من صبرا وشاتيلا إلى غزّة: عقيدة إبادة وغريزة انتقام لا تنطفئ
ساري عرابي
لا يُعرَف حتى الآن عدد شهداء مجزرة صبرا وشاتيلا، فالتقديرات متفاوتة جدّا، ترتفع إلى حدّ أربعة آلاف شهيد، وتنزل دون هذا العدد بكثير، وهذا العجز عن الإحصاء الدقيق لشهداء المجزرة، يتخذ صورتين متقابلتين، بين نمط الإبادة الذي يقترفه الإسرائيلي بحق الفلسطينيين، والنمط الخاص والفريد للمأساة الفلسطينية، فالإبادة الجماعية تتقصّد الفرد كذلك، فتنقله من كونه إنسانا كانت له حياته، وامتلك روايته وسرديته وشهادته، إلى رقم مشكوك في صحته، أو قصة مشكوك في حقيقتها، وذلك إمعان في النفي والمحو للمعنى الفلسطيني، وفي المقابل يُحرَم الفلسطينيون من سرد شهاداتهم كلّها، وإظهار معاناتهم المركّبة، بوصفها معاناة شعب تُلاحق كيانيته السياسية، ومعاناة كلّ فرد في هذا الشعب.
بمدّ التاريخ الفلسطيني الواحد، من اليوم موعد نشر هذه المقالة (17 أيلول/ سبتمبر 2024)، إلى يوم مجزرة صبرا وشاتيلا التي طالت من 16 وحتى 18 أيلول/ سبتمبر 1982، فإنّه لا يمكن لأحد، وقد ارتفعت مستويات الإبادة إلى عشرات الآلاف في الحرب على غزّة، أن يقطع بالعدد الدقيق لشهداء غزّة في هذه الحرب؛ فقد تمكّنت وزارة الصحة الفلسطينية بغزة، في الذكرى الثانية والأربعين لليوم الأول لمجزرة صبرا وشاتيلا (16 أيلول/ سبتمبر)، من توثيق أسماء 34 ألفا و344 فلسطينيّا استشهدوا في حرب الإبادة الإسرائيلية المفروضة على قطاع غزّة، من ضمنهم 11 ألفا و983 طفلا أعمارهم أقل من 18 عاما، بينهم 710 أطفال لم يتجاوزوا العام، إلا أنّها في الوقت نفسه أعلنت أن الرقم الكامل لأعداد الشهداء والمفقودين هو 51 ألفا و206 فلسطينيين، وهو ما يعني أنّ 16 ألفا و862 فلسطينيّا لا يُعرف بعد عنهم أيّ شيء! وذلك حتى التاريخ المذكور (16 أيلول/ سبتمبر 2024).
إنّ الاختلاف من أيلول/ سبتمبر 1982 وحتى الشهر نفسه في العام 2024، هو فقط في مستويات القتل والإبادة، لا في المبدأ ولا في النمط، ولا حتى في الدوافع، فلم تكن مجزرة صبرا وشاتيلا التي اقترفتها المليشيات اللبنانية المتحالفة مع الاحتلال الإسرائيلي، بإشراف ومشاركة جيش الاحتلال، إلا بالدافع الإسرائيلي المركّب من غريزة الثأر والانتقام وعقيدة الإبادة، وتأكيد التفوق الإسرائيلي بالقدرة على الثأر والانتقام المضاعف وتيئيس الفلسطينيين من جدوى مقاومتهم، وهو الأمر الذي وبقدر ما يسعى الإسرائيلي بواسطته لتأكيد عناده وتمسّكه بأيّ وسيلة تضمن بقاءه واستمراره في فلسطين، فإنّه بذلك يُضمِر فزعا من أنّه لا بقاء له إلا بالإبادة، بيد أنّ عُقْدته في كون هذه الإبادة لا تضمن الغاية المرادة منها، فتصير في ذاتها غاية، وهو ما يعني أن الاستمرارية الإسرائيلية محدودة، فلا استمرار لكيانية تتنفس الإبادة وتغتذي بها وتعتاش عليها!
ترتبط حرب الإبادة الجارية على غزّة الآن بمجزرة صبرا وشاتيلا، بالدافع. وقعت مجزرة صبرا وشاتيلا بعد عشر سنوات بالضبط من عملية ميونخ التي كانت في يومي (5 و6 أيلول/ سبتمبر 1972)، لتكون عملية انتقامية نموذجية للإسرائيلي، فاختيار المخيم كان مقصودا لذاته، فكما يروي محمود عبد الله كلم في كتابه "صبرا وشاتيلا: ذاكرة الدم"، ينتمي خمسة من ثمانية هم منفذو عملية ميونخ للحيّ الذي بدأت منه المجزرة، ويلعبون كرة القدم في نادي "الكرمل" التابع لجمعية إنعاش المخيم الفلسطيني، حيث بدأت المجزرة؛ بقصف الجمعية والنادي وتدميرهما، ثمّ تركّزت في شارع أبو حسن سلامة الذي كان يُعدّ مقرّا لمنظمة "أيلول الأسود" المسؤولة عن عملية ميونخ.
جاءت المجزرة في مخيم صبرا وشاتيلا عن قصد، وبعد عشر سنوات على عملية ميونخ، وتعمّدت أن تطول ضعف مدة عملية ميونخ، وبينما قُتل في حادثة ميونخ 12 شخصا بسبب سلوك الشرطة الألمانية تحديدا، إذ لم يقصد الخاطفون قتلهم وإنما مبادلتهم بعدد من الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال، وقُتِل إلى جانبهم خمسة من الخاطفين، فقد أمعن الاحتلال وبواسطة أدواته المتحالفة معه في قتل آلاف المدنيين الفلسطينيين في مخيم صبرا وشاتيلا، وذلك في حين أنه لا تصحّ المقارنة أصلا بين فصيل يندرج في إطار حركة تحرر وطنيّ يقصد بعمليته تحرير الأسرى من أبناء شعبه، وبين دولة تقصد الإبادة والانتقام يُفترض فيها امتلاك القدرة الكاملة لضبط عملياتها؛ لولا أنّها تتحرك بغريزة ثأرية تعتاش عليها، ولا يمكنها كبحها!
وإذا كان مخيم صبرا وشاتيلا مثّل الرمزية النموذجية للاحتلال الإسرائيلي للثأر من منفّذي عملية ميونخ، فقد انتهج السياسة نفسها في قطاع غزة، من جهة بالإبادة الواسعة التي طالت الغزيين كلّهم، ومن جهة أخرى باستهداف عائلات منفّذي عملية السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، وملاحقتهم حتى الساعة، وقصفهم حيثما وجدوا، ولو في أماكن النزوح، وهو ما أفضى إلى مقتل آلاف النساء والأطفال والشيوخ الغزّيين؛ فقط لأنّ أبناءهم شاركوا في عملية "طوفان الأقصى".
بتحليل رمزية مخيم صبرا وشاتيلا بما يؤكّد اختياره بغرض الثأر والانتقام، هل يمكن القول إنّ عملية ميونخ وفّرت "الفرصة أو الذريعة" لتدمير المخيم وإبادة سكانه؟ الجواب: لا غرض العملية ولا شكلها ولا نتيجتها من الممكن تشخيصه ذريعة يمكن استغلالها لعملية تدمير وإبادة لمخيم فلسطينيّ في لبنان، (ونحن نستخدم هنا وصف الإبادة بمعزل عن أي نقاش قانوني حول مفهوم الإبادة الجماعية ولكن بقصد الوصف المباشر لما جرى)،
وعملية الإبادة هذه جاءت بعد عشر سنوات على عملية ميونخ، مما يمنح الزمن القدرة الكافية على إنهاء المفاعيل النفسية الجماعية لدى الإسرائيليين الناجمة عن عملية ميونخ، بما يلغي أن تكون ميونخ ذريعة لأيّ ردّ فعل إسرائيلي بهذا الحجم.
أيضا لا يمكن تفسير مجزرة صبرا وشاتيلا، فقط بالحرب الأهلية اللبنانية، وصراع منظمة التحرير والقوى اللبنانية المتحالفة معها مع ما كان يُسمّى حينها باليمين الانعزالي الذي لم يكتف بالتحالف مع "إسرائيل"، ولكنّه تذيّل لها ورضي أن يكون أداة منحطّة لجريمة إبادة، فرمزية المخيم من حيث العلاقة بصبرا وشاتيلا واضحة، وقد اختير دون غيره من المخيمات الفلسطينية بإشراف إسرائيلي لتنفيذ تلك المجزرة، هذا علاوة على كون الاجتياح الإسرائيلي نفسه للبنان في حينه ارتكز إلى ذريعة تافهة، لا يمكن عدّها سببا مقنعا لاجتياح بهذا العمق والشمول، إذ اتخذت الحكومة الإسرائيلية قرارها بغزو لبنان بعد ما قيل عن محاولة جماعة "أبو نضال" المعادية أصلا لقيادة منظمة التحرير، اغتيال السفير الإسرائيلي في لندن!
وبما أنّ ذريعة الغزو أصلا غير معقولة، إذ السبب الحقيقي هو تصفية وجود قوات منظمة التحرير في لبنان، وبما أنّ عملية ميونخ لا يمكن ولا بأيّ اعتبار أن تمنح بعد عشر سنوات الذريعة أو الفرصة للثأر المتوحش في صبرا وشاتيلا، فإنّ ذلك لا يعني سوى أن الإبادة عقيدة إسرائيلية، يخضع تفعيلها وتقرير مستوياتها لإرادة "إسرائيل" وقدرتها، لا لفرصة أو ذريعة يوفّرها الفلسطيني، والقفز عن ذلك بتحميل الضحية مسؤولية توفير (الذريعة أو الفرصة) لا مفهوم له إلا دعوة الضحية للاستكانة، والتي تعني القبول بالإبادة السياسية والمعنوية، لأنه لا يمكن لأحد أن يتوقع كيفيات التصرف الإسرائيلي إزاء مقاومة الضحية لوجوده وسياساته.
x.com/sariorabi
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق