الأحد، 13 أكتوبر 2024

الحالة العامّة للأسرة والمرأة في الجاهليّة قبيل ولادة النبيّ صلى الله عليه وسلم

 

الحالة العامّة للأسرة والمرأة في الجاهليّة قبيل ولادة النبيّ صلى الله عليه وسلم

محمد خير موسى
مختص بقضايا الفكر الإسلامي ومشكلات الشباب


عند الإطلالة على حالة عموم النساء في المجتمع الجاهليّ، وما اكتنف الأسرة آنذاك، فيمكننا وصف وتقييم الحالة بعبارة واحدة، وهي: انتكاس الفطرة، وتشوّه معنى الرجولة، وغيبوبة الأخلاق.

كان الزواج يتمّ على أنواع عدة، كلّها إلا واحدًا يظهر مدى الانحدار القيمي والظلام الأخلاقي، الذي كان يغرق فيه المجتمع آنذاك، ولقد أخرج البخاري عن أمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها: “أنّ النّكاح في الجاهليّة كان على أربعة أنحاءٍ: فنكاحٌ منها نكاح النّاس اليوم: يخطب الرجل إلى الرجل وليّته أو ابنته، فيصدقها ثم ينكحها، ونكاحٌ آخر: كان الرجل يقول لامرأته إذا طهرت من طمثها: أرسلي إلى فلانٍ فاستبضعي منه، ويعتزلها زوجها ولا يمسّها أبدًا، حتّى يتبيّن حملها من ذلك الرّجل الذي تستبضع منه، فإذا تبيّن حملها أصابها زوجها إذا أحبّ، وإنّما يفعل ذلك رغبةً في نجابة الولد، فكان هذا النّكاح نكاح الاستبضاع. ونكاحٌ آخر: يجتمع الرهط ما دون العشرة، فيدخلون على المرأة، كلّهم يصيبها. فإذا حملت ووضعت، ومرّ عليها ليالٍ بعد أن تضع حملها، أرسلت إليهم، فلم يستطع رجلٌ منهم أن يمتنع، حتّى يجتمعوا عندها، تقول لهم: قد عرفتم الذي كان من أمركم، وقد ولدت، فهو ابنك يا فلان، تسمّي من أحبّت باسمه، فيلحق به ولدها، لا يستطيع أن يمتنع به الرجل، ونكاح الرابع: يجتمع الناس الكثير، فيدخلون على المرأة، لا تمتنع ممّن جاءها، وهنّ البغايا، كنّ ينصبن على أبوابهنّ راياتٍ تكون علمًا، فمن أرادهنّ دخل عليهنّ، فإذا حملت إحداهنّ ووضعت حملها جمعوا لها، ودعوا لهم القافة، ثمّ ألحقوا ولدها بالّذي يرون، فالتاط به، ودُعي ابنه، لا يمتنع من ذلك، فلمّا بُعث محمّدٌ صلّى الله عليه وسلّم بالحقّ، هدم نكاح الجاهليّة كلّه إلّا نكاح النّاس اليوم”.

وهذا الحديث يتحدث عن أربعة أنواع للزواج، كانت منتشرة في الجاهلية وهي:

النوع الأول: الزواج المتعارف عليه اليوم، وهو ما أقرّه الإسلام وقرّره الشرع، وما ينسجم مع القيم الرفيعة ويحقق للمرأة مكانتها، ويبني حول الأسرة سياج حماية مجتمعيّ.

النوع الثاني: الاستبضاع؛ ولك أن تتخيّل أن يرسل رجل امرأته لتبيت في فراش رجلٍ لتحمل منه ولدًا نجيبًا قويًا، ثمّ يتقبّل المجتمع المفطور على الغيرة هذا السلوك ويعده عرفًا اجتماعيًا طبيعيًّا متقبّلًا، وأن يتعامل الرجال والنساء معه على أنّه غير مستنكر ولا مستقبح؛ وهذا يدلّ أن الفطرة إذا انتكست فإنّ المفاهيم السامية يتمّ تدجينها لصالح الانحراف القيمي.

النوع الثّالث: نكاح الرهط، وأيّة قيمة للمرأة والأسرة حين يدخل مجموعة من الرجال في ليلة واحدة على امرأة واحدة، وهي تقرر بعد حملها من يكون أبو جنينها ويغدو زوجها بعد ذلك؛ فتخيّل أن الرجولة التي كان يفاخر بها العربيّ آنذاك لم تكن تأنف من الفعل ابتداء، بل كانت تأنف من رفض قول المرأة بعد حملها في هذا الزواج البهيميّ.

النوع الرابع: البغاء والعهر، وهو ما يزال في البشريّة دلالة على انحطاط المجتمعات القيميّ، وكان حالة عامة منتشرة في المجتمع.

وإضافة إلى أنواع الزواج هذه، فقد كانت المرأة تُنال أيضًا بالغلبة في الحروب والسبي في المعارك، وكانت المرأة- الحلقة الأضعف- الخاسر الأكبر في أيّة معركة في بيئةٍ تصطبغ بالحروب، فهي تُسبى وتُملك، وتغدو متاعًا لمن سباها، ويلحق العار بأهلها وأولادها بسبب سبيها الذي لا يد لها به.

والخوف من هذا العار هو الذي جعل الأنثى كائنًا ممقوتًا، لا يحبّه الآباء عند ولادته، ويعمد فريق منهم إلى دفنه حيًّا وهو في طفولته ونعومة أظفاره، خشية السبي حين تكبر ويوصم أهلها بالعار بسببها، فالفطرة المنتكسة والرجولة المشوهة، كانت تتقبل أن يدفن الرجل ابنته وهي على قيد الحياة، ولا تعد ذلك عارًا، بل تراه إجراء وقائيًا كيلا يقع في العار المتوقّع.

ولقد نقل لنا الكتاب العزيز هذين المشهدين من الجاهليّة، لأنهما لم يكونا حالات فرديّة فحسب- كما يحلو لبعض الكتّاب أن يصوّر الأمر- بل كانا ظاهرة مجتمعيّة عامّة، ولو كانا حالات فرديّة لا قيمة لها، ولا تشكل الصورة العامة للمجتمع، لسمعنا النكير من المشركين على هذا الوصف الذي جاء بحقهم، وفي ذلك يقول ربنا تبارك وتعالى في سورة النحل: {وإذا بُشّر أحدهم بالأنثىٰ ظلّ وجهه مسودًّا وهو كظيمٌ* يتوارىٰ من القوم من سوء ما بُشّر به ۚ أيمسكه علىٰ هونٍ أم يدسّه في التّراب ۗ ألا ساء ما يحكمون}، ويقول جل وعلا في سورة التكوير: {وإذا الموءودة سئلت* بأيّ ذنبٍ قتلت}.

وأمّا التعدّد في الزّواج آنذاك فلم يكن له حدّ، وجاء الإسلام وقيّده بأربعة، فالإسلام لم يدْعُ إلى التعدد ابتداء، بل جاء إلى مجتمع يعيش فوضى التعدد فقيّدها، فالتعدد الذي شرعه الإسلام جاء تقييدًا وترشيدًا، وكذلك عموم أحكام الزواج، إذ كان الرجل في الجاهليّة يجمع بين الأختين في الزواج أو يجمع بين المرأة وعمتها وخالتها، بل أكثر من ذلك كان يرث نساء أبيه إذا مات، فيتزوجهنّ اذا مات أبوه، ويتزوج بزوجة أبيه حال حياته إن طلقها، وكان الطلاق والرجعة بيد الرجل بلا حد ولا ضوابط.

جاء الإسلام بضبط ذلك كلّه وتقنينه وترشيده، ومن ذلك قوله تعالى في سورة النساء: {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النّساء إلّا ما قد سلف ۚ إنّه كان فاحشةً ومقتًا وساء سبيلًا* حرّمت عليكم أمّهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعمّاتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمّهاتكم اللّاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرّضاعة وأمّهات نسائكم وربائبكم اللّاتي في حجوركم من نّسائكم اللّاتي دخلتم بهنّ فإن لّم تكونوا دخلتم بهنّ فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم الّذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين الأختين إلّا ما قد سلف ۗ إنّ اللّه كان غفورًا رّحيمًا}.

وكل هذا يدل على الفوضى العارمة التي كانت تعيشها منظومة الأسرة في الجاهليّة، وهذه الفوضى الاجتماعيّة والأسريّة ما هي إلا انعكاس للفوضى القيمية التي كانت سائدة آنذاك، والمجتمع الذي تنتكس فيه الفطرة تغدو القيم فيه انتقائيّة، فالرجل فيه يتسم بالغيرة الشديدة على عرضه في موقف وجانب معيّن يمكن أن يتقبّل ببساطة ما لا يوصف إلا بالدياثة والبهيميّة الغرائزيّة في جوانب أخرى، وهذا من نقص القيم وبتر الأخلاق الذي جاء الإسلام ليتمّمه ويضعه في المسار الشموليّ الموضوعي، وهو ما بيّنه رسول الله صلى الله عليه وسلّم في قوله: “إنّما بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق” وفي رواية: “إنّما بعثت لأتمّم صالح الأخلاق”.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق