علامة استفهام (11): هل من الخطر أن تكون عادياً؟
أسعد طه
(1)
حنا أرندت تكره وصفها بالفيلسوفة، رغم أنها كذلك. يهوديةٌ هربت من النازية ووجدت في الولايات المتحدة ملجأً لها، وقد قرأت أن مجلة النيويوركر الأميركية قد فوضتها عام 1961 لتقوم بتغطية محاكمة أدولف آيخمان، ضابط وحدات النخبة النازية (أس أس) الذي شارك في جرائم الهولوكوست.
تقول الحكاية إن أرندت أرادت أن تعرف كيف لشخص أن يرتكب مثل هذه الشرور، فلا يمكن لأحد المشاركة في محرقة كهذه إلا إذا كان شخصًا شريرًا معتلًا اجتماعيًا، إلا أنها -وحسب قولها- فوجئت بأن الرجل عادي جداً، تقليدي للغاية، ويفتقر إلى الخيال، واكتشفت أنه لم يكن شيطانيًا ولا وحشيًا، ولم تظهر أي علامة لديه على وجود قناعات أيديولوجية راسخة.
أرندت أرجعت فساد الرجل الأخلاقي بل وحتى رغبته القوية في ارتكاب الجرائم إلى انعدام اكتراثه وغياب الفكر عن عقله، وهي ترى أن عدم القدرة على التوقف والتفكير هو ما أتاح لآيخمان المشاركة في هذا القتل الجماعي.
(2)
وفق هذا الرأي؛ هل يمكن للواحد منا أن يكون في خطر حقيقي إذا كان عادياً وتقليدياً، فاقداً للخيال، غير مكترث، لا فكرة يعتنقها؟ سيختلف كثر حول الإجابة، لكني نعم أرى ثمة خطراً حقيقياً يهدد أي إنسان يفتقد هذه الصفات مجتمعة، ويتناسب حجم الخطر الذي يهدده مع عدد تلك الصفات التي يفتقدها.
(3)
أعترف بأنني توقفت كثيراً عند كلام أرندت واصفة الجاني بأنه يفتقد القدرة على "التوقف والتفكير". مصدر عجبي ربما صادر من أننا نعيش ظاهرة Overthinking، أو التفكير الزائد، أي أن أكثرنا يشتكي أنه يعاني في هذا الزمن كثرة التفكير لا قلّته.
"ليس المهم التفكير في حد ذاته، بل في أن تكون لديك فكرة، والفكرة المقصودة ليست أيديولوجية حزبية ضيقة تصبغ بها حياتك كلها، بل تلك الرؤية نحو الوجود وموقعك فيه، نظرتك إلى الدنيا وما تمثله لك، تصورك عن حياتك ومغزاها وهدفها"
لكن الأمر ليس في التفكير في حد ذاته، بل في أن تكون لديك فكرة، والفكرة المقصودة ليست أيديولوجية حزبية ضيقة تصبغ بها حياتك كلها، بل تلك الرؤية نحو الوجود وموقعك فيه، نظرتك إلى الدنيا وما تمثله لك، تصورك عن حياتك ومغزاها وهدفها.
الفكرة يا صديقي أشبه بالبوصلة التي تدلك على الاتجاه الصحيح لك، تظل ترشدك إلى الطريق طوال حياتك، هي كالميزان الذي تزن وتقدر به كل ما يمر بك لتتخذ القرار الذي يناسبك، لن تعرف صواب قرارك من خطئه إن لم تكن لديك فكرة ثابتة تتكئ عليها.
نعم قد تتطور فكرتك، بل قد تتخلى عنها قفزاً إلى فكرة أخرى، إلا أنه من المهم أن تظل لديك في النهاية فكرة، فمن دونها سوف تختلط الألوان لديك وتتشابه الطرق.
الفكرة هي التي تنقذك من الهوى ومن التيه، وترسم لك الاتجاهات، وتعينك عند الاختيار عندما تتعدد الاختيارات، بها تكتشف الأفق، وبها تحدد الهدف.
حياتك متصلة، وليست جُزُراً منعزلة، الفكرة تضمن لك حياة متجانسة، لا تناقض فيها، لن تأخذ كل يوم قراراً مختلفاً ومتناقضاً عما اتخذته بالأمس، ستكون قراراتك متآلفة.
وإذا كانت لديك فكرة فستكون مكترثاً، لأنك ستهتم بنصرتها، بتنميتها، بإقناع الآخرين بها، بحمايتها، بضمان سلامتها.
لذا فمن الخطر ألا تكون لديك فكرة.
(4)
إنّ القدرة على التخيّل أهم بكثير من المعرفة، هذا القول ليس صادراً عن شخص مزاجي ولا فنان بوهيمي، بل عن صديقنا آينشتاين، إنه يتحدث عن قوة التخيل وما يحدثه ذلك في حياة المرء.
الخيال ضروري لأن تعيش يومك، لأن ترسم معالم غدك، لأن تتخلص من ألم الحاضر، لأن تتجاوز الواقع لا هروباً منه بل سعياً إلى واقع أفضل. الكاتب الإنجليزي كولن ويلسون قال ذلك، قال إن الخيال الجيد لا يُستخدم للهروب من الواقع بل لخلقه.
الخيال نوع من التمرد، نوع من رفض ما فُرض علينا في حياتنا، نوع من الحرية بعيداً عن كل القيود التي تأسر حركتنا اليومية، خطوة أولى نحو الابتكار، نحو إيجاد بدائل، نحو السعادة، نوع من الانطلاق إلى عالم مأمول، وكيف تنطلق وأنت لا أجنحة لك؟ محمد علي كلاي قال قولاً جميلاً: من لا خيال له فليست لديه أجنحة.
لذا فمن الخطر ألا يكون لديك خيال.
(5)
إذا كانت لديك الفكرة والخيال -وبالطبع الإرادة- فقد نجوت من خطر أن تكون عادياً، ولكن فلنسأل أنفسنا مرة أخرى: هل أن تكون عادياً خطر؟
أن تكون عادياً في نظري يعني أن تقبل بالواقع المفروض عليك ولا تحاول تغييره، أن توافق على نصف حياة، أن تعلن استسلامك لكل ما ومَن يحيط بك، أن تقبل بانكسار حُلمك عند أول مواجهة، أن ترضى بحياة رتيبة أملاً بالهروب من المشكلات والتحديات، سعياً إلى الراحة، متناسياً أن الحياة ترسل إلى العاديين أيضاً المشكلات والتحديات حتى عقر دارهم.
"ألا تكون عادياً لا يعني بالضرورة أن تكون ثرياً، أو مشهوراً، أو نجماً، أو فليسوفاً، لكنك ستكون عظيماً عندما تحدد هدفك الملائم لقدراتك وتعمل على تنفيذه مهما واجهت من صعاب، لتعيش الحياة التي تريدها أنت، لا تلك التي فُرضت عليك"
ألا تكون عادياً لا يعني بالضرورة أن تكون ثرياً، أو مشهوراً، أو نجماً، أو فليسوفاً، لكنك ستكون عظيماً عندما تحدد هدفك الملائم لقدراتك وتعمل على تنفيذه مهما واجهت من صعاب، لتعيش الحياة التي تريدها أنت، لا تلك التي فُرضت عليك.
ستكون عظيماً عندما تطور نفسك كما تطور تقنياتك، عندما تستثمر في نفسك كما تستثمر في أموالك.
ستكون عظيماً عندما تتحمل المسؤولية وتتخذ قرارك وتواجه أخطاءك، عندما تدرك أن عدم اتخاذك قراراً هو في حد ذاته أخطر قرار، وأن الوقت المثالي لا يُنتظر بل تصنعه أنت.
ستكون عظيماً عندما تكون متميزاً في عملك، متفرداً فيه، بغض النظر عن نوع هذا العمل ومستواه.
ستكون عظيماً عندما ترفض السكون وتقبل بالمغامرة سعياً وراء أحلامك.
(6)
أنت إنسان عادي، تقبل بالرتابة، تفعل الشيء نفسه على الدوام، لا جديد تجرِّبه، ولا مغامرة تخوضها، ولا سفر تسافره، تعيش الحياة في انتظار الموت، هل يمكن أن يتعرض الإنسان لخطر أكبر من ذلك؟
متعلقات
علامة استفهام 1: كيف حال هذا الذي بداخلك؟
علامة استفهام (2): هل يجب أن ينتصر المناضلون؟
علامة استفهام (3): من منا سينجو؟
علامة استفهام (4): هل حقا سيكون كل شيء على ما يرام؟
علامة استفهام (5): هل بلغك سر العزلة؟
علامة استفهام (6): ماذا فعلت بك المهنة؟
علامة استفهام (7): عند العتمة.. ما العمل؟
علامة استفهام (8): متى عرفت الله أول مرة؟
علامة استفهام (9): ماذا تفعل وأنت في انتظار المخلِّص؟
علامة استفهام (10): ماذا تعرف عن غزو الذاكرة؟
علامة استفهام 1: كيف حال هذا الذي بداخلك؟
علامة استفهام (2): هل يجب أن ينتصر المناضلون؟
علامة استفهام (3): من منا سينجو؟
علامة استفهام (4): هل حقا سيكون كل شيء على ما يرام؟
علامة استفهام (5): هل بلغك سر العزلة؟
علامة استفهام (6): ماذا فعلت بك المهنة؟
علامة استفهام (7): عند العتمة.. ما العمل؟
علامة استفهام (8): متى عرفت الله أول مرة؟
علامة استفهام (9): ماذا تفعل وأنت في انتظار المخلِّص؟
علامة استفهام (10): ماذا تعرف عن غزو الذاكرة؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق