الثلاثاء، 12 مايو 2020

حصار قطر بين اتصال ترامب ومروءة العرب

حصار قطر بين اتصال ترامب ومروءة العرب

 مهنا الحبيل
جرى حدث سياسي في الخليج العربي، وتحديداً شرق الأحساء، قرابة عام 1902 خلال تولي طالب النقيب متصرّفية الإحساء، وهذه حينها تمتد إلى شرق الجزيرة العربية، وتضم القسم الشمالي للخليج العربي من الساحل الغربي، ومن ضمنها إمارات خليجية، كانت تحت الصراع بين النفوذ الإنكليزي والسلطنة العثمانية، في أواخر عهدها، وكانت نجد في حينها تتبع قائم مقام الهفوف.
جاء النقيب، وهو شخصية عروبية عراقية متميزة، وأحد شخصيات الدولة العثمانية، لمحاولة تصحيح الأوضاع الأمنية المنهارة التي عاشها الإقليم والمنطقة أواخر عهد العثمانيين، وشُرّعت بعض القوانين المتصلة بتنظيم البيع بين حواضر الإحساء وبعض باديتها، تقضي بمنع بيع حصاد التمر إلى جهاتٍ كاملة من بادية الإحساء، متهم بعض أفرادها بالفوضى، لم تلتزم بها بلدة الطرف التي كانت تمثل توازنا بين مصالح الأهالي وحركة التنقل من ميناء العقير إلى مُدن هجر.
وكان التدهور الأمني يعود مجدّداً إلى الإقليم، بعد أن اتضح أن قدرات الدولة العثمانية تضعف، وتخوض تركيا القومية، في حينه، معركة صراع قوية مع الزحف الغربي على حدودها، فضلاً عن الصراع الداخلي للحركات القومية والكماليين مع أستانة، بعد أن فشلت جهود الإصلاحيين الدستوريين في إقناع السلاطين بإجراء إصلاحات دستورية، رجا العرب أن تُساهم في تحقيق  
بعض الانفراج والاستقرار في مناطقهم، وتحيي حركة العلوم والمعرفة، والتي كانت تعاني من ضعفها مناطق عربية عديدة، خصوصا مع بُعد المركز وأزماته الكبرى مع العرب والقوميات الأخرى، وهو المسرح الذي هيّأ للحملة الغربية على حاضر العالم الإسلامي، من خلال دورات الضعف والفوضى والغياب الدستوري والفساد والاستبداد. والتذكير هنا بإحدى الصفحات المهمة لفهم درس في ذكرى حصار قطر الرمضاني، ولنا رؤيتنا المبدئية التي تنطلق من موقف متوازن، يتعامل مع تاريخ الدولة العثمانية بما لها وعليها. وتؤمن أن علاقة العرب مع إخوانهم الأتراك تُبنى على أن مفهوم الأخوّة والتضامن في أمة الإسلام لا يقوم على تقديس أي قومية، وإنما في المبادئ الأخلاقية التي تحكم العرب والأتراك، ونصّت عليها الرسالة، وأن العدالة والإنصاف والحقوق هي المبادئ التي يُقاس بها تاريخ الأمم، وأن اختلاف الأقوام والطباع لا يمنع من قيام مصالح مشتركة وعلاقات وثيقة، تحفظ للأمتين مساراتٍ استراتيجيةً ترعى الشعوب، من دون مفاهيم التبعية.
ولكن، مع الأسف، المشروع الرسمي العربي لمحور أبو ظبي دمر فرص التعاون، ثم طغت العثمانية الجديدة في تركيا لتستبدل التعاون والتضامن المتوازن بروح التبعية، وهكذا اختلط الحابل بالنابل، بعد أن كسر المحور المذكور الميزان الذي يمكن أن يتفق عليه العرب، فيتعاملون مع الأتراك المسلمين وغيرهم، بمنظومة اتفاقياتٍ تفيد الجميع.
وبالطبع، كان حجم الفوضى، في مناطق الأطراف للدولة العثمانية، يتصاعد منذ نهاية القرن التاسع عشر، ودورات الحزم الأمني تعود إلى التصدع، فتعيش الأقاليم صراعاتٍ عدّة، ولذلك رأى أهل بلدتنا الطرف، في حينه، أن تبقى الطرف بوابة التعامل الأخوي مع بادية الأحساء واستمرار العلاقة، ففرضت الحامية التركية في الأحساء حصاراً على بلدة الطرف، في حينها كان الجد مهنا بن سعود السعود الحبيل في قطر، حيث يدخل بعض "غيصة" الأحساء  
(الغواصون) في موسم اللؤلؤ كل عام مع إخوانهم أهل قطر، ثم يعودون بعد الموسم إلى الأحساء، إذ كان بحر قطر مناسبا لرحلة البحث عن اللؤلؤ، وكذلك كان التسويق يتم له في قطر.
ضاق أهل الأحساء بالحصار، وعلى الرغم من تحصين سور الطرف، ووجود مصدر مياه ومدخل سرّي للتموين، إلا أن قدرات الطرف، بكل تأكيد، لم تكن لتصد الهجوم العسكري، وإن كانت روح الحصار تحفّز الناس على الصمود، بل والمواجهة دفاعاً عن أهليهم وكرامتهم، بعث حينها أمير الطرف، أحمد الصالح الحبيل، إلى الجد مهنا رسالة للقدوم للنجدة، وبعث شقيقه العم عبد الرحمن بخطة إلى الجد، وتوصية إلى تاجرين كريمين من أهل قطر، خصوصا أن للعم عبد الرحمن صلات أخوية مع عدد من رجالات قطر.
وصلت الرسالة إلى الجد، وفوراً استنهض أهلنا من بلدة الطرف للعودة، وبادروا إلى ذلك، وقصد التاجرين اللذين رحبا بالرسالة، واستأذنا حاكم قطر في حينه، الشيخ قاسم، فأذن لهما، فالأمر اليوم هو نجدة مظلوم، ولو كان هناك خلاف على سياسة محلية، فهذا لا يقتضي حصار أهل بلدة شقيقة لهم، وأمّنوا كل ما طلب الجد مهنّا، ولكن كانت هناك خطة مرتبة، تسعى إلى فك الحصار من دون اللجوء للمواجهة مع إخوانهم الأتراك، حماية للبلدة ودفعاً للحرب.
وصل الجد وأهل الطرف إلى الكثبان الرملية جنوبا. وبترتيب مسبق مع العم عبد الرحمن، أُشعلت النيران عند عتمة الليل، ودوّى إطلاق المقامع (سلاح ناري بدائي). وفي الوقت ذاته،  
أُطلقت من سيّالة قلب الطرف، وضربت طبول لعبة العرضة التي يُجيدها أهل الطرف، ورَقَصت السيوف. سمع ضابط الحامية التركية ذلك، وأبلغ السيد طالب الذي كان حريصاً على إنهاء الأزمة، وفوّض العم عبد اللطيف الحملي، قائم مقام الهفوف، لكي يدخل إلى الطرف وسيطاً. وبالفعل، انتهى الحصار باتفاق سلمي ورفع عن أهل الطرف بالأحساء، وقد كانت فزعة أهل قطر لهم قلب هذه النجدة التي حرّكتها مروءتهم، ولم يكن الحصار خُلقاً ممدوحأً، في خلافات سياسية، فضلاً عن أن يتم بين أقوام يتّحدون بجذورهم لهذه الأرض، وتربط شعوبهم رسالة دين وقيم عروبة، ومصالح مشتركة.
وكان الرأي السياسي دائماً يعرف أن الضغط على الناس، خصوصا في كرامتهم، لن يمنحه مدخلا للخضوع، فما بالك حين تحوّلت الأقوام إلى دول وقدراتٍ لا يُسقطها وهم الحصار، فما الذي يبقى من الدرس بدل انتظار اتصال الرئيس الأميركي، ترامب، وهل تعي الرياض الحفرة التي تُدفع فيها بحماقة حصار قطر قبل سقوط نجد؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق