة والفاطمية الباطنية خاصة، وأول مدرسة داخلية لتخريج الدعاة والعلماء في التشيع، فقد كان يدرس به 750 طالبًا من شتى أرجاء العالم الإسلامي، يتعلمون فيه أصول ومبادئ المذاهب الشيعية المختلفة، ثم يتخرجون بعد عدة سنوات دعاة لنشر التشيع والفاكر الباطني، وقد أصبح الأزهر منبرا دعويا وإعلاميا وعلميا للدولة الفاطمية سيطروا به على الحياة الثقافية في مصر لقرنين من الزمان، كما بنوا مكتبة دار العلم التي بناها الحاكم بأمر الله الفاطمي سنة 395 هـ وكان بها من درر وفرائد الكتب من كل فن ما لم يوجد في غيرها من مكتبات العالم الإسلامي وقتها، وقد وصل عدد الكتب في تلك الدار في أواخر عهد الفاطميين إلى 2,6 مليون كتاب مما يجعلها المكتبة الأكبر عبر التاريخ!
كل ذلك تم في هدوء وتدرج خبيث في غاية المكر لقرابة الخمسين سنة، ولما استتب الأمر لهم وأحكموا قبضتهم على الأوضاع داخل مصر أسفروا عن وجههم الحقيقي، فمنعوا تدريس المذاهب السنية وألزموا الناس اعتناق التشيع الفاطمي، وأجبروهم على دراسة كتب العقيدة الفاطمية، وأغلقوا المدارس وقتلوا العلماء والصالحين وطاردوا المحدثين، وأظهروا الكفر البواح والزندقة الكاملة في عهد الحاكم الفاطمي.
عهد المستنصر الفاطمي والظواهر الأربعة
ظلت الدولة الفاطمية العبيدية محتفظة بنظامها الخاص في تداول السلطة، اتباعاً لقاعدة التوريث لأكبر الأنجال، مما أكسبها نوعاً من الاستقرار رغم كثرة الأخطار المحيطة وكثرة الثورات الداخلية ضدها حتى جاء عهد المستنصر الفاطمي(ت:487 ه)
فقد اتسم عهده الطويل والذي امتد لستين سنة ليكون أطول حكام التاريخ الإسلامي بقاءً في الحكم بالعديد من الظواهر السلبية التي أدت محصلتها النهائية لتضعضع نفوذ الدولة الفاطمية وذهاب قوتها وضعف أثرها داخلياً وخارجياً، كما أدت لانهيار كبير في المجتمعات التابعة لها على كل الأصعدة وفي مقدمتها الصعيد العلمي والثقافي.
اعتمد صلاح الدين على خطة نهوض متكاملة الأركان وتعمل على كل الأصعدة ويتكامل فيها جهاد القلم مع جهاد السيف لخلق حالة شعبية جماعية من الوعي والاستعداد للمشاركة في العمل الكبير وركوب الأخطار. |
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق