الشيخ مصطفى صبري
شيخ الإسلام في الدولة العثمانية
الشيخ مصطفى صبري
شيخ الإسلام في الدولة العثمانية
شيخ الإسلام مصطفى صبري التوقادي
الدكتور محمد بن موسى الشريف
كانت تركيا عاصمة للخلافة والسلطنة أربعة قرون ونيف، ومن قبل ذلك ظلت قرنين ونيف شوكة في حلق الكفار، وفتح السلطان محمد عاصمة الدنيا آنذاك القسطنطينية، وحمى الله بالعثمانيين الإسلام والمسلمين قروناً طويلة، ونفع بهم كثيراً، وأدخل في الإسلام على أيديهم ملايين من الضالين، ووصل الأذان والتكبير إلى قلب أوروبا "البلقان"، ولهذه الدولة مآثر لا تحصى، وأعمال لا تحصر ولا تستقصى، لكن سنة الله تعالى لا تتخلف، فقد ضعف السلاطين وأخلدوا إلى الأرض، ونسوا أن الجهاد عليهم فَرْض، ورضوا بالتمدد اليهودي والماسوني والقومي الطوراني في أراضيهم تهاوناً ثم ضعفاً، وحاول السلطان عبد الحميد إنقاذ الدولة لكن الرياح لم تكن مواتية، والعقبات كانت كبيرة وصعبة، ثم عزل السلطان وتولى بعده من لا حول له ولا طول، وتربعت جمعية الاتحاد والترقي الماسونية على عرش البلاد، ومن ثم جاء الذئب الأغبر، والضال الأكبر مصطفى كمال الذي ألغى السلطنة سنة 1922 ثم الخلافة سنة 1924، وأعلن البلاد جمهورية إلحادية ضالة، وأمر بإلغاء الأذان بالعربية وإجبار النساء على السفور والرجال على لبس القبعات، وألغى الحرف العربي الذي كانت تكتب به اللغة التركية وألغى كثيراً من الكلمات العربية من اللغة التركية، ومنع الحج وغرب الشعب التركي تماماً، وفي هذه المدة الكالحة عاش شيخ الإسلام مصطفى صبري أفندي رحمه الله تعالى.
ولد في توقاد من الأناضول سنة 1286/1869، ونشأ طالباً في كنف المذهب الحنفي الغالب في تركيا، وصار مدرساً في جامع السلطان محمد الفاتح وهو في الثانية والعشرين من عمره وكان أصغر المختارين لتولي هذا المنصب، وهو دال على نبوغ مبكر لاشك، وأجاز خمسين طالباً وهو رقم ضخم، واختاره السلطان عبد الحميد رحمه الله تعالى ليكون أميناً لمكتبة قصره قصر يلدز، وهذا أتاح له أن يطلع على الكتب الثمينة التي كان قانون حفظ التراث يمانع إخراجها خارج القصر.
ثم اختير نائباً عن بلدته توقاد في مجلس المبعوثان العثماني، ومجلس المبعوثان هو مثل مجلس الشعب الذي يمثل فيه نواب مختارون من كل البلاد التي كانت حكم الدولة العثمانية، وكان آنذاك قد رأس تحرير مجلة "بيان الحق" وهي مجلة تصدرها الجمعية العلمية التي كان يرأسها، وعين عضواً في "دار الحكمة" وهي تضم صفوة علماء الدولة العثمانية آنذاك وعينه السلطان في مجلس الأعيان العثماني، وعين مدرساً للحديث الشريف في دار الحديث، وعين عضواً في هيئة تدقيق المؤلفات الشرعية التابعة لدائرة المشيخة الإسلامية سنة 1323 إلى غير ذلك من الوظائف.
لكن الذي لفت النظر إليه هو مقدرته الخطابية التي وظفها في بيان عورات القوميين الطورانيين ونزعاتهم الإلحادية، وعورات الاتحاديين عموماً - نسبة إلى جمعية الاتحاد والترقي الماسونية التي أمسكت بزمام البلاد عملياً بعد خلع السلطان عبد الحميد، رحمه الله تعالى- والكلام في هذه الجمعية والاتحاديين يطول لكن خلاصة أمرهم أنهم أغرقوا البلاد في قومية طورانية تركية مفرطة، وعدّوا المسلمين من غير الأتراك كالعرب والأكراد والألبان في مرتبة تلي مرتبة الأتراك، وأذكوا نار العصبية الهائجة التي عجلت بإسقاط الدولة العثمانية، وإذهاب ريحها، وتفريق قوتها، وخُدِع المسلمون بنيازي وأنور وشوكت ومدحت وغيرهم من زعماء الاتحاديين ومدحهم مثل الشاعر حافظ إبراهيم وأثنى عليهم طائفة ثم تبين للناس سوء صنيعهم لكن بعد فوات الأوان، وكان الشيخ قد أسس حزباً اسمه الائتلاف والحرية، أسسه مع بعض إخوانه، وكان نائباً لرئيس الحزب والناطق الرسمي باسمه ورئيس المعارضة البرلمانية، ولمقدرته الخطابية الفائقة صار أبرز الدعاة للحزب المروجين للسياسات المناهضة للاتحاديين والفاضحة لهم ولصلاتهم المشبوهة باليهود.
وقد استفاد الشيخ مصطفى صبري من موقعه في المبعوثان - البرلمان- ليكشف عورات هؤلاء الاتحاديين القوميين، فدبروا لاغتياله، فهرب إلى مصر سنة 1913 ثم إلى أوروبا ليواصل التحذير من هؤلاء وكشف عوارهم وكانت إقامته ببوخارست برومانيا، ثم قبضت عليه الجيوش التركية أثناء غزوهم رومانيا في الحرب العالمية الأولى وأرسلوه إلى استانبول، وظل معتقلاً إلى أن انتهت الحرب بهزيمة الاتحاديين الأتراك وفرار هؤلاء الاتحاديين، وعينه السلطان وحيد الدين شيخاً للإسلام في الدولة العثمانية، وعضواً في مجلس الشيوخ، وناب عن الصدر الأعظم - رئيس الوزراء- أثناء سفره لباريس للمفاوضات ستة أشهر، وهذا كله يدل على المكانة العلية التي كانت له آنذاك، ومنصب شيخ الإسلام يلي في الأهمية منصب الصدر الأعظم حسب لوائح الدولة العثمانية آنذاك.
ثم جاء الكماليون بعد الاتحاديين، وعاث مصطفى كمال في الأرض فساداً، فاضطر مصطفى صبري أن يترك تركيا بعد إلغاء قرار السلطنة سنة 1341/1922 وذهب إلى اليونان، وهناك حشد الأتراك حوله، وأصدر صحيفة تركية كشف فيها عن الوجه القبيح لمصطفى كمال وسياساته، فطلبت الحكومة التركية من اليونان إبعاده، فاضطر للسفر إلى مصر والاستقرار فيها، وكان ذلك في السنة نفسها 1341/1922، واستضافه الشريف حسين مدة في مكة ثم عاد إلى مصر وبقي فيها إلى أن مات سنة 1373/1954 - رحمه الله تعالى-.
وكان له في القاهرة جهود ضخمة تمثلت في التالي:
أولاً: فضح مخططات الكماليين - نسبة إلى مصطفى كمال- ضد الإسلام والمسلمين في تركيا:
وكان في ذلك مخالفاً لكثير من مثقفي المصريين الذين وقفوا مع مصطفى كمال ورأوا فيه منقذاً لتركيا، لذلك توالت هجمات الصحف على شيخ الإسلام تتهمه بالرجعية والحنين إلى منصبه الذي فقده في تركيا، ومنعت كثيراً من مقالاته، وهنا وضع كتاباً سماه (النكير على منكري النعمة من الدين والخلافة والأمة) طبعه في لبنان التي خرج إليها بعد معارضة كثير من المصريين له، فضح في هذا الكتاب الكماليين وأعمالهم المعادية للإسلام والمسلمين في تركيا، وذكّر بأفعال الاتحاديين وأن أفعالهم وأفعال الكماليين تنطلق من مشكاة واحدة، وذكر أيضاً علاقة الاثنين باليهود، وقد كان وزير مالية الكماليين يهودياً، ووزيرة المعارف خالدة ضياء من أصل يهودي أيضاً، ولما ألغى مصطفى كمال الخلافة بعد قرابة عام من وجود شيخ الإسلام في مصر تبين للمخدوعين من المصريين صدق ما أخبرهم به شيخ الإسلام، ثم سافر من لبنان إلى رومانيا ثم اليونان التي أصدر فيها جريدة باسم "الغد" ثم أخرجه اليونانيون بناء على طلب الأتراك فلجأ إلى مصر ثانية سنة 1929 واستقر فيها إلى أن مات سنة 1373/1954.
ثانياً: كشف عوار الكتابات الخبيثة التي انتشرت في مصر آنذاك:
وكان على رأسها: "الإسلام وأصول الحكم" للشيخ علي عبد الرازق وقد ثبت فيما بعد أن طه حسين شاركه في تأليف الكتاب، وفيه ذكرا أن الإسلام دين لا دولة فتصدى شيخ الإسلام لهذا الكتاب وبين عواره.
ثم واجه شيخ الإسلام منكري المعجزات والكرامات أو مؤوليها إلى حد إخراجها من أن تكون خوارق للعادات، وكان منهم في مصر نفر من ذوي المكانة والوجاهة، وإنما فعلوا ذلك مسايرة للعقل - فيما زعموا- ولتبدو متفقة مع طبائع الأشياء، فرد على الأستاذ محمد عبده ومحمد فريد وجدي ومحمد حسين هيكل وجماعة غيرهم، والحق أن رده كان شديداً صعباً لكنه متفق مع طبيعته الحادة وشخصية القوية، ثم إن الملأ في مصر آنذاك كان قد انجرف فريق منهم مع هذه الدعاوى فكان لابد من ظهور صوت قوي لينذر ويحذر ويعيد الحق إلى نصابه، ولعل كتابه (موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين) هو أهم مؤلف له في هذا الباب الكاشف لهذه الأخطاء، وهو ضخم جاء في أربعة أجزاء وفي بعضه نزعة فلسفية.
ثم أصدر كتاب "قولي في المرأة" في سنة 1354/1934، رد فيه على اقتراح قدم إلى مجلس النواب المصري طلب فيه مقدموه تعديل قانون الأحوال الشخصية والأخذ بمبدأ تقييد تعدد الزوجات وتقييد الطلاق والتساوي في الميراث، إلى آخر المنظومة المكرورة المكروهة.
وله كتاب رد فيه على مسألة ترجمة معاني القرآن الكريم التي أثارها الشيخ محمد مصطفى المراغي شيخ الأزهر وكان الشيخ مصطفى صبري معارضاً لها كل المعارضة، وقد استقر المسلمون اليوم على جواز ترجمة المعاني بلا نكير، لكن لعل رده على الشيخ المراغي كان بسبب - إضافة إلى ما سبق- أن المراغي أجاز الصلاة بالقرآن المترجم إلى التركية وغيرها، وهذا هو الذي أثار الشيخ مصطفى صبري لأن هذا كان صنيع الكماليين في تركيا وكأن المراغي بهذا يبرر صنيعهم ويجوز فعلتهم.
وله عدة كتب غير هذه، وله مئات المقالات بالعربية والتركية.
وقد كانت الحكومة التركية قد وضعت اسمه في قائمة الممنوعين من الرجوع إلى تركيا، وجردته من الجنسية التركية، فعاش في مصر في شدة وشظف عيش وقاسى كثيراً مادياً ومعنوياً حتى أنه اضطر لبيع كتبه ليسافر من استانبول إلى مصر بالباخرة مع أسرته في الدرجة الثالثة لكنه ثبت فلم يضعف ولم يهن ولم يتراجع عما رآه حقاً، وأزعم أن مصر آنذاك كانت بحاجة إلى عالم رباني قوي مثله في مدة تنازعتها الأهواء من كل جانب، وقلّ فيها العلماء الربانيون الذين يقومون بما أخذه الله عليهم من القيام به.
معالم في شخصية شيخ الإسلام:
في شخصية شيخ الإسلام مصطفى صبري معالم مهمة تعد بمثابة أركان البناء، وصبغت بها كتاباته صبغة ظاهرة، فمن هذه المعالم:
أولاً: الاستقلال الفكري:
فلم يكن يتبع جهة ما كائنة ما كانت، ولا يقيم لشخصية ولا لهيئة وزناً إلا بقدر اتباعها للحق وخضوعها له، وهذا في زمانه أمر صعب لا يقوى عليه إلا القليل، والشيخ رشيد رضا يشبهه في هذا الباب - بعد وفاة شيخه محمد عبده- إلا أنه لم يصل إلى مرتبته في هذا الأمر خاصة، ولهذا نقد الشيخ مصطفى كثيراً من الشخصيات القديمة والحديثة، إسلامية وغير إسلامية، ولما قيل له: كيف تنقد هؤلاء الأعلام؟، قال: إن كتابي كتاب مبادئ لا كتاب تراجم.
ثانياً: صلابته في الحق وفي الدعوة إليه:
فقد كان ينبري للدفاع عما يراه حقاً بأسلوب قوي وعبارات شديدة أحياناً وربما وصلت إلى حد الاتهام لبعض الأعلام، وهذا أثار عليه نقمة أشخاص كثيرين ووجه بمضايقات كثيرة لكن هذا كان طبع الرجل لا يستطيع الانفكاك عنه، وأزعم أنه - فيما قرأته له- قد أصاب في كثير من نقده، وجانبه التوفيق في القليل، وذلك لأن زمانه كان حافلاً بالمتفلتين والعقلانيين والمسايرين لركاب الغرب وأفكاره وتصوراته، وكان منهم أعلام وشخصيات كبيرة مصرية خاصة، وكان من ينقد هؤلاء مثل الكبريت الأحمر في قلته، فقام الرجل بما رآه حقاً وواجباً لا يلوي على شي، ولا يداري أحداً.
وقد كان هؤلاء النفر - غفر الله لهم- قد تكلموا بكلمات فيها تجاوز وفيها خطورة، فكان لابد أن يُردَّ عليهم رداً قوياً مفحماً، وكان بعض هؤلاء قد التبست بعض أحوالهم إلى الحد الذي ينبغي أن يتكلم في شأنهم متكلم ما، فكان هذا المتكلم الجريء هو شيخ الإسلام مصطفى صبري، ومن أجل ألا أغرق في التعمية أحيل القارئ إلى المجلدين: الأول والرابع من كتاب (موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وعباده المرسلين) ففيهما تفصيل وتصريح وتوضيح، ولولا أن حال بعض هؤلاء الذي رد عليهم الشيخ لازال ملتبساً عليّ وليس عندي كلمة فصل فيهم لذكرت أسماءهم اللامعة وبعض أحوالهم الشاطحة، ولا ننسى أيضاً أن مصر في أوائل القرن الماضي حتى الثلث الأول منه بل إلى قريب من منتصفه كانت معتركاً كبيراً بين المتغربين والمستشرقين والمشبوهين وبين المخلصين، وكان في بعض هؤلاء المخلصين -على قلتهم- قدر غير قليل من الضبابية في فهم هذا الدين وتفنيد بعض الشبهات حوله، وكان في بعض أحوالهم ما يدعو إلى العجب والتساؤل، ولذلك كان ما كان من موقف شيخ الإسلام، وأزعم أن الله أنجد مصر بعد ذلك برجال مفكرين عظماء صححوا مسيرة الفكر الإسلامي عموماً بعيداً عن التهاون والشطح والتنازل، وطووا بذلك صفحة أولئك الذين كان لهم جهد مشكور في الدفاع عن الإسلام لكن امتزجت جهودهم تلك بشوائب من الأحوال والأقوال كان لابد من تنقيتها وتهذيبها فأتى الله بكوكبة من المشايخ من مصر نفسها عدلت المسار، وضبطت الأفكار، وكتبت كتابات رائعة أزعم أن شيخ الإسلام لو اطلع عليها لقرّت بها عينه، والمقام لا يتسع للتفصيل، وفيما ذكرت كفاية، ولعلي أعود إلى ذلك في مقام آخر متوسعاً مفصلاً إن شاء الله تعالى.
ثالثاً: تضلعه من علم الكلام:
وهذا ظهر بوضوح في مؤلفه: (موقف العقل والعلم العالم من رب العالمين)، وقد كان في زمن انتشر فيه الإلحاد، وعمّ وطمّ، وكان الرجل متحمساً لإثبات وجود الله تعالى بأدلة عقلية كلامية، وبنـزعة فلسفية أحياناً.
رابعاً: شجاعته الكبيرة التي واجه بها الاتحاديين ثم الكماليين ثم المتغربين:
في مصر -خاصة- وفي غيرها، ولم يأبه بما قد يتعرض له من أذى أو اغتيال، ونبرته الشجاعة واضحة كل الوضوح في كتاباته.
خامساً: حماسته الواضحة، وهمته العالية:
وقد ثبت على هذه الحماسة والهمة دهراً طويلاً حتى توفاه الله تعالى فلم ينتكس أو يضعف أو يلن رحمه الله.
سادساً: وعيه الكبير بمخططات الأعداء، وشبهات المستشرقين والمستغربين
وهذا الوعي في زمانه يعد متقدماً جداً بالنسبة إلى أكثر علماء عصره آنذاك، وقد ظهر هذا الوعي جلياً واضحاً في كل كتاباته، وأذكر منها قوله في دعوة العلماء للاشتغال بالسياسة: "فالعلماء المعتزلون عن السياسة كأنهم تواطأوا على أن يكون الأمر بأيديهم - أيدي السياسيين- ويكون لهم منهم رواتب الإنعام والاحترام".
شيخ الإسلام مصطفى صبري في عيون معاصريه:
قال عنه الأستاذ محب الدين الخطيب: "فحل الفحول الصائل الذي يعد فضله أكبر من فضل معاصريه".
وقال عنه الأستاذ الكوثري: "قرة أعين المجاهدين".
وقال عنه الأستاذ عبد الفتاح أبو غدة: "إن كتابه موقف العقل هو كتاب القرن بلا منازع".
وقد قيل عنه غير ذلك، ويكفي في هذا المقام أن أورد كلام الأستاذ محمد رجب البيومي الذي ناله تقريع كبير من الشيخ لأمر صدر عنه، حيث قال الأستاذ محمد حفظه الله: "إني ما ذكرت الشيخ الكبير إلا توافد على ذهني مع هذا الوصف العربي القديم لصاحب الصيحة المجلجلة في المأزق الضائق وهو النذير العريان؛ إذ كان من عادة الأسلاف حين تلوح بوادر الخطر ويتنبه لها ذو بصر سديد أن يخلع ثيابه ويقف صائحاً فوق مرتفع من الأرض ويقول مشيراً إلى ثوبه المخلوع وقد جعل يحركه عن يمين وشمال: لقد حانت الكارثة: أنا النذير العريان، فيعلم السامعون أن الأمر جد، ويسرعون للتأهب العاجل دون انتظار".
رحم الله شيخ الإسلام مصطفى صبري التوقادي وعوض المسلمين عنه خيراً فنحن بأمس الحاجة لأمثاله في هذا العصر الذي أصبح كثير من المشايخ فيه موظفين لا قيمة لهم ولا وزن، ولا هيبة ولا كلمة، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
عن موقع طريق الإسلام
**آراء مصطفى صبري***
وآراء مصطفى صبري موزعة في مجموعة من الكتب التي أصدرها حيث بدأ بنشر مجموعة من الكتب الصغيرة ثم جمع فلسفته وخلاصة آرائه في كتاب ضخم كبير ختم به حياته المباركة.
1- كان أول ما أصدره مصطفى صبري بالعربية (قيدته بالعربية إذ سبقه بالتركية):
(1) كتاب "يني مجددلر"(مجدوا الدين) وقد طبع في الأستانة، وصادرته الحكومة الكمالية ومنه نسخة في دار الكتب المصرية أهداها إليها الشيخ محمد زاهد الكوثري. وموضوعه الدفاع عن كثير من الأحكام الشرعية التي لا يزال يطعن فيها كفار المسلمين في حادث الأزمنة، وينتقدون بعقولهم الضئيلة تقاليد الإسلام القويمة. هذا وقد أعيد طبعه في استانبول في مطبعة السبيل بالأحرف اللاتينية، وحبذا لو ترجم إلى العربية ليستفيد منه المسلمون عمومًا.
(2) "قيمة الاجتهادات العلمية للمجتهدين المحدثين في الإسلام"، ومنه نسخة في دار الكتب المصرية مهداة من قبل الشيخ زاهد الكوثري وكيل الدرس سابقًا في المشيخة الإسلامية.
(3) وكتاب "النكير على منكري النعمة من الدين والخلافة والأمة" الذي ظهر في المطبعة العباسية ببيروت سنة 1342هـ-1924.
2- ثم ألف كتاب "مسألة ترجمة القرآن" في مئة وثلاثين صفحة سنة1351هـ-1931م، وقد ناقش فيه حجج كل من الشيخ محمد مصطفى المراغي ومحمد فريد وجدي في جواز ترجمة القرآن والتعبد بها في الصلاة، وبيَّن فساد ذلك من الناحية الشرعية بأدلة كثير قوية، منبهًا على ما يترتب على المسألة من أخطار.
3- ثم ألف مصطفى صبري بعد ذلك كتاب "موقف البشر تحت سلطان القدر" سنة 1352-1932، وهو يرد فيه على ما زعمه بعض الزاعمين من أن تأخر المسلمين وتواكلهم يرجع إلى إيمانهم بعقيدة القضاء والقدر، وهو يلخّص مذهبه في قوله تعالى:
{ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93)}(النحل) .
فالإنسان يفعل ما يشاء ولكنه لا يشاء إلا ما شاء الله، ويقع الكتاب في 280 صفحة.
4- ثم أصدر كتاب "قولي في المرأة" في سنة 1354-1934، وهو رد على اقتراح اللجنة التي تقدمت إلى مجلس النواب المصري، طالبة تعديل قانون الأحوال الشخصية، والأخذ بمبدأ تحرير المرأة، وتقييد تعدد الزوجات، وتقييد الطلاق، ومساواة المرأة بالرجل في الميراث، ومن الواضح أن هذه المشروعات تقوم على الاقتداء بالغرب، وإحلال ذلك محل الاقتداء بالشريعة الإسلامية، اقتناعًا بأنه أكثر ملائمة للحياة، مما كان يسمى ولا يزال: مسايرة الحضارة، والتمشي مع روح العصر.
5- ثم أصدر كتاب "القول الفصل بين الذين يؤمنون بالغيب والذين لا يؤمنون" في سنة 1361هـ-1942م، وقد ردَّ فيه على الماديين، الذين يشككون في وجود الله سبحانه وتعالى، وعلى الذين ينكرون الغيب والنبوة والمعجزات، ومن سرت فيهم عدوى التغريب من علماء المسلمين، فذهبوا إلى تأويل المعجزات بما يساير روح العصر، الذي أصبح إيمان أكثر الناس فيه بالعلم المادي فوق إيمانهم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فتناول فيه بالنقد كثيرًا من مقالات العصريين، وكثيرًا من الكتب الذي ذهب أصحابها في الدفاع عن الإسلام مذهب الأوروبيين مجاراة لروح العلم فيما يظنون. وقد كان مصطفى صبري يرى أن من أخطر ما ابتلي به المدافعون عن الإسلام من الكتَّاب الذين تثقفوا بالثقافات الحديثة أن المستشرقين قد نجحوا في استدارجهم إلى اعتبار النبي صلى الله عليه وسلم عبقريًّا أو زعيمًا لا أكثر، وكذلك لاعتبار دين الإسلام مذهبًا فكريًّا أو سياسيًّا أو فلسفيًّا كغيره من الآراء والفلسفات ونفي صفة الديانة عنه، وإنكار النبوة والوحي ضمنًا. والكتاب يقع في 215 صفحة.
6- وآخر ما ظهر للمؤلف هو كتابه الكبير "موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وعباده المرسلين"، الذي طبعه سنة 1369هـ-1950م، وهو يقع في أربعة مجلدات كبيرة يقع كل واحد منها في نحو خمسمائة صفحة، وهذا الكتاب هو خلاصة آراء المؤلف الفقهية والفلسفية والاجتماعية والسياسية.
وقد كان مصطفى صبري مدفوعًا في كل ما كتبه بما استيقنته نفسه من أن الغرب يجدُّ في محو الإسلام، وأن نجاح مكيدته في تركية نذير بانتشارها في بقية أقطار العالم الإسلامي، فهو يجاهد بكل ما وسعه من قوة لمنع المسلمين من الانحدار إلى المصير نفسه الذي صار إليه الترك على يد الكماليين، بعد أن لمس نكبتهم بيده، وجربها بنفسه، ومارسها في كفاحه السياسي الطويل، الذي تنقل فيه بين المهاجر، حتى استقر به النوى في مصر، فاتخذها مركزًا لنشاطه بعد أن خلَفت تركية في مكانها في العالم الإسلامي.
**منهجه في الرد على الشبه***
أما منهجه في الرد على شبهات الملحدين ودعاوى الماديين المنحرفين عن الدين فيستند إلى أمرين:
الأول: أنه قد رأى في وضوح وتثبت، أن أهم ما يتعرض له الفكر الإسلامي الحديث من أخطار هو الغزو الثقافي الذي يهدد الشخصية الإسلامية بالاضمحلال، نتيجة لما وقر في نفوس المسلمين من إحلال للثقافة الغربية وإسراف في الاعتماد عليها والنقل عنها، وقد دعاه ذلك أن يتعقب الفكر الإسلامي الحديث بالنقد، واستمد مادته مما تُخرج المطابع من كتب ومن صحف، وبذلك صار لكتبه إلى جانب قيمتها الفكرية الإسلامية قيمة تاريخية، إذ أصبحت سجلاً صادقًا للحياة الفكرية المعاصرة، وزاد في قيمتها من هذه الناحية أن المؤلف قد جرى في كل ما كتبه على نقل النصوص التي ينقدها كاملة قبل أن يتولى الرد عليها.
وأما الثاني: فهو أنه يعتمد في مناقشاته ومناظراته على أحكام العقل كما يقره علم المنطق، وهو وإن كان علمًا يونانيًّا فقد أصَّله العرب وزادوا فيه، وفي رأيه أن المنطق أصدق أحكامًا من العلوم التجريبية وأوثق؛ لأنه حتمي، يفيد اللزوم والوجوب، وثابت لا يتغير، أما العلوم التجريبية فهي لا تفيد أكثر من الوجود الراهن الماثل، لذلك فهي كثيرة التحول والتغير لا تكاد تستقر.
وفي الختام أحب أن أنوه أن للشيخ مصطفى صبري رحمه الله تعالى مئات المقالات بالتركية والعربية نشرها على صفحات الجرائد ولم تجمع بعد.
وقد توفي الشيخ رحمه الله بمصر سنة 1373 هـ - 1954 م، ودفن فيها.
ــــــــــــ
الشيخ مصطفى صبري
شيخ الإسلام في الدولة العثمانية
بقلم: عبد الله الطنطاوي
حياته:
ولد مصطفى صبري في قرية (توقاد) بالأناضول في 12/3/1286 هـ في أسرة محافظة على دينها، محبة للعلم الشرعي، يرنو سيِّدها إلى ولده مصطفى، فيطالع فيه علامات النجابة، والذكاء، فيتطلع إلى أن يكون هذا الفتى عالماً كبيراً من علماء الإسلام.
تلقّى الطفل علومه الأولية في قريته الصغيرة، وحفظ القرآن الكريم في العاشرة من عمره، ولفت ذكاؤه انتباه شيوخه الذين قالوا لأبيه أحمد أفندي: “إن ابنك هذا ذو عقل نيّر، وصاحب موهبة فذّة، فلابدّ من أن ترسله إلى (قيصرية). ولبّى الوالد نداء معلمي ولده، وأرسله إلى مدينة (قيصرية) لمتابعة تعليمه، وهي مدينة مشهورة بعلمائها الكثر، وهناك العلوم العربية، والعلوم الشرعية، كما تعلّم المنطق، وأصول المناظرة، والوعظ.
ثم انتقل إلى الآستانة لاستكمال تعليمه في جامع السلطان محمد الفاتح، وتلقّى العلوم الشرعية والعربية على أيدي الشيخين العالمين: محمد عاطف بك الإستانبولي، وأحمد عاصم أفندي، وأعجب الشيخان بهذا الشاب، بذكائه الحاد، وبجدّه ونشاطه، وبجرأته الأدبية في طرح أفكاره، وبلغ الأمر بالشيخ أحمد عاصم أفندي أن يزوجه ابنته (ألفية هانم) لما وجد فيه من مزايا لم يجدها مجتمعة في غيره من تلاميذه الكثر، وذلك بعد نجاحه في امتحان التخرج، وحصوله على إجازة التدريس في جامع محمد الفاتح، عام 1307هـ.
وظائفه:
- تمَّ تعيين الشيخ مصطفى صبري مدرّساً في جامع الفاتح، بعيد تخرجه وحصوله على الإجازة في التدريس وهو في الثانية والعشرين من العمر، وكان جامع الفاتح أكبر جامعة إسلامية في الآستانة آنذاك، ومنصب التدريس فيه منصب مرموق يتطلع إليه العلماء من سائر أنحاء البلاد، وقد فاز في الامتحان، وكان الأول على ثلاثين عالماً من أصل ثلاث مئة عالم تقدّموا لهذه الوظيفة، وكان أصغر الفائزين سناً.
كان الشيخ مصطفى من أنجح الأساتذة الشيوخ في التدريس، فقد بهر تلاميذه بسعة اطلاعه، وتبحره في شتى العلوم، وبطريقته البارعة في التدريس، فذاع صيته، وأقبل عليه الطلاب والعلماء، يحاورونه، ويسألونه، ويستفيدون من علمه وفهمه، واستكتبته الصحف والمجلات، وبرز للناس كاتباً بليغاً، ومفكراً عميقاً، ومحاوراً لامعاً، ومجادلاً لا يغلب، وقد منح الإجازة العلمية لأكثر من خمسين طالباً.
صار إمام الدرس السلطاني الخاص، وهو الدرس الذي كان يحضره السلطان العثماني شخصياً في أحد جوامع إستانبول السلطانية، ويحضر معه كبار الأعوان والعلماء، ويلقي الدرس أعلم العلماء، وقد عيّنه السلطان عبد الحميد في هذا المنصب لشدّة إعجابه بعلمه، سنة 1316هـ.
في عام 1317هـ عُيّن في قصر يلدز (قصر السلطان عبد الحميد) بوظيفة مدير القلم السلطاني الخاص، ونال في هذه المرحلة عدداً من الأوسمة والميداليات.
بعد ذلك بمدة قصيرة عُيّن أميناً لمكتبة يلدز، وقد وجد الشيخ مصطفى صبري ضالته في هذه المكتبة التي طالما بحث عنها، فقد كانت غنية بالمخطوطات وكتب التراث الإسلامي، فأكبَّ عليها، وأفاد منها علماً غزيراً جعله في عيون معاصريه، بحراً لا ساحل له.
في عام 1322هـ استقال من وظائفه، وفضّل عليها العودة إلى التدريس، وصار مدرّساً لمادة التفسير في مدرسة الوعاظ، وفي معهد العلوم الشرعية في دار الفنون، ثم انتقل بعدها إلى مدرسة المتخصصين، ليدرّس فيها صحيح الإمام مسلم.
في عام 1323هـ عُيّن عضواً في هيئة تدقيق المؤلفات الشرعية التابعة لدائرة المشيخة الإسلامية.
عُيّن شيخاً للإسلام ومفتياً للدولة العثمانية مرتين.
عُيّن عضواً في دار الحكمة الإسلامية.
عُيّن مدرساً لمادة الحديث الشريف في دار الحديث.
عيّنه السلطان عضواً في مجلس الأعيان العثماني.
مصطفى صبري سياسياً:
خاض الشيخ غمار المعترك السياسي في ظروف دقيقة وخطيرة كانت تمرّ فيها الدولة العثمانية، ورأى الشيخ ضرورة اقتحام هذا الميدان الحيوي الذي تباعد عنه العلماء، واقتحمه اللادينيون، كجمعية الاتحاد والترقي الماسونية التي استولت على مقاليد الأمور، وما تلا ذلك من خلع السلطان عبد الحميد الثاني، ومن هزيمة الدولة في البلقان، وفي طرابلس الغرب..
بدأ مصطفى صبري عمله السياسي بعد الإعلان عن إعادة العمل بالشروطية الثانية (الدستور) سنة 1326هـ، وخاض الانتخابات النيابية، ونجح في مجلس المبعوثان (البرلمان) عن دائرة سنجق توقاد، سنة 1326هـ وشارك في أنشطة ذلك المجلس، بل كان من أنشط النواب فيه؛ في حضور الاجتماعات، والمشاركة في الندوات ودورات المجلس، ومناقشاته الصاخبة. واحتلّ مكاناً بارزاً في حزب الائتلاف والحرية الذي أسسه مع بعض إخوانه، وصار نائب رئيس الحزب، والناطق الرسمي باسمه، ورئيس المعارضة البرلمانية.
ونظراً لقدرته الفائقة في الخطابة، صار أبرز الدعاة للحزب، المروجين لأفكاره ومبادئه، وسياساته المضادة لسياسة الاتحاديين، وبذلك كسب كثيراً من الجماهير، وصار حزبه يشكل خطراً حقيقياً على حزب الاتحاديين.
كما انتخب رئيساً بالإجماع، للجمعية العلمية الإسلامية التي أصدرت مجلة (بيان الحق) وأسندت رئاسة تحريرها للشيخ مصطفى سنوات طويلة.
كانت هذه المجلة من أهم المنابر السياسية المعارضة لسياسات جمعية الاتحاد والترقي، ولأفكارها، وكان الشيخ مصطفى يصول فيها ويجول، وهو يهاجم الاتحاديين، ويفضح سوءاتهم ومخازيهم وصلاتهم المشبوهة باليهود.
ودعا هذا الحزب إلى اللامركزية في الولايات العثمانية، فلقي ترحيباً من العرب، بسبب كرههم للاتحاديين الداعين إلى سياسة التتريك، واضطهاد الأجناس غير التركية، من عرب، وشركس، وأكراد، وأروام، وأرمن، وسواهم. فما كان من الاتحاديين إلا أن يعتقلوا ويلاحقوا أعضاءه، ففرّ بعض أعضائه المؤسسين والفاعلين إلى خارج البلاد العثمانية عام 1913.
وكان من جملة الهاربين الشيخ مصطفى صبري الذي غاب عن الساحة السياسية إلى نهاية الحرب الكونية الأولى، وهزيمة الدولة، وسقوط الاتحاديين، ذهب خلالها إلى مصر، وأقام فيها مدة من الزمن، ثم ارتحل إلى أوربا، وتنقّل في عدد من دولها، وعندما دخلت الجيوش العثمانية مدينة بوخارست، أثناء الحرب العالمية الأولى، وكان يقيم فيها، قبضوا عليه، وأعادوه إلى الآستانة.
وظلَّ معتقلاً حتى انتهت الحرب بهزيمة الاتحاديين، وفرار زعمائهم، فخرج من المعتقل، وعاد إلى نشاطه السياسي، وعُيّن عضواً في دار الحكمة (الإسلامية) وهي أكبر مجمع علمي إسلامي في الدولة العثمانية، وتضم كبار العلماء والمفكرين.
عندما أعيد تشكيل حزب الائتلاف والحرية من جديد، وبعد توليه السلطة في البلاد، عام 1337هـ عيّن مصطفى أفندي صبري رئيساً لمجلس المبعوثان (النواب) ثم تولّى منصب شيخ الإسلام، ومفتي الدولة العثمانية، تولّى هذا المنصب مرتين، في أواخر سنوات الدولة العثمانية، في وقت عصيب جداً. وفي أثناء هذه المشيخة، تولّى الشيخ مصطفى صبري منصب الصدر الأعظم (رئيس الوزراء) بالوكالة، طوال مدّة سفر الصدر الأعظم (داماد فريد باشا) إلى فرنسا، لحضور مفاوضات مؤتمر الصلح في فرساي، قرب باريس.
وبعد عودة الصدر الأعظم من باريس، واستقالته، أعفي الشيخ مصطفى من منصبه شيخاً للإسلام، ومفتياً للدولة العثمانية، وعيّنه السلطان محمد وحيد الدين عضواً في مجلس الأعيان العثماني، واستمر في هذا المجلس حتى إلغاء السلطنة العثمانية.
مغادرته وطنه:
تفاقمت الأمور في الدولة العثمانية، وتلاحقت الأحداث العنيفة المنبئة بقرب زوال الدولة، فقرر الشيخ الرحيل عن الوطن مع أسرته عام 1923 قبل استيلاء الكماليين عليها، وذهب إلى مصر، ثم غادرها إلى الحجاز ليكون في ضيافة الملك حسين، ولكنه لم يلبث أن رجع إلى مصر، حيث احتدم النقاش بينه وبين المتعصبين لمصطفى كمال، فغادرها إلى لبنان، وطبع فيه كتابه (النكير على منكري النعمة)
ثم سافر إلى رومانيا، ثم اليونان، وأصدر فيها مجلته (يارين) ومعناها (الغد) مدة خمس سنوات، ثم غادر اليونان إلى مصر، بعد أن طالب الكماليون اليونان بتسليمه، واستقرّ فيها، وكانت الصحافة المصرية قد تحدّثت زمناً طويلاًُ عن التطور الذي طرأ على الخلافة بتجريدها من السلطة،
احتدمت المعركة حين قدم إليها، وأراد أن ينبه المصريين إلى ما يضمره الكماليون للإسلام وشريعته وأهله، وما ينطوون عليه من خبث النية وفساد الدين، وأن الخلافة التي ابتدعوها مجردة عن السلطة ليست من الإسلام في شيء، وأن فصل الدين عن الدولة ليس إلا وسيلة للتخلص من سلطانه، والتحرر من شريعته وقيوده، وتجاوز حدوده،
وظن الناس وقتذاك، أن الشيخ مدفوع في مهاجمته للكماليين ببغضه لهم، بعد أن ألجؤوه وألجؤوا الخليفة إلى الفرار، فهاجموه هجوماً عنيفاً، تجاوز في كثير من الأحيان حدود اللياقة والأدب.
ونشر مصطفى صبري مقالاً يدافع فيه عن نفسه، بعد أن نشرت الصحف نبأ وصوله، وسوء استقبال الناس له، في عبارات مملوءة بالغمز واللمز.
وكانت الصحف، على اختلاف ألوانها ونزعاتها، وقتذاك، تكيل للكماليين الثناء بلا حدود، ولذلك، بدأ الشيخ مقاله، مظهراً العجب من أمر الناس الذين أصبح قائل الحق بينهم لا يقوله إلا همساً، بينما يجهر الفجرة بمعصيتهم، وينادون بالفاسد المستحيل، فيجدون آذاناً صاغية، واستمرّ في صراعه مع الصحافة إلى أن توفي في القاهرة في 7/7/1373هـ ودُفن فيها، وكان آخر شيوخ الإسلام وفاة.
مصطفى صبري مفكراً
أيقن الشيخ مصطفى صبري أن أخطر ما تتعرض له الأمة من أخطار، وهي كثيرة جداً، خطر الغزو الثقافي الذي تبدّى في الهزيمة النفسية للمثقفين المسلمين عامة، والعرب خاصة، أمام الثقافة الغربية التي ملكت عليهم أقطار عقولهم، وأحلّوها من قلوبهم ونفوسهم محلاً ما كان ينبغي لهم أن يحلوها فيه.
ظهر له هذا في المقالات التي تُنشَر في الصحف المصرية، وما تطرحه المطابع من دوريات وكتب، فتصدّى لها بالنقد، وألّف العديد من الكتب التي تردّ عليها “وبذلك، صار لكتبه –إلى جانب قيمتها الفكرية الإسلامية- قيمة تاريخية، إذ أصبحت سجلاً صادقاً للحياة الفكرية المعاصرة، وزاد في قيمتها من هذه الناحية، أن المؤلف قد جرى في كل كتبه، على نقل النصوص التي يعارضها كاملة، قبل أن يتولّى الردّ عليها.”
كانت المهمة الأولى للشيخ، مقاومة الدعوة إلى الإلحاد، ودعوة المسلمين إلى التمسّك بدينهم، وشريعتهم، والإيمان بالكتاب كله، دون تفريق بين دقيق وجليل، ورفض كل دعوة إلى التأويل وإلى تطوير الإسلام، تحت ستار ملاءمة ظروف الحال، ومسايرة ركب الحضارة، والتطور مع الزمن. ظهر هذا في مؤلفاته:
ففي كتابه النكير على منكري النعمة من الدين والخلافة والأمة، بحث مسألة الخلافة من الناحية السياسية، وهاجم الكماليين، ونفّر العالم الإسلامي عامة ومصر خاصة، منهم، وحذّر من شرورهم، ونبّه المسلمين إلى سوء نياتهم في التفريق بين الخلافة والسلطنة، وبيّن دوافع هذا التفريق، وأوضح الآثار المترتبة عليه.
وتحدّث عن فساد دين الكماليين، وعن تعصّبهم للجنس التركي، ومحاربتهم للعصبية الإسلامية، واستخفافهم بالقرآن، وبتعاليم الإسلام، وأنها غير صالحة للقرن العشرين، وقدّم نماذج من كتابات كتّابهم الداعين إلى التخلص من سلطان الدين، وإبعاده عن سياسة الدولة، اقتداء بالأوربيين،
وذكر كلمة لأحد غلاة الكماليين من الترك في أحد كتبه “إنا عزمنا على أن نأخذ كل ما عند الغربيين، حتى الالتهابات التي في رئاتهم، والنجاسات التي في أمعائهم”. وقدّم المؤلف أمثلة بالقوانين التي خالفوا فيها الشرع، وأن الكماليين خرجوا من عباءة الاتحاديين الملاحدة، لا فرق بينهم، فهم مثلهم في صلتهم باليهود، وتواطئهم مع الإنكليز، وردّ على الذين نصحوه بعدم مهاجمة مصطفى كمال أتاتورك، لتعلق المسلمين به.
وقال لهؤلاء:
ليست من وظيفة العلماء محاباة العامة، ومجاراة الدهماء، بل وظيفتهم إطلاع الناس على حقائق الأمور، ولابدّ من بيان عصبية الكماليين لقوميتهم التركية، وتعصبهم لطورانيتهم إلى حدّ العداوة للإسلام، ومهاجمته، باعتباره ديناً عربياً، وإحيائهم لعقائد الترك الوثنية في جاهليتهم الأولى، وإحلالهم المشاعر القومية محل المشاعر الإسلامية.
وقال: إن الكماليين والاتحاديين حزب واحد، ولعنة الله على الاتحاديين الذين أدخلوا السياسة في الجيش، فسنّوا بهذا سنّة سيئة صارت آفة على الدولة، وصار الجيش آفة على الدولة، وقادوا الإمبراطورية إلى حربين ضيّعوا فيهما الخلافة والدولة والأمة، وقال: “ولن تجد ملة أو قوماً خارج بلادنا وداخلها دامت مودّة الاتحاديين والكماليين معهم إلا اليهود” ولهذا لم يسلم جنس من عدوانهم في تركيا، لا الألبان، ولا العرب، ولا الأكراد، ولا الأرمن، ولا الشراكسة، ولا الأروام.. ما سلم من عدوانهم إلا اليهود.
وفي كتابه: مسألة ترجمة القرآن، ناقش شيخ الأزهر الشيخ محمد مصطفى المراغي في مقاله (بحث في ترجمة القرآن وأحكامها) الذي كان فيه صدى لما فعله الكماليون في تركيا، الذين أمروا بترجمة القرآن إلى اللغة التركية، وحملوا المسلمين على الصلاة بها، بدلاً من لغة القرآن الكريم.. ردّ على المراغي الذي جوّز الصلاة بالقرآن المترجم إلى التركية، كما ردّ على محمد فريد وجدي الذي أيّد صنيع الكماليين.. وقد نقل الشيخ صبري نقولاً كثيرة من مقال المراغي، ومقالي وجدي في معرض الردّ عليهما، ناقشهما، وبيّن فساد آرائهما من الناحية الشرعية بأدلة كثيرة قوية، ونبّه إلى ما سوف ينجم عنها من أخطار، كما ردّ على ما أباحه المراغي من جواز الاجتهاد في الفقه استناداً إلى الترجمة.
وفي كتابه: موقف البشر تحت سلطان القدر: ردّ على من زعم أن تأخر المسلمين وتواكلهم وانحطاطهم وتخلفهم إنما يرجع إلى إيمانهم لعقيدة القضاء والقدر، وفنّد آراءهم ومزاعمهم بحجج قوية.
وفي كتابه: قولي في المرأة، ومقارنته بأقوال مقلِّدة الغرب، سدّد طعناته عبر ردود قوية ومفحمة لأصحاب الدعوات المشبوهة التي جرّت الناس إلى مستنقعات التهتك في التبرج، والابتذال على الشواطئ، والاختلاط الداعر.. وهو ردّ على اقتراح اللجنة التي تقدمت إلى مجلس النواب المصري، طالبة تعديل قانون الأحوال الشخصية، والأخذ بمبدأ تحرير المرأة، وتقييد تعدد الزوجات، وتقييد الطلاق، ومساواة المرأة بالرجل في الميراث، وما إلى ذلك من أمور أخذتها اللجنة والدعاة إلى التغريب، من أوربا.
وفي كتابه: القول الفصل بين الذين يؤمنون بالغيب والذين لا يؤمنون. ردّ على الماديين الملاحدة الذين يشككون بوجود الله تعالى، وعلى الذين ينكرون الغيب، والنبوة والمعجزات، وعلى العلماء الذين يؤولون المعجزات تأويلات تساير روح العصر المادي، حتى صار إيمانهم بالعلم المادي فوق إيمانهم بكتاب الله، وسنّة رسوله.
ومن رأي الشيخ، أن أخطر ما ابتُلي به المدافعون عن الإسلام من الكتّاب الذين تثقفوا بالثقافات الحديثة، أن المستشرقين قد نجحوا في استدراجهم إلى أن يُنْزلوا النبي الكريم منزلة العباقرة والزعماء، حتى إنهم حين يدافعون عما يوجَّه إليه من افتراءات، يدافعون عنه من هذه الزاوية، وعلى هذا الأساس، ويفعلون ذلك باسم العلم.. والواقع أن ذلك نزول بالإسلام إلى أن يصبح مذهباً فكرياً أو سياسياً أو فلسفياً ككل الآراء، ونفيٌ للصفة الأساسية في كل رسالة سماوية، وهي أنها وحي من عند الله سبحانه وتعالى.
وأما كتابه البديع: موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين، وعباده المرسلين. وهو آخر ما ظهر للمؤلف من كتب في حياته، وطبعه عام 1950 في أربعة مجلدات كبيرة، فقد احتوى خلاصة آراء الشيخ في السياسة، والاجتماع، والفلسفة، والفقه، كما احتوى معاركه الفكرية مع عدد من أعلام عصره، كالمراغي، ووجدي، العقاد، وهيكل وسواهم.
ذكر المؤلف أنه ألّف هذا الكتاب، بعد ما رآه في تركيا من انصراف المتعلمين عن الدين، وما يراه في مصر من مثل ذاك الانصراف.
قال في مقدمته، مخاطباً روح أبيه: “لو رأيتني وأنا أكافح سياسة الظلم والهدم والفسوق والمروق في مجلس النواب، وفي الصحف والمجلات، قبل عهد المشيخة والنيابة وبعدهما، وأدافع عن دين الأمة وأخلاقها وآدابها وسائر مشخصاتها، وأقضي ثلث قرن في حياة الكفاح، معانياً في خلاله ألوان الشدائد والمصائب، ومغادراً المال والوطن مرتين في سبيل عدم مغادرة المبادئ، مع اعتقال فيما وقع بين الهجرتين، غير محسّ يوماً بالندامة على ما ضحيت به في هذه السبيل من حظوظ الدنيا ومرافقها- لأوليتني إعجابك ورضاك”.
وكان الشيخ فيه عنيفاً على من رأى فيهم خصوماً في الفكر والتوجّه، ولولا تلك الحدّة والشدّة، لكان كتاباً فريداً في بابه، ولكنه كان سيفقد أهم ما تميّز به قلم الشيخ الذي لقي الألاقي في عمره المديد.
فقد تصدّى للمستغربين، وردّ على ما يثيرونه من شبهات حول الإسلام والداعين إليه، من مثل قولهم: “كيف يمكن أن تكون الحكومة حرة ومستقلة إذا قيّدت نفسها بالدين؟”.
وردّ على زعم المستغربين: أن العلماء المعممين ليسوا من ذوي الاختصاص، ولا يُعتدّ بهم وبعلمهم الشرعي، ودعا العلماء إلى الاشتغال بالسياسة. وقال:
“فالعلماء المعتزلون عن السياسة، كأنهم تواطؤوا مع كل الساسة، صالحيهم وظالميهم، على أن يكون الأمر بأيديهم (بأيدي السياسيين) ويكون لهم (للعلماء) منهم رواتب الإنعام والاحترام، كالخليفة المتنازل عن السلطة وعن كل نفوذ سياسي”.
مصادر ومراجع:
1 – قولي في المرأة: مصطفى صبري.
2 – موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين، وعباده المرسلين: مصطفى صبري.
3 – النكير على منكري النعمة من الدين والخلافة والأمة: مصطفى صبري.
4 – النهضة الإسلامية في سير أعلامها المعاصرين: د. محمد رجب البيومي.
5 – الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر: د. محمد محمد حسين.
6 – تاريخ مؤسسة شيوخ الإسلام في العهد العثماني: أحمد صدقي شقيرات.
7 – الأعلام: خير الدين الزركلي.
8 – أعلام القرن الرابع عشر – الجزء الأول: أنور الجندي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق