الأربعاء، 18 سبتمبر 2024

ماذا تبقى من الحنيفيّة في مجتمع الجاهليّة قبيل ولادة رسول الله صلى الله عليه وسلّم؟

 

ماذا تبقى من الحنيفيّة في مجتمع الجاهليّة قبيل ولادة رسول الله صلى

 الله عليه وسلّم؟


محمد خير موسى
مختص بقضايا الفكر الإسلامي ومشكلات الشباب


ماذا تبقى من الحنيفيّة في مجتمع الجاهليّة قبيل ولادة رسول الله صلى الله عليه وسلّم؟
على الرّغم من بحر الشّرك المتلاطم الذي كان يغرق فيه المجتمع الجاهليّ فقد كانت بقايا من الحنيفيّة تنتصب مثل منارات خافتة وسط العتمة الحالكة.

والحنيفيّة جاءت من الحنف وهو في اللّغة الميل، وهو في العرف اللغوي المستقر بعد ذلك “ميل عن الضّلال إلى الاستقامة” كما يبيّن الرّاغب الأصفهاني في غريب مفردات القرآن.

وقد وردت لفظة الحنيف في القرآن الكريم اثنتا عشرة مرة كلّها تدلّ على اتباع ملّة إبراهيم عليه الصّلاة والسلام أو فطرة الإسلام، كما يقول القرطبي في “الجامع لأحكام القرآن”: “حَنِيفًا: مائلًا عن الأديان المكروهة إلى الحق دين إبراهيم”

ومن تلك الآيات قوله تعالى في سورة البقرة: “وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ”

وقوله سبحانه في سورة آل عمران: “يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ * هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ * مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ”

وقوله جلّ وعلا: “قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ”

والحنيفيّة هي الإسلام عقيدةً؛ وهي فطرة الله تعالى التي تناقض شذوذ الشرك والإلحاد، وقد قال ربنا تبارك وتعالى في سورة الروم: “فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ”

وهي رسالة النبيّ صلى الله عليه وسلم القائل فيما يرويه أحمد في مسنده بسند حسن وصححه آخرون عن عائشة رضي الله عنها: “إِنِّي أُرْسِلْتُ بِحَنِيفِيَّةٍ سَمْحَةٍ”

ولقد بوب الإمام البخاري في كتاب الإيمان من صحيحه “بَاب الدِّينُ يُسْرٌ وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَبُّ الدِّينِ إِلَى اللَّهِ الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ”

ولقد كان نفر من الناس في الجاهليّة معروفين بالحنفاء، يعتقدون التوحيد ويرفضون الشرك وعبادة الأصنام، غير أنّهم كانوا في منأى من التبشير بما يحملون من اعتقاد أو تغيير ما عليه النّاس من الشرك، فكانوا مقبولين في المجتمع غير مجابهين له وغير منبوذين فيه.

إضافة إلى أننا لا نملك تصورًا دقيقًا عن شكل التوحيد الذي كانوا يعتقدونه ولا عن ممارساتهم، وفي ذلك يقول الدكتور جواد علي في موسوعته القيّمة “المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام”: “وقد أشار القرآن الكريم إلى جماعة من العرب لم يتعبد الأصنام، ولم تكن من اليهود ولا النصارى، وإنما اعتقدت بوجود إله واحد عبدته. وقد ذكر المفسرون وأهل الأخبار أسماء جماعة من هؤلاء، غير أن ما ذكروه عنهم غامض لا يشرح عقائدهم، ولا يوضح رأيهم في الدين، فلم يذكروا عقيدتهم في التوحيد، ولا كيفية تصورهم لخالق الكون.

وقد عرف هؤلاء بالحنفاء وبالأحناف، ونعتوا بأنهم على دين إبراهيم، ولم يكونوا يهودًا ولا نصارى، ولم يشركوا بربهم أحدًا. سفهوا عبادة الأصنام وسفهوا رأي القائلين بها… ولسنا نملك ويا للأسف شيئًا من الجاهلية يعيننا في الوقوف على عقائد الأحناف ودينهم، فليس في كتابات المسند ولا في الكتابات الجاهلية الأخرى، بل ولا في كتب اليونان واللاتين شيء عن عقيدتهم وعن آرائهم، لذلك اقتصر علمنا بأحوالهم على ما جاء في المؤلفات الإسلامية وحدها، والفضل في حفظ أخبارهم للقرآن الكريم، فلولا إشارته إليهم وذكره لهم، لما اهتم المفسرون وأصحاب الأخبار بجمع ما كان عالقًا في ذهن الناس عنهم. وللحديث وكتب السير والأدب فضل في جمع أخبارهم يجب ألا ينسى كذلك”

ومما اشتهر أنّ أهم ما يميّز الأحناف عن غيرهم من أهل الجاهليّة الاختتان وحجّ البيت، وامتناعهم عن أكل ذبائح الأوثان وكل ما أهل إلى غير الله، فقد وردت الأخبار المتضافرة عن امتناع الحنفاء عن أكل الذبائح التي تذبح للأوثان والأصنام، لأنها ذبحت لغير الله. كما اشتهر عنهم تحريم الخمر على أنفسهم، والنظر والتأمل في خلق الله.

وبعض هؤلاء الحنفاء مات قبل بعثة النبيّ صلى الله عليه وسلّم وبعضهم أدرك النبيّ صلى الله عليه وسلّم فآمن به وبعضهم أدركه وكفر به صلوات ربّي وسلامه عليه، ولا يوجد إحصاء دقيق لأعداد هؤلاء الحنفاء ولا لأسمائهم غير أنّ الدكتور جواد علي في كتابه “تاريخ العرب قبل الإسلام” استقصى أسماء أهمّ الحنفاء في تلكم الفترة، فذكر منهم: قس بن ساعدة الإيادي، وزيد بن عمرو بن نفيل، وأمية بن أبي الصلت وأرباب بن رئاب، وسويد بن عامر المصطلقي، وأسعد أبو كرب الحميري، ووكيع بن زهير الإيادي، وعمير بن جندب الجهني، وعدي بن زيد العبادي، وأبو قيس صرمة بن أبي أنس، وسيف بن ذي يزن، وورقة بن نوفل القرشي، وعامر بن الظرب العدواني، وعبد الطانحة بن ثعلب بن وبرة بن قضاعة، وعلاف بن شهاب التميمي، والملتمس بن أمية الكناني، وزهير بن أبي سلمى وخالد بن سنان العبسي، وعبد الله القضاعي، وعبيد بن الأبرص الأسدي، وكعب بن لؤي بن غالب” ولعلنا نقف مع بعض أشهر الحنفاء.

زيد بن عمرو بن نفيل
وكان من أشهر الذين كانوا على الحنيفية؛ ففي صحيح البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما: “أن زيد بن عمرو بن نفيل خرج إلى الشام يسأل عن الدين ويتبعه، فلقي عالمًا من اليهود، فسأله عن دينهم، فقال: إني لعلِّي أن أدين دينكم فأخبرني، فقال: لا تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من غضب الله! قال زيد: ما أفرّ إلا من غضب الله، ولا أحمل من غضب الله شيئًا أبدًا، وأنّى أستطيعه! فهل تدلّني على غيره؟ قال: ما أعلمه إلا أن يكون حنيفًا، قال زيد: وما الحنيف؟ قال: دين إبراهيم، لم يكن يهوديًا ولا نصرانيًا، ولا يعبد إلا الله، فخرج زيد فلقي عالمًا من النصارى، فذكر مثله، فقال: لن تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من لعنة الله! قال: ما أفرّ إلا من لعنة الله، ولا أحمل من لعنة الله، ولا من غضبه شيئًا أبدًا، وأنّى أستطيع! فهل تدلّني على غيره؟ قال: ما أعلمه إلا أن يكون حنيفًا، قال: وما الحنيف؟ قال: دين إبراهيم، لم يكن يهوديًا، ولا نصرانيًا، ولا يعبد إلا الله، فلما رأى زيد قولهم في إبراهيم عليه السلام خرج، فلما برز رفع يديه، فقال: اللهم إني أشهد أني على دين إبراهيم”

وفي صحيح البخاري أيضًا عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: “أن النّبي صلى الله عليه وسلم لقي زيد بن عمرو بن نفيل بأسفل بلدح، قبل أن ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم الوحي، فقدّمت إلى النّبي صلى الله عليه وسلم سفرة، فأبى أن يأكل منها، ثم قال زيد: إني لست آكل مما تذبحون على أنصابكم، ولا آكل إلا ما ذكر اسم الله عليه”

ويذكر الذّهبي في سير أعلام النبلاء: “عن أسماء بنت أبي بكر، قالت: لقد رأيت زيد بن عمرو بن نفيل قائما مسندًا ظهره إلى الكعبة يقول: يا معشر قريش والله ما منكم أحدٌ على دين إبراهيم غيري. وكان يحيي الموؤودة، يقول للرجل إذا أراد أن يقتل ابنته: مه! لا تقتلها أنا أكفيك مئونتها، فيأخذها، فإذا ترعرعت قال لأبيها: إن شئت دفعتها إليك وإن شئت كفيتك مئونتها” ثم قال: “هذا حديث صحيح”

ويذكرُ الذهبي أنّ نفرًا من قريش منهم زيد بن عمرو بن نفيل، وورقة بن نوفل، وعثمان بن الحويرث بن أسد، وهو ابن عم ورقة، وعبيد الله بن جحش بن رئاب، وأمه أميمة بنت عبد المطلب بن هاشم حضروا يومًا مع قريش عند وثن لهم كانوا يذبحون عنده في أحد أعيادهم، فما كان من هؤلاء النفر إلّا أن خلا بعضهم إلى بعض وقالوا: تصادَقوا وليكتُم بعضكم على بعض، فقال قائلهم: تعلمنّ والله ما قومكم على شيء، لقد أخطؤوا دين إبراهيم وخالفوه، وما وثن يعبد لا يضر ولا ينفع؟ فابتغوا لأنفسكم، فخرجوا يطلبون ويسيرون في الأرض يلتمسون أهل الكتاب من اليهود والنصارى والملل كلها، يتبعون الحنيفية دين إبراهيم، فأمّا ورقة فتنصّر، ولم يكن منهم أعدل شأنًا من زيد بن عمرو، اعتزل الأوثان وفارق الأديانَ إلا دين إبراهيم.

ومما قاله زيد بن عمرو بن نفيل في اعتزال الأوثان ورفض الشرك، كما يذكر ابن هشام في سيرته، وقوله هذا يعبّرُ عن ذهنيّة الأحناف عامّة في تلكم الفترة:

أَرَبًّا وَاحِدًا أَمْ أَلْفَ رَبّ

أَدِينُ إذَا تُقُسِّمَتْ الْأُمُورُ

عَزَلْتُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى جَمِيعًا

 كَذَلِكَ يَفْعَلُ الْجَلْدُ الصَّبُورُ

فَلَا الْعُزَّى أَدِينُ وَلَا ابْنَتَيْهَا

وَلَا صَنَمَيْ بَنِي عَمْرٍو أَزُورُ 

وَلَا هُبَلًا أَدِينُ وَكَانَ رَبًّا

لَنَا فِي الدَّهْرِ إذْ حِلْمِي يَسِيرُ

وَلَكِنْ أَعْبُدُ الرَّحْمَنَ رَبِّي

لِيَغْفِرَ ذَنْبِي الرَّبُّ الْغَفُورُ

فَتَقْوَى الله ربّكم احفظوهَا

مَتَى مَا تَحْفَظُوهَا لَا تَبُورُوا

تَرَى الْأَبْرَارَ دَارُهُمْ جِنَانٌ

وَلِلْكَفَّارِ حَامِيَةً سَعِيرُ

وَخِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ وَإِنْ يَمُوتُوا

يُلَاقُوا مَا تَضِيقُ بِهِ الصُّدُورُ

فهم كانوا يعتزلون الأصنام ويرفضون عبادتها، ويعبدون الله تعالى وحده، وفي عموم أحاديثهم ذكر للمعاد والجنة والنار، وهذا يضيء على عموم ما كانوا يحملونه من الأفكار والاعتقادات إلى جانب ما كانوا يفعلونه من شعائر ومناسك.

ولعلنا في المقال القادم ــ بإذن الله تعالى ــ نستكمل الحديث عن نماذج من الحنفاء الذين كانوا في الجاهليّة وموقف من أدرك منهم بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلّم من الإسلام. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق