السبت، 9 مايو 2020

المراجعات الموجعة (1): حقوق الإنسان

المراجعات الموجعة (1): حقوق الإنسان
منصف المرزوقي الرئيس التونسي


يوفال هراري كاتب إسرائيلي مثير للجدل لكنه جدير بالقراءة. في آخر كتبه "الإنسان-الإله" (Homo Deus) يقول إن خَلق الأديان لم ولن يتوقف عبر التاريخ، ومن ثَمّ فإن ظهور دين معاصر يسميه "الفردانية" انطلق من أوروبا في القرنين السابع والثامن والتاسع عشر ألّهَ الإنسان دون أدنى مواراة (ومن ثَمّ جاء عنوان كتابه)؛ فمَن منكم سمع يوما بهذا الدين؟ هل هو دين سرّي كعبادة الشيطان؟ لا أبدا يقول هراري، بل هو دين علني أوسع انتشارا حتى من الإسلام والكاثوليكية.
من الحُجج التي يسوقها الرجل أن:
– كل دين جديد بحاجة للتخلّص من المقدّس القديم واتخاذ مقدّس بديل، وهذا بالضبط ما فعلته الفردانية عندما استبدلت الإنسان بالخالق، لتجعله محل العبادة ومصدر التشريع والمرجع لفهم العالم وتغيّراته.
– كل دين جديد بحاجة إلى نبي أو أنبياء، وهذا ما حصل مع ما سوّقته الفردانية من "أنبياء" علمانيين، مثل روسو وفولتير ونيتشه وآدام سميث وكارل ماركس.
– لكل دين جديد مشروع لتحسين حال الإنسان والعالم، وهذا ما فعلته ولا تزال الفردانية، متسلحة بثلاث أذرع:
  • الذراع الاقتصادية: أي الليبرالية وركيزتها الفرد كمرجع أول في كل قضايا تنظيم الإنتاج والاستهلاك.
  • الذراع السياسية: أي الديمقراطية وركيزتها الفرد كمرجع أول في كل قضايا تنظيم الحكم.
  • الذراع الأيديولوجية: أي حقوق الإنسان وركيزتها الفرد كمرجع أول في تحديد ما هو الإنسان وما له وما عليه.
**
أعترف بأنني انتفضتُ -كمن أصيب بلدغة أفعى- عند المقطع الذي يقول فيه هراري إن حقوق الإنسان هي الذراع الأيديولوجية للديانة الفردانية. عرّفتُ نفسي دوما بأنني: عروبي غير قومي، علماني غير ملحد، ومسلم غير إسلامي؛ فكيف أكون مسلما وأنا منتمٍ دون وعي إلى ديانة أزاحت الإلَه من المركز لتضع بدله الإنسان؟
هل من باب الصدفة أن الكتاب الذي خصّصتُه للدعوة إلى حقوق الإنسان وعنوانه "الإنسان الحرام" أي الإنسان المقدس؟ ألا يعني هذا انخراطي الكامل في منظومة فكرية استعملَتني أكثر مما أقبل الاعتراف به؟
بالعودة إلى كتابي "الإنسان الحرام" وكتابي "حقوق الإنسان.. الرؤيا الجديدة" (وكلاهما متوفّران على موقعي) أمكنني أن أتنفس الصعداء وأنا أكتشف أنني دافعتُ عن حرمة الإنسان وقداسته، لا لأنها مستمَدة من ذاته وإنما انطلاقا من مقولة "البعرة تدل على البعير" و"الأثر يدل على المسير"، ومن ثمّ فالمخلوق يدل على الخالق.
لكن بِغض النظر عن موقفي الشخصي؛ أحقّا حرّض الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على اعتبار الإنسان إلَهاً يجب أن ندين له بكل مظاهر التقديس، أم إن الرجل يتجنّى ويبالغ؟
بوضع الأمور في نصابها؛ يتضح لنا أن الإنسان الذي يتحدث عنه المشرع العالمي هو جهرا كائن ضعيف، معرّض طوال حياته للقتل والإذلال والعسف والتمييز والظلم والاستبداد والاستغلال… إلخ. هو سرّا -وبصفة ضمنية- كائن مرعب يمارس القتل والنخاسة والاستبداد والاستغلال والتعصب… إلخ
ماذا لو كان هذا الإعلان -الذي كتبتُ فيه الكتب وحاضرتُ حوله ما لا يُحصى من المحاضرات وحتى داخل القصر الرئاسي، بل ودخلتُ السجن من أجله- بحاجة للمراجعة ككل المعتقدات الأخرى؟
ها أنا أضع النص على طاولة التشريح الفكري، ربعَ قرن بعد أول قراءة له وبخبرة كل هذه الفترة، وهاجسي هو ألّا أنظر إليه "بعين الرضا التي هي عن كل عيب كليلة".
لنأخذ قائمة الحقوق والحريات المبوَّبة في الثلاثين بندا للإعلان. إنها بداهةً قائمة بحاجيات الإنسان الأساسية، هي متطلبات وشروط الوجود الكريم، هي أهداف البشرية وأحلامها. لكن كيف تبدو لنا إن نحن قرأنا أيضا بين سطورها؟
يكتب المشرّع العالمي في الديباجة: "ولمّا كان تناسي حقوق الإنسان وازدراؤها قد أفضيا إلى أعمال همجية آذت الضمير الإنساني". جميل؛ لكن من تناسى حقوق الإنسان وازدراها وارتكب في حقه أعمالا همجية؟ مستعمر جاء من المريخ؟
من يمارس "التمييز بسبب العنصر، واللون، والجنس، واللغة، والدِّين، والرأي سياسيًّا وغير سياسي، والأصل الوطني والاجتماعي، والثروة، والمولد"؟ (الفصل 2)
من يتصدى لحق كل فرد في الحياة والحرِّية وفي الأمان على شخصه؟ (الفصل 3)
من يسترقُّ ويستعبد الإنسان ويمارس الاتجار بالبشر؟ (الفصل 4)
من يُخضع الإنسان للتعذيب والمعاملة والعقوبة القاسية واللاإنسانية والحاطَّة بالكرامة؟ (الفصل 5)
ومن يسمح لنفسه باعتقال أيِّ إنسان وحجزه ونفيه تعسُّفًا؟ (الفصل 9)
من يعاقب الإنسان على ممارسة حرِّية الرأي والتعبير، والتماس الأنباء والأفكار وتلقِّيها ونقلها إلى الآخرين؟ (الفصل 19)
من يمنع الإنسان من حقه في أجرٍ متساوٍ على العمل المتساوي، وفي مكافأة عادلة ومُرضية تكفل له ولأسرته عيشةً لائقةً بالكرامة البشرية، وتُستكمَل -عند الاقتضاء- بوسائل أخرى للحماية الاجتماعية؟ (الفصل 23)
الردّ على كل الأسئلة: الإنسان طبعا، أكان فردا أو جماعة منفلتة أو بشرا يديرون دولة؛ فما الذي قفز فوقه المشرع العالمي وهو يبني للمجهول جريمة تناسي حقوق الإنسان؟ الطبيعة الحقيقية والمعقدة للإنسان.
بوضع الأمور في نصابها؛ يتضح لنا أن الإنسان الذي يتحدث عنه المشرع العالمي هو جهرا كائن ضعيف، معرّض طوال حياته للقتل والإذلال والعسف والتمييز والظلم والاستبداد والاستغلال… إلخ. هو سرّا -وبصفة ضمنية- كائن مرعب يمارس القتل والنخاسة والاستبداد والاستغلال والتعصب… إلخ.
لقائل أنْ يقول نسيتَ أن الإنسان هو أيضا كائن لا يرضى بدور الضحية ولا يرضى بدور الجلاد، وهو الذي وضع هذا الإعلان "ليكون المستوى المشترك الذي ينبغي أن تستهدفه كافة الشعوب والأمم، حتى يسعى كل فرد وهيئة في المجتمع -واضعين على الدوام هذا الإعلان نصب أعينهم- إلى توطيد احترام هذه الحقوق والحريات".
ليكن، ولنُسمِّ هذا الوجه الثالث "الإنسان-الضمير"؛ لكن المشكلة هي أن وجوده لا يلغي وجود الشيطان الذي بداخلنا وإنما يؤكده، وهو مستنفر طول الوقت للحدّ من آثامه.
من أين لنا إذن التعاطف مع إنسان في المطلق أو مسكوت عن جزء من طبيعته ونحن نعرف أن بداخله كل "الخوارزميات" -بلغة العصر- القادرة على جعله جلادا في أي لحظة؟ من أين لنا تقديس كائن كهذا وهو في أحسن الأحوال ضحية، وفي أسوئها جلاد، وفي جُلّها كلاهما معا؟
**
نصِل الآن لوجع سؤال: أنَكفُر بحقوق الإنسان وقد اتضح أننا ربما كنا أسرى لتصورات ساذجة وأوهام طمأنّا بها أنفسنا القلقة، لكننا ظللنا نجري دوما وراء سراب؟
يجب أن نحيّي وأن ندعم من يواصلون المعركة الحقوقية في أصعب الظروف، خاصة في الوطن العربي المنكوب (مصر والسعودية نموذجا)، والاستعداد لمواجهة الموجة المقبلة من الاستبداد، والمستبدون الجدد يتأهبون لبيعنا النموذج الصيني بعد أن نزعوا البيعة عن أسيادهم السابقين من أوروبيين وأميركان، رغم كل الدعم الذي تلقوه منهم طوال أكثر من نصف قرن
طبعا لا؛ فالإعلان العالمي لحقوق الإنسان -الذي سنّته الأمم المتحدة يوم 10 ديسمبر/كانون الأول 1948- هو مكسب من أهم مكاسب البشرية، لأنه أول نص شاركت في صياغته الأغلبية الساحقة من ممثلي الإنسانية، ولعب دورا هاما في ولادة كل العهود والمواثيق الدولية التي حاولَت بناء نظام عالمي أكثر عدلا وأقل عنفا وهمجية.
طبعا الفضل كل الفضل لمئات الآلاف من البشر الذين تجندوا عبر المنظمات الحقوقية المحلية والدولية لنصرة المظلومين بغَض النظر عن كل انتماء، مجسدين بهذا أحسن تجسيد الوجه الثالث للإنسان، المذكور آنفا.
طبعا يجب أن نحيّي وأن ندعم من يواصلون المعركة في أصعب الظروف، خاصة في الوطن العربي المنكوب (مصر والسعودية نموذجا)، والاستعداد لمواجهة الموجة المقبلة من الاستبداد، والمستبدون الجدد يتأهبون لبيعنا النموذج الصيني بعد أن نزعوا البيعة عن أسيادهم السابقين من أوروبيين وأميركان، رغم كل الدعم الذي تلقوه منهم طوال أكثر من نصف قرن.
طبعا لستُ نادما على انخراطي في معركة الدفاع عن حقوق الإنسان، ولا شيء أفخر به قدرَ فخري بانتمائي للحركة الحقوقية التونسية والعربية، التي ناضلَت في الثمانينيات والتسعينيات ضد آفة التعذيب. ويشهد الله أنني مَنعتُ بكل صرامة هذه الجريمة النكراء عندما تولّيتُ الحكم، ولم أتصدّ لأي حق ورد في الإعلان وخاصة حرية الرأي والتعبير.
لكن كل هذه التأكيدات لا تعفينا من ضرورة مراجعات موجعة في طرق عمل الحركة الحقوقية محليا وعربيا، وقد عايشت للأسف الشديد ما لحقها من تيه وانتقائية، ناهيك عن التطبيل لسفاح دمشق (إي والله)؛ بل يجب أن تشمل المراجعة الوثيقة الأولى نفسها.
**
سنة 2048 ستحتفل الإنسانية بالذكرى المئة للإعلان، وبما أنه ليس نصا مقدسا فيجب اغتنام الفرصة لمراجعته على ثلاثة مستويات:
أولا؛ في الديباجة يكتب المشرّع العالمي: "ولما كان تناسي حقوق الإنسان وازدراؤها قد أفضيا إلى أعمال همجية آذت الضمير الإنساني". آن الأوان لشيء من الشجاعة وإعادة الكتابة ليكون النص: "ولما كان تناسي الإنسان لحقوق الإنسان وازدراؤه لها قد أفضيا إلى أعمال همجية".
هكذا بهذه الصيغة نُقرّ بوجود النصف الشيطاني للإنسان وبتحمله مسؤولية أفعاله، بدل التهرب من الحقيقة. هكذا لن يمكن لهراري ولا لغيره اتهامنا بأننا نعبد كائنا هلاميا أضفينا عليه صفات القداسة، وهو أبعد ما يكون عنها.
ثانيا؛ لا جدوى لتعداد انتهاكات حقوق الإنسان-الضحية دون التعرض بكلمة واحدة للإنسان-الجلاد، خاصة أنه أعطى لنفسه كل الحقوق ومنها حقه في تعذيب خصومه، ومنعهم من ممارسة حرية الرأي والمعتقد، وبيعهم كالماشية واستغلال عَرَقهم… إلخ.
تقتضي ضرورة النزاهة وشمولية النص أن تُعاد كتابة كل فصل بطريقة تُذكِّر النصف الشيطاني بمسؤوليته. خذ مثلا في الفصل 18: "لكلِّ شخص حقٌّ في حرِّية الفكر والوجدان والدِّين". إنه فصل لا يؤدي غرضه إلا إذا أضيفت له فقرة مكمِّلة: "وواجب كل شخص احترام حق الآخر في حرية الفكر والوجدان والدين، تحت طائلة الجزاء بالقانون".
لو كُتب الإعلان كله بهذه الطريقة وأصبحنا نربط كل حق بواجب وكل واجب بالإلزام قانونا، لحُقَّ لنا تسمية النص المنقَّح بـ"الإعلان العالمي لحقوق وواجبات الإنسان"، ونكون بهذا تقدمنا خطوة نحو مواقف أنضج ورؤية أوضح.
نحن نفهم -بطريقة متزايدة- ارتباط كل الحقوق والواجبات ببعضها، ليس فقط داخل الأسرة البشرية وإنما أيضا داخل كل النسيج الذي تشكّله مختلف الأجناس الحية. وهكذا لا يؤدي ازدراء حقوق الإنسان من قِبل الإنسان إلى أعمال همجية آذت الإنسان فحسب، وإنما أدى ازدراء حقوق الكائنات الأخرى إلى أعمال همجية منها تدمير البيئة، ونحن بذلك كمن ينشر الغصن الذي هو جالس فوقه
التحوير الثالث والأهم: قلنا بحرمة الإنسان لأنه رغم كل عيوبه ونواقصه يحمل تكريما من الخالق. لكن بقية الفكرة هي: مِثلُه مِثلُ كل الكائنات الأخرى.
فعندما تنظر لما تسبب فيه الإنسان من انقراض أجناس لا تُحصى ولا تُعدّ، وكلها من مخلوقات وعجائب الله؛ وعندما تعي ما أحدثه من دمار في العالم؛ تأتيك الفكرة الرهيبة أن الرؤى الإنسانوية -ومنها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان- تمجّد وتقدس كائنا هو اليوم أخطر الكائنات على ملكوت الله.
بمنطق المتدينين؛ قد تكون هذه الأوبئة -التي تتكاثر وتهدد وجود الجنس البشري- عقابا من الله للإنسان على غروره وعجرفته وغبائه. وبمنطق الملحدين؛ قد تكون هذه الأوبئة آليةً تُدافع بها الطبيعة عن نفسها، مثلما يدافع الجسم الحي عن نفسه ضد هجوم الفيروسات والجراثيم، عبر إفراز المضادات الحيوية لقتل من يريد قتله؟
من حسن الحظ أن هناك اليوم وعياً متزايدا بأن الإنسان ليس إلا كائنا حيا من بين الكائنات الأخرى، التي تُقاسمُنا الهواء والماء وحق الكرامة والحياة. إنه تصوّر جديد تُساهم في نشره -بكيفية تُذكر فتُشكر- التلفزيونات الوثائقية، انطلاقا من معطيات البحث العلمي الأكثر تقدما.
لقد فَتحَت أمام أعيننا المذهولة عالمَ النبات والحيوان لنكتشف أن كل الكائنات -بغرابتها وإعجازها وذكائها الخارق- هي الأخرى من عجائب الخالق. كم كنا سجناء رُؤًى سطحية ساذجة وغبية جعلت الذكاء واللغة والعواطف حكرا على الإنسان؛ فمن أين لك -بعد صدمة الوعي- أن تواصل الانخراط في أسطورة أن الإنسان هو مقياس كل شيء؟
نحن نفهم -بطريقة متزايدة- ارتباط كل الحقوق والواجبات ببعضها، ليس فقط داخل الأسرة البشرية وإنما أيضا داخل كل النسيج الذي تشكّله مختلف الأجناس الحية. وهكذا لا يؤدي ازدراء حقوق الإنسان من قِبل الإنسان إلى أعمال همجية آذت الإنسان فحسب، وإنما أدى ازدراء حقوق الكائنات الأخرى إلى أعمال همجية منها تدمير البيئة، ونحن بذلك كمن ينشر الغصن الذي هو جالس فوقه.
لذلك على الأجيال المقبلة من الحقوقيين إضافة البند الواحد والثلاثين للإعلان بالصيغة التي يتم الاتفاق عليها، لكن المهم أن تبلور الكلمات فكرة أساسية. وكما للإنسان الحق في بيئة سليمة تعافت من كل ما تعرضت له من انتهاكات في الماضي، لكل الكائنات الحية من حيوان ونبات الحق في الحياة وشروط العيش الكريم، وواجبُ الإنسان احترام هذه الحقوق وتجسيدها.
لا أظن -في ظل اختلافات البشر- أن الاتفاق يمكن أن يذهب لأبعد من هذا؛ لكن قناعتي أنه إن لم يفعّل مثل هذا البند فإن الطبيعة -التي لا تتحمل انخرام التوازنات- ستُعيد التوازنات، ولو اقتضى الأمر حذف البشرية من قائمة الأجناس التي تُؤويها هذه الأرض. وإن أردتَ تعبيرا دينيا لهذه القاعدة؛ فقل إن الله الذي استخلف الإنسان في الأرض أطلق -أمام عدم جدار الإنسان بالمسؤولية- يد الطبيعة لتعيد الأمور إلى نصابها وتحمي ملكوته. ألا يتطلب احتمال رهيب كهذا أن نراجع أنفسنا في النظرية وفي الممارسة قبل فوات الأوان؟


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق