هل كان عبَّاس العقَّاد إسلاميًا؟
محمد جلال القصاص
انتبه المهتمون بنشر الفكر العلماني (ما سمي بالتنوير) إلى أن عبَّاس يقف بعيدًا منفردًا ويتحدث بما لم يقل به أحد قبله؛ ولذا بادروا لنشر كتبه
في حس كثيرٍ من الناس ينتسب عبَّاس العقَّاد للظاهرة الإسلامية، فهل كان حقًا إسلاميًا؟، هل كان عبَّاس العقَّاد من الداعين للإسلام المدافعين عنه في وجه خصومه؟!
حال تتبعي للقمص المتطرف زكريا بطرس في 2005-2007وجدته في حضرة أنثى "ناهد متولي" مثله في التطرف والبذاءة أو أشد، يفتريان الكذب على الله ورسوله، ويستشهدان بعبَّاس العقَّاد !!
استشهد بطرس ببعض ما كتب العقَّاد في كتابه (الله)، جل جلال ربنا وتقدس، وهو من أشهر ما كتب العقَّاد . وحين ذَكر بطرسُ العقَّاد هاجت أنثاه نشوةً وطربًا وراحت تثني على العقَّاد ، تقول: "الأستاذ والمفكر الكبير.." وراح بطرس يتلو من كلام العقَّاد مستشهدًا على كذبه وافترائه على الله ورسوله. [انظر: زكريا بطرس، برنامج أسئلة عن الإيمان، الحلقة 18بعنوان: شهادة علماء الإسلام لصحة الكتاب المقدس وعدم تحريفه، والحلقة مفرغة في موقع بطرس وغيره].
قلت في نفسي وقتها: لابد أن بطرس يكذب على عبَّاس العقَّاد ، وذهبت فرحًا إلى موطن الاستشهاد لأثبت أن بطرس كذاب كعادته ؛ ولكني في هذه المرة لم أجده يكذب. وجدت ما قالا بطرس وأنثاه وأشد.
قرأت كتاب العقَّاد كله، وأعدت النظر فيه مرة بعد مرة؛ وجلست عند العقَّاد ولم أنصرف. قضيتُ أكثر من عامٍ أقرأ فيما كَتب العقَّاد وفيما كُتب عنه، وتجاوزت سبعة آلاف صفحة للعقاد وعنه، وكلما قرأت أمسكت رأسي وربما ضربت بها في مكتبي من هول ما أجد. وهذا بعض ما وجدت:
عبَّاس العقَّاد شديد القرب من معتقدات النصارى في كتابهم (الكتاب المقدس)، وفي قصة الصلب والفداء المزعومة، وفيما قالوه عن (بولس الطرطوسي..شاؤول) وغير ذلك، حتى أنك لو قرأت ما كتب عبَّاس في هذه المواضيع وأنت لا تعرف الكاتب لن تشك لحظة في أنها رواية نصرانية وليست من مفكر إسلامي!! ولذا طرب بطرس وطربت أنثاه بذكر عبَّاس واستحضروه شاهدًا على صحة حالهم!!
والعقَّاد يتبنى نظرية التطور المعرفي والعضوي، وهما متكأ الإلحاد وقاعدته!!
والعقَّاد يتطاول على الصحابة رضوان الله عليهم، بما قاله الروافض وزاد!!
والعقَّاد يعتقد نبوة غاندي الهندي عبد البقرة!!
والعقَّاد يقدم رؤية للتوحيد والوحي لم أر مثلها قط في غرابتها وشدة بعدها عما أعرف من الدين!!
انتبه المهتمون بنشر الفكر العلماني (ما سمي بالتنوير) إلى أن عبَّاس يقف بعيدًا منفردًا ويتحدث بما لم يقل به أحد قبله؛ ولذا بادروا لنشر كتبه، يقول صاحب دار الكتاب العربي بدولة لبنان في تقديمه للمجلد الخامس والأخير من موسوعة العقَّاد الإسلامية: "يتألف هذا القسم من نتاج العقَّاد ، والذي دعوناه بـموسوعة العقَّاد الإسلامية، من خمسة ِمجلدات ٍهي العبقريات و شخصيات إسلامية وتوحيد وأنبياء والقرآن والإنسان وبحوث إسلامية، ويشتمل على خمسة وعشرين كتابًا مختلفًا، تؤلف الذخيرة اللازمة للاطلاع على حقيقة الدين الإسلامي وجوهره". بمعنى أن عبَّاس كان قراءة جديدة (مختلفة) للشريعة ولم يكن أديبًا فقط كما يحلو لبعضهم أن يصفه، بل معلوم أن كثيرين يرفضونه شاعرًا وأديبًا ولا يرضون به في ساحة الأدب إلا ناقدًا، وبضاعته في النقد غربية.
واهتمت أستاذة أكاديمية بما كتب العقَّاد، وحاولت وضع إطارٍ فكري له، فكان أن وضعته في إطار إنساني يدافع عن الجمال والفن بمفهومهما العلماني المعاصر لا إسلامي يدفع المنصرين والملحدين ويدعو الناس لله رب العالمين؛ وسمت بحثها: (الجمال والحرية والشخصية الإنسانية في أدب العقَّاد ). هكذا ظهر لها العقَّاد .. مدافعًا عن قيم الجمال والحرية بالمفهوم العلماني، وكتابها مليء بالاستشهادات الكثيرة المنضبطة التي تبين بالفعل عن عباس العقاد كان ضمن الإطار العلماني.. ما يسمى بالإنساني.
وأشد ما يستشهد به لإسلاميات العقَّاد هو العبقريات، وحين تقرأ عبقريات العقَّاد وتعيد النظر فيها مرة بعد مرة تجد أنها بعيدة كليةً عن الانتصار للدين وسيد المرسلين- صلى الله عليه وسلم-؛وهذه ملاحظتين فقط على العبقريات:
الأولى: أنها كتبت-كما يذكر هو- انتصارًا للفردية (العظماء) ضد الهجمة الجماهيرية؛ ولم يستهدف بها الرسول-صلى الله عليه وسلم- ونفرًا من أصحابه وعظماء التاريخ الإسلامي، وإنما كل (العظماء)، فوصفَ كثيرين بالعبقرية، أو العظمة، منهم عبد البقرة غاندي، وبنيامين فرانكلين، وجيتي(الشاعر)، وشكسبير، وبرنارد شو، وابن عربي، والحلاج، وسعد زغلول؛ وهؤلاء خليط: ساسة وشعراء ومفكرون، ومن استقراء السياق نجد أن القاسم المشترك بينهم هو التأثير في حياة الناس، وهذا ما كان يعجب العقَّاد ويعطي عليه وصف العبقرية، فقد كان مأخوذًا بالعظمة والشخصية ذات السطوة لا بالإيمان بالله ورسوله.
ثانيها: تنطوي العبقريات على فكرة رئيسية تعارض ما استقر في صحيح المنقول وصريح المعقول، وهي أن السيرة- أو التاريخ عمومًا- من صنع أفراد معدودين (العباقرة). وأن هؤلاء العباقرة صنيعة العوامل الوراثية والبيئية، فكل منهم ورث أباه وتأثر ببيئته!!
وكل ما حولك يشهد على خطأ هذا الادعاء، فالبيئة الواحدة والبيت الواحد يخرج منه الأضداد؛ والوحي هو الذي صنع محمدًا-صلى الله عليه وسلم- وصحابته، قال الله تعالى: (وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا ۚ مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَٰكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا) (الشورى:52).
وتستحق العبقريات أن نفرد لها عددًا من المقالات، ندور حولها ونمر من خلالها لنبين بعض ما فيها من التعدي على الرسول-صلى الله عليه وسلم- وأصحابه-رضوان الله عليهم- وعلى العقل الصحيح والنقل الصريح.
وحين كتب عبَّاس العقَّاد يدافع عن الدين في وجه المستشرقين، مثل كتاب (ما يقال عن الإسلام) و (حقائق الإسلام وأباطيل خصومه) كان ذلك استكتابًا من ضباط الثورة بعد أن اعتقلوا الإخوان المسلمين. كانت محاولةً منهم لسد الفراغ، فاستكتبوا العقَّاد واستجاب لهم، ولازال بعض ما كتب في هذه الفترة بتقديم الضابط محمد أنور السادات؛ وحين اعتقل سيد قطب ورفاقه استكتبوا العقَّاد وهم بكتابةِ تفسيرٍ للقرآن الكريم ليكون بديلًا عن الظلال؛ وهذه النوعية من الكتابات (كتابين أو ثلاثة) اعتدل فيهما العقَّاد قليلًا ليناسب المقام!!
وحين تطل على مسيرة عبَّاس العقَّاد بين الناس من ولادته 1889 إلى وفاته 1964 تجد أنه لم ينضم عمليًا للداعين للإسلام أو المدافعين عنه بل كان بعيدًا عنهم وكثيرًا ما ناوشهم. فإلى الخمسين من عمره كان بين السياسين: سعد زغلول، ثم حزب السعديين، وظل سياسيًا حتى فشل وهم بالانتحار-كما يذكر هو في حوارٍ متلفز- وحين لفظته السياسة التحق بما هو رائج يومها، (الكتابة في الإسلاميات)، وكتب في ذات القضايا الثائرة: السيرة، الآثار، إبراهيم الخليل وتاريخ الأديان، التطور وتأثير البيئة؛ ودافع عن الديمقراطية مبكرًا؛ وهاجم الإخوان المسلمين وكان يسميهم (خُوَّان المسلمين)، وكان صديقًا حميمًا لطه حسين ونجيب محفوظ؛ ولم يصاحب أحدًا من المنتسبين للحالة الإسلامية.
انتفش العقَّاد في حس كثيرٍ من الناس لأمور، منها:ـ
- أنه وقف وسطًا بين المدافعين عن الدين كطنطاوي جوهري ورشيد رضا وحسن البنا وأحمد شاكر ومحمد شاكر والمعادين له كطه حسين؛ فحينًا يقترب من الداعين المدافعين وغالبًا مع أولئك المعادين الدافعين للدين والمتدينين، ولذا تجد من يدافع عنه يعتذر بأنه كان أحسن حالًا من صديقه طه حسين ولا يقارنه بالأخوين شاكر وقطب.
- وأنه تلقى دعمًا خارجيًا من الإنجليز وخاصة حين هاجم هتلر، ومن المنظومة العلمانية التي عنيت بكتبه كونه يفسر السيرة بأدواتهم المعرفية (تأثير البيئة، والعامل الوراثي، والعبقرية)، وتبنى صراحةً نظرية التطور العضوي والمعرفي وهي أم القضايا عند الغرب.
- وأنه تلقى دعمًا داخليًا: من الحكومة في عهد السعديين (وكان منهم)، وتلقى دعمًا من ضباط الثورة بعد الصدام مع الإخوان ليكون بديلًا لهم.
- ولأنه كان في المشهد السياسي بجوار أبرز رموزه (سعد زغلول)، ولأنه كان في الصحافة، ولأنه كان يكتب في الرائج في وقته، ويكتب نقدًا، ويخالف السائد، ويدخل في عصابات فكرية تصارع بعضها في قضايا جزئية شغلت الرأي العام في وقتِ تحولات فكرية وسياسية.
- وانتفش لما ظهر عليه من فقرٍ وضيقٍ في العيش فقد كان يلتقي زواره ببجامة صوف لا تتغير صيفًا أو شتاءً؛ وفسر محبوه فقره بأنه زهد في الدنيا. وما كان زهدًا، فقد ترشح للانتخابات ودخل مجلس الأمة (البرلمان) مبكرًا في حكومة سعد زغلول، وكان قريبًا من زعيم حزب السعديين المنشق على الوفد، وقبل تعيينه في مجلس الشيوخ من قبل (الملك)، وشغل عددًا من المناصب؛ وما كان بالعقَّاد تواضع فاستعلائه وتطاوله على أقرانه بالسب والشتم معروف ومشهور. كان يزدري الألقاب ويأبى أن يرافق أيًّا منها اسمه. فاسمه مجردًا -حسب ظنه- أعلى من كل الألقاب، اللهم أن يقال: الأستاذ بالألف واللام (أل العهدية)، وكأنه هو الأستاذ وحده!!
وفي سلوكه الشخصي لم يكن متدينًا، فلم يكن يصلي، ولا حتى الجمعة .. كان يعقد صالونه يوم الجمعة وقت الصلاة، ويحضره اليهود والنصارى والكاسيات العاريات كما يذكر أنيس منصور في كتابه (في صالون العقاد) وأنيس منصور من تلامتذته ومحبيه وشاهد عيان. وكان يحب كلبًا (بيجو) ويصاحبه في بيته وخارج بيته ورثاه حين مات بقصيدة شعر، ومع أنه كان يتطاول على المرأة ويظهر احتقارًا لها إلا أنه احب مي زيادة، وأحب (سارة)، وغيرها.. اجتاحه الأنوثة ولم يتصالح معها على قنطرةٍ شرعية (الزواج) بل كابر فخلعت عنه وقار المروءة ومات وابنته في يوم واحد حسب رواية أنيس منصور!!
محمد جلال القصاص
يوليو2018
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق