المُتنبّي وغزّةأيمن العتوم
رماني الدّهرُ بِالأَرْزاءِ حَتَّى
فُؤادِي فِي غِشَاءٍ مِنْ نِبالِ
فَصِرْتُ إذَا أَصَابَتْني سِهَامٌ
تَكَسَّرَتِ النِّصَالُ عَلَى النِّصالِ
وهَانَ فَمَا أُبَالِي بِالرَّزَايا
لأنِّي مَا انْتَفَعْتُ بأنْ أُبالي
فيا لَيْتَ ما بيني وبينَ أحبّتي
مِنَ البُعدِ ما بيني وبين المَصائِب
إِنِّي أُصَاحِبُ حِلْمِي وَهْوَ بِي كَرَمٌ
وَلا أُصَاحِبُ حِلْمِي وَهْوَ بِي جُبُنُ
وَلا أُقِيمُ عَلَى مَالٍ أَذِلُّ بِهِ
وَلا أَلَذُّ بِمَا عِرْضِي بِهِ دَرِنُ
ويرى الرّجل أخاه أو أباه أو ابنته أو ابنته تسقطُ مضرّجةً أمامَه بدمائِها، ويحتضنُ المكلومُ مَنْ كان كلّ شيءٍ بالنّسبه له، وكأنّ صوتَ المتنبّي ينزفُ معه وهو يهتف:
وَإِنَّ رَحِيلاً واحِدًا حَالَ بَيْنَنَا
وَفِي المَوْتِ مِنْ بَعْدِ الرّحيلِ رَحِيْلُ
أمّا المُقاومة الّتي لا تعترف إلاّ بالسّيف وبالقُوّة، فهي تتمثّلُ قول المتنبّي:
سَيَصْحَبُ النَّصْلُ مِنِّي مِثْلَ مَضْرِبِهِ
وَيَنْجَلي خَبَرِي عَنْ صِمَّةِ الصِّمَمِ
لَقَدْ تَصَبَّرْتُ حَتَّى لاتَ مُصْطَبَرٍ
فَالآنَ أَقْحَمُ حَتَّى لاتَ مُقْتَحَمِ
لَأَتْرُكَنَّ وُجُوهَ الخَيْلِ سَاهِمَةً
وَالحَرْبُ أَقْوَمُ مِنْ سَاقٍ عَلَى قَدَمِ
وترفعُ راية القِتال حتّى يُسمَع صوتُ صواريِخها في كلّ مكانٍ، وتهتفُ من نفسٍ ضاجّةٍ بالأسى والحقدِ على العدوّ:
أَقَرَارًا أَلَذُّ فَوْقَ شَرَارٍ
وَمَرَامًا أَبْغِي وَظُلْمِي يُرَامُ
دُوْنَ أَنْ يَشْرَقُ الحِجَازُ وَنَجْدٌ
وَالعِرَاقَانِ بِالقَنَا وَالشَّآمُ
وترى المُقاوَمَةُ أنّ أقصرَ الطّرق وأصوبَها وأكثرها استقامة هي رفع البندقيّة في وجه العدوّ، وأنّ لا خَيار غير القتال، وأنّه لا فِرارَ من الحرب، فتهتفُ:
وإنْ عمرتُ جعلتُ الحرب والِدةً
والسّمهريّ أخًا، والمشرفيَّ أبا
ويُطالبُها بعضُ جيرانها بأنْ تتريّثَ قليلاً، وأنْ تدرس الأمر من أكثر من زاوية، وألاّ تُبادِئ بالحرب، وأنْ تحلُمَ حتّى لا تنتهي، فتهتف:
وَوَضْعُ النَّدَى فِي موْضِع السّيفِ بِالعُلا
مُضِرٌّ، كَوَضْعِ السَّيْفِ فِي مَوْضِعِ النَّدَى
وهي تدركُ أنّ الحِلم الّذي يريدُه منها جيرانُها هو الضّعْفُ بعينه، وهو الاستسلام، فتهتف:
كلّ حِلْمٍ أتى بغيرِ اقتِدارٍ
حُجّةٌ لاجِئٌ إليها اللِّئامُ
وأمّا على الصّعيد الثّالث، فالمتنبّي الفيلسوف الّذي يراقب ما يحدثُ في غزّة، فيصوغ الجريمة شِعرًا يصلحُ لزمانه وزماننا وكلّ زمان، فيهتف:
لا يَخْدَعَنَّكَ مِنْ عَدُوٍّ دَمْعُهُ
وَارْحَمْ شَبَابَكَ مِنْ عَدُوٍّ تَرْحَمُ
لا يَسْلَمُ الشَّرَفُ الرَّفِيْعُ مِنَ الأَذَى
حَتَّى يُرَاقَ عَلَى جَوَانِبِهِ الدَّمُ
ثُمّ يرى آلة البطش الّتي لا ترعوي ولا تتوقّف، والّتي تستقوي على الضّعفاء، فيعجب لحال هذا الإنسان المفطور على الظُّلم والبطش والجبروت كما يراه، فيهتف:
وقوله:
والظُّلْمُ من شِيَم النُّفوس فإنْ تَجِدْ
ذا عِفَّةٍ، فَلِعِلَّةٍ لا يَظْلِمُ
ثُمّ يريدُ أنْ يُوصِلَ رسالةً إلى المُقاومة، لتُغيِّر وسائل هجومها، وأساليب حربِها مع عدوّها، فيهمسُ في أذنها:
مِنَ الجَهْلِ أَنْ تَسْتَعْمِلَ الحِلْمَ دُوْنَهُ
إِذَا اتَّسَعَتْ فِي الحلم طُرْقُ المظالِمِ
ثُمّ هو يعتقدُ أنْ الضّربة الّتي تكون عن تخطيطٍ ودراسةٍ ووعي غير الّتي تكون عن غضبةٍ وفورةٍ وثَوَران، مع أنّ كليهما مطلوب، فتراه يهتف:
وَكُلُّ شَجَاعَةٍ فِي المَرْءِ تُغْنِي
وَلا مِثْلُ الشَّجَاعَةِ فِي الحَكِيمِ
بغداد
22-9-2024م
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق