عزيزي الشتاء.. من فضلك لاتأت هذا العاميوسف الدموكيصحفي، وطالب بقسم التلفزيون والسينما في كلية الإعلام بجامعة مرمرة
كأيّ مدينةٍ من مدن الأرض البهيّة، وبكونها مدينة ساحليّة تنام على امتدادِ البحر، وتصنع من الشاطئ وسادةً خاصة، تحبّ أن تشدَّ الرمال فوقها لحافًا دافئًا حين تلمح أُولى علاماتِ الندى في الأفق، وتتساقط صغار الغيث من السماء، وتتلبّد السحب والغيوم، وتبشّر الأجواء بالشتاء المقبل عمّا قريب، تحبّ غزّة الفصل كما الفصول الأخرى، وكلّ أيّام الله خير، وهي المُعينة على جفاف الحال وقسوة الحصار وشظف العيش، فتُنبت الأمطار ما تعذّر من الزروع التي لم تكفها المياه الجوفيّة أو المحلاة، فلا حصار يمنع من هطول المطر.
كان الشتاء يمثّل تحدّيًا من نوعٍ خاص، ورسالة لذيذة يحبّها الغزّيون كلّ سنة، تأتيهم علامةً للفرج مهما طال الأمد، وأنّ ذلك الاحتلال لو استطاع لمنع عنهم حتى ماء السماء، لكنّه تذكير سنوي بأنّ "إسرائيل" تحت العرش لا فوقه، والغوث الإلهي لا يعجزه أحد في الأرض ولا في السماء، لكنّها سنن الله في التدافع لا أكثر، وذلك حظّ غزّة منها، أن يستبدل بها أهلها قطعة من الجنة، والشبر الواحد من الجنة يُغنيك عمّا بين السماوات والأراضين، فكان المطر هو ذلك المناخ الذي يضفي (على قسوته في كثير من الأحيان) صبغة حالمة يستشعرها العاشقون والعابدون على حدٍّ سواء، وللمخيّم طقوسه ومشاعره في كلِّ فصلٍ على حدة، لكن يهمه أن تأتي جميعا واحدًا تلو الآخر، كي تشعره بأنّه ضمن الخليقة، يجري عليه ما يجري عليها، وأنّه ليس مسجونًا في كوكبٍ آخر.
لكن، عذرًا، أيّها الشتاء العزيز، لا ذنب لك، وليس جرمك، لكن إن يكن ذلك يحرجك، رجاءً، وبودٍّ خالص، ولطفٍ بالغ، أن تتقبّل طلبي، ولا تأتِ غزّة هذا العام، كلّ هؤلاء الأطفال الذين كانوا يستقبلونك فوق رؤوسهم بالرقص، لم تعدْ لهم رؤوس، وكلّ الأمهات اللائي كنّ يستقبلنك بطبخاتِ الدوالي واللحم والمسخّن ما زلن في مطابخهنّ منذ أحد عشر شهرا، ولكن تحت الأنقاض، وكلّ هؤلاء الرجال الذين يستبشرون بمائك ويحملونه بركةً فوق ثيابهم ومعاطفهم، باتوا متلحفين معاطفهم وهم جثامين دامية ومحترقة تحت الثرى والأرصفة، وكلّ تلك البيوت التي كانت تعدّ لك طقوسًا خاصة، بالقرآن، والقهوة، والشاي، والألحان، لم يعدْ واقفًا منها أحد، وقد قصفوها جميعًا بمن فيها.
اختلطت دماؤهم بأحزانهم وغادروا في صمتٍ مُوجعٍ بعد صخبٍ مُفجع
أيّها الشتاء العزيز، نقص التعداد عن العام الماضي خمسين ألفا، هؤلاء الأطفال الذين كانوا يحفظون أغانيك وتحفظ أغانيهم لحظة هطول المطر، وتلك العائلات الكاملة في البيوت الطيّبة، التي كانت تستقبلك كأنّك صاحب البيت، جميعهم اختلطت دماؤهم بأحزانهم وغادروا في صمتٍ مُوجعٍ بعد صخبٍ مُفجع، وقد خاصموك وشكوك إلى الله، لأنّ كثيرًا منهم مات وفي حلقه غصّة الجفاف، ولا ترطبه قطرةً واحدة، ونادوك كثيرًا ولم تأتِ، بأن تمنحهم من سحبك بعض المدد عوضًا عن الذي قطعه الاحتلال، كانوا يرجونك أن تأتي حينها ولو بأيّام قلائل تتوسّط الصيف فيها، لترطّب أعناقهم الذبيحة وألسنتهم الجريحة لكنّك لم تأتِ، فاستعاضوا عن الاستسقاء بالسقاء من الفردوس.
عزيزي الشتاء، الأيتام في الشارع، والخيام بالية، والحال يُرثى لها، والمقاتلون في عقدهم يكفيهم من التراب والطين ما يكفي، وأجواء الحزن الكئيبة تخيّم على كلِّ شبرٍ من الأرض المباركة المخذولة، فرجاءً حارًا من غزّة، لا تأتِ هذا العام، حتى لا تزيد الطين بلة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق