أسس القيادة من قصة ذي القرنين (2)
فريد مناع
2014-04-01
استكمال ما تبقى من مهارات وأسس قيادية يحتاجها قائدنا المسلم وذلك من خلال قصة ذي القرنين..
إن القرآن الكريم مليء بالكنوز لمن تأمله وتمرس الغوص في معانيه، وهو كالبحر الزاخر بالياقوت كلما غصت في معانيه كلما ظفرت بالمعاني السامقة والمعارف العالية الرفيعة التي تنظم حياة العباد وتهديهم إلى الرشاد.
ما هي أهم المهارات التي ينبغي أن يحوزها القائد المسلم؟
لقد بينَّا في المقال السابق أسس القيادة من قصة ذي القرنين (1)كثيرًا من المهارات اللازمة للقائد المسلم والتي تؤهله للقيادة... وكانت هذه المهارات ثمرات غوصنا في قصة ذي القرنين محاولين استخراج ما في كتاب ربنا سبحانه من كنوز كثيرة ومعانٍ رائعة سامقة.
لقد تحدثنا فيما سبق عن:
- أمانة القائد.
- القائد ومنهج الثواب والعقاب.
- تحصيل الخبرة وامتلاك القدرة.
- القائد والثقة والمتبادلة.
- القائد المخطط.
كانت هذه أهم المحطات التي توقنا عندها في المقال السابق لبيان أهم المهارات اللازمة للقائد والمسلم، واليوم نستكمل ما تبقى من مهارات وأسس قيادية يحتاجها قائدنا المسلم، وهي:
القدرة على إدارة الاجتماعات:
لقد كان الشعب الذي ذهب إليه ذو القرنين خائفًا لا يكاد يفقه قولًا، إذ أنه يواجه عدوًا لا طاقة لأحد عليه، فهم في أزمة كبيرة، فكيف تمكن ذو القرنين من إدارة اجتماع لا نقول لشركة وإنما لشعب بأكمله يعيش أزمة خطيرة؟
- الإنصات أولًا:
لقد بدأ ذو القرنين اجتماعه معهم بالإنصات لهم والاستماع إليهم وهم يعرضون أزمتهم... فهم من تحدثوا أولًا، فقالوا يعرضون الأزمة: {قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَىٰ أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا} [الكهف:94].
- تصدير الثقة وتهدئة الموقف:
لقد كان الموقف في حاجة إلى من يحسن تهدئته ويبث الأمن في نفوس القوم ويصدر لهم الثقة في الله عز وجل أولًا ثم في إمكاناته التي وهبها الله إياه، فما كان من ذي القرنين إلا أن بدأ حديثه بالثناء على الله عز وجل وما منَّ عليه من إمكانيات كثيرة، فأشاع جوًا من الطمأنينة: {قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا} [الكهف:95].
- احترام وجهة النظر الأخرى:
لقد طرح القوم حلًا لأزمتهم، ومع ذلك فلم يقاطعم ذو القرنين أو يعترض عليهم، حتى وإن كان في الحل ما يثير حفيظته بقولهم له: {فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَىٰ أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا} [الكهف من الآية:94]. إنه الممكّن في الأرض، ذو الجاه والسلطان، وهاهم يشترطون عليه أن يدفعوا له نظير قيامه بعمل لهم، ورغم ذلك لم يستدع ثورته ولم ينفعل، ولكن بهدوء قال لهم: {مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ} [الكهف من الآية:95].
"ثم بدأ في جذب اهتمام الحضور واستثار عقولهم فهتف فيهم: {فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ} [الكهف من الآية:95].
القدرة على إيجاد حل لما يعرض عليه من مشاكل، واطلاع الحضور على المهمة المطلوب منهم تنفيذها: {فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا} [الكهف من الآية:95].
- إجادة التخاطب:
فالقوم لا يكادون يفقهون قولًا، وكان له في هذا عذر في عدم مساعدتهم، ولكن لا بد أنه اجتهد في الوصول إلى وسيلة للتخاطب معهم والتأثير فيهم ببلاغة منطقه وقوة حجته، مبينًا لهم ما سيكون لهم من ثمرة جهدهم ألا وهو صناعة أمنهم. وكان ذلك من خلال رسالة قوية وبليغة ومختصرة، جمع بها شتاتهم ليحوّلهم إلى قوة بشرية هائلة متحفزة، تنتظر الأوامر الصادرة لها لتعمل بجد خلف قيادة مؤمنة وحكيمة. تلك هي القيادة التحويلية التي تحول الجموع المتكاسلة إلى قوة بشرية هائلة تنفذ أكبر مشروع على الأرض" (مجلة حراء، [34]).
القدرة على اتخاذ القرارات:
فالقائد الماهر هو من يحسن اتخاذ القرارات في التوقيت المناسبة وبالكيفية الصحيحة، فتكون دائمًا قراراته محل ثقة وتقدير ممن يعملون معه، ولعل المنهجية التي اتخذها ذو القرنين في اتخاذ القرار كانت على النحو التالي:
- تحديد المشكلة.
- ثم، تجميع البيانات والمعلومات.
- ثم، الاختيار بين البدائل المتاحة.
- ثم، رسم الخطط التنفيذية للقرار الأمثل.
- ثم، صياغة القرار وإصداره.
- ثم، متابعة تنفيذ القرار.
ولنرى سويًا كيف قام ذو القرنين بذلك:
"- تحديد المشكلة: في حالتنا تلك هي إغارة يأجوج ومأجوج على القوم والإفساد فيهم، والقوم لا يملكون سبل استثمار طاقتهم البشرية وثرواتهم، كما ظهر من حديث القوم لذي القرنين.
- جمع البيانات حول المشكلة: وفي هذه القصة القرآنية الجليلة، نرى -والله أعلى وأعلم- أنها جاءت من مصدرين:
المصدر الأول: قد يكون عِلم ذي القرنين بإفساد يأجوج ومأجوج في هذه المنطقة قد جاءه من قبل الله عز وجل، وبكيفية لا نعلمها، فانطلق إليها.
المصدر الثاني: علمه بها جاء بمعاينته إفساد يأجوج ومأجوج عندما بلغ بين السدين أولًا، قبل أن يلتقي بالقوم دونهما.
المصدر الثالث: من القوم أنفسهم -كما ذكرنا آنفًا- وقولهم: {قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ} [الكهف من الآية:94].
- الحكمة في الاختيار بين البدائل المتاحة: إن أحسن البدائل في هذه الأزمة، هو إقامة مانع حصين بالموارد المتاحة، بين القوم وبين يأجوج ومأجوج.
- رسم خطط التنفيذ: وهذه لابد أن يكون لها تصور كامل في فكر القائد؛ كيف يخطط، وكيف تكون البداية، وكيف يستثمر كل الإمكانيات، وما هي معدلات الأداء المطلوبة لإنهاء العمل على الوجه الأكمل وفي الموعد المحدد.
- مرحلة صياغة القرارات وإصدارها: وهي القرارات التي أصدرها ذو القرنين، والتي جاءت بقوة على النحو التالي: {آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ}، {انفُخُوا}، {آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا} [الكهف من الآية:96].
- متابعة تنفيذ القرارات: فلقد كان ذو القرنين بينهم، يده بيدهم وهم يقيمون الردم، لهم مهام وله مهام ينفذها، وهو متواجد بينهم، ويتابع مراحل التنفيذ وهو بالقرب منهم. فالاتصالات الفعالة بين القائد والتابعين، من أساسيات إدارة الأزمات، فلا هناك وقت يضاع" (مجلة حراء، [34]).
إدارة الوقت:
إن "الذين ينظرون إلى الوقت بعين الاهتمام هم الذين يحققون إنجازات كثيرة في حياتهم الشخصية والمهنية، وهم الذين يعلمون أن الوقت قليل لتحقيق كل ما يريدون، وعلى العكس من ذلك فإن المرء الذي لا يهتم كثيرًا بالإنجازات ينظر إلى الوقت على أنه ذو قيمة قليلة" (إدارة الوقت، أبو شيخة، نادر أحمد، ص[46]).
يقول دراكر: "المديرين الفعّالين لا يبدئون بمباشرة مهماتهم، بل يبدئون بالنظر في وقتهم، وهم لا يبدؤون بمباشرة التخطيط، بل يبدئون بمعرفة فيم يُصرف وقتهم فعلًا، ثم إنهم يبذلون جهدهم للتقليل من الأعمال غير المثمرة التي تمثل عبئًا على وقتهم" (التنفيذ الفعال، دراكر، ص[26]).
والسياق القرآني الجليل في هذه القصة، يلفت أنظارنا إلى أهمية عامل الوقت والاستخدام الأمثل له، وذلك من خلال إشارات لطيفة في أثناء تنفيذ الردم. فبعد عرض فكرته عليهم بدأ في التنفيذ على الفور بقوله: {آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ} [الكهف من الآية:96]، فإذا انتهت مرحلة، بدأ بالمرحلة التي بعدها على الفور: {حَتَّىٰ إِذَا سَاوَىٰ بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا ۖ حَتَّىٰ إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا} [الكهف من الآية:96].
وبدراسة مراحل تنفيذ (مشروع الردم) الذي أقامه ذو القرنين بمعاونتهم له، نرى أن هناك عدة أنشطة قد بدأت معًا استثمارًا للوقت وعدم إضاعته؛ حتى إننا نستطيع أن نؤكد أن الشعب كله كان في حالة استنفار، وتوزعت المسئوليات وأدى جميع أفراد المجتمع دوره بإتقان وفي تسلسل متتابع لمراحل تنفيذ الردم.
القدرة على تكوين فِرَق العمل:
"القرآن الكريم أشار في هذه القصة الرائعة على أن هناك فِرَق عمل تكونت لتنفيذ هذا العمل المعجز، ولقد وزع ذو القرنين أدوارًا ومراحل للعمل عليهم ونسق بينهم. ولقد ظهر هذا جليًّا من الآيات الكريمة، فتكونت فِرَق العمل الآتية:
1- فريق لإحضار الحديد وتكوَّن فور قوله سبحانه وتعالى: {آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيد} [الكهف من الآية:96]، وما يستلزم هذه المهمة من التنقيب عن خام الحديد، والكشف عن مناجمه وإعداده على الصورة التي طلبها ذو القرنين، ونَقْله إليه عندما يطلبه.
2- فريق للتجهيزات والمعاونة، وهذا الفريق يتولى تعبيد الطرق وإعدادها من مواقع الحديد، ومواقع النحاس، وأفران صهره، حتى موقع الردم. كذا المعاونة فيما تستلزمه المساواة بين الصدفين، والذي يتولاه ذو القرنين.
3- فريق لإيقاد النيران، وهذا الفريق يتولى إعداد مواد وخامات الاشتعال، كذا أدوات النفخ والبدء في النفخ لإشعال النيران عندما يطلب ذلك ذو القرنين في الوقت المحدد.
4- فريق لإعداد النحاس المذاب، وهذا الفريق يتولى اكتشاف خام النحاس، ونقله إلى أفران صهره، والتي يقيمونها، ثم صهر النحاس ونقله إلى موقع الردم عندما يطلبه ذو القرنين. وهذا كله قد وضح من قول ذي القرنين إجمالًا، دون الدخول في هذه التفاصيل بقوله سبحانه وتعالى: {آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا} [الكهف من الآية:96].
هذه بعض الفرق التي نستطيع أن نجزم أن هذا العمل قد تطلبها -وأكثر من تصورنا هذا قد حدث- لما يتطلبه هذا العمل الضخم من فرق لتنفيذه، حتى إننا نتخيل أنه لا بد أن الشعب كله قد عمل فيه، وذلك للحاجة إلى كثير من الأيدي العاملة لتنفيذه. ولا نستطيع أن نتخيل كيف شرح ذو القرنين وبيّن لكل فريق عمله وواجباته وأن يؤدي كل فريق عمله على أكمل وأتم وجه.
ولا ننسى أن القوم لا يكادون يفقهون قولًا، وكيف تابع ذو القرنين المراحل البعيدة عن موقع الردم عندما كان يساوي بين الصدفين وهناك من يعمل بعيدًا عنه في الكشف عن عنصري الحديد والنحاس وتصنيعهما، ونقل الكميات المطلوبة منهما، كذا خامات ومواد الاشتعال... وكان لا بد لهذه الفِرَق أن تتولى إدارة أنفسهم بأنفسهم.
وكأن بذي القرنين قد فوض بعضًا من مهامه الإشرافية لأفراد من الشعب. وهذا ما نطلق عليه في إدارة الأعمال (التفويض)، ولقد نجحوا في هذا. وتلك ما تنادي به النظريات الحديثة في (القيادة)، و(إدارة الأعمال)" (مجلة حراء، [35]).
القائد متواضع:
القادة يجب أن يعظموا أهداف المنظمة، وينكروا ذاتهم في سبيل الجماعة لينالوا ثقة الآخرين واحترام مرؤوسيهم لهم. ولقد ضرب لنا ذو القرنين المثل الأعلى في هذا بقوله: {قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا} [الكهف:95].
"فذو القرنين لا يُذكر لأنه ملك، ولكن يذكر لأعماله الصالحة. وحين يعرض عليه القوم الذين وجدهم بين السدين أن يبني لهم سدًا يحميهم من يأجوج ومأجوج في مقابل أن يعطوه مالًا، فإنه يرد عليهم ما عرضوه من المال، لأن تمكين الله له خير من أموالهم {قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ} [الكهف من الآية:95]. وحين يتم السد يرد الأمر لله لا لقوته البشرية {قَالَ هَـٰذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي ۖ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ ۖ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا} [الكهف:98]" (في ظلال القرآن، سيد قطب، [4/ 2258]).
وكأنى به يقول لهم: لم آت إليكم من أجل المغنم، ولكن جئت من أجلكم متطوعًا، أطلب العون منكم بقوة، ساعدوني لأجعل بينكم وبينهم ردمًا، يحميكم ويحمي ذرياتكم من بعدكم. ثم انظر إلى تواضعه الجمّ؛ وبعد أن أتم العمل الخالد والمعجز، رد الأمر إلى الله سبحانه وتعالى: {قَالَ هَـٰذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي ۖ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ ۖ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا} [الكهف:98]، إنه الممكّن في الأرض، يطلب العون ليبني الردم، وينصهر معه الشعب، ثم لا يغتر بعمله تواضعًا لله عز وجل.
فريد مناع
________
أهم المصادر:
- إدارة الوقت، أبو شيخة نادر أحمد.
- في ظلال القرآن، سيد قطب.
- مجلة حراء.
المصدر: مفكرة الإسلام
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق