حين يترك الثوار مواقعهم وينزلُوا عن الجبل
في غزوة أحُد، كان تركُ الرماة مواقعهم نقطةً فاصلةً في تغيّر مسار المعركة، وقلب المعادلة لصالح العدوّ.
وقد تركَ الرّماةُ مواقعهم مستعجلين الغنائم قبل تمام المعركة وقبل أن ينجلي غبارُها، فما ربحوا الغنائم، ثمّ تسبّبوا في خسارةِ الجميع للمعركة، وكلّفوا المسلمين استشهاد سبعين من خيرة رجالهم يشكّلون عشرةً في المئة من مجموع الجيش وهي نسبةٌ عاليةٌ جدّا.
في أيّ معركةٍ أو ثورةٍ أو قضيّةٍ يتركُ فيها الرّماةُ مواقعهم، ويُلقونَ قسيّهم وسهامهم وسيوفهم وسلاحهم، وينزلون عن جبلِ المواجهة، مستعجلينَ الغنيمةَ والمكاسبَ والمناصبَ قبلَ إتمام النّصر الذي يغريهم ظهورُ بوادره ولمعان بريقه من بعيد؛ فإنّهم يفتحون الباب لعدوّهم على مصراعيه للالتفاف عليهم، وإيقاع الهزيمة بهم وبثورتهم وقضيّتهم، ولن يغنيَ عنهم وجودُ المخلصينَ في صفوفهم شيئا، فتلكَ سنّةُ الله التي خلَت في قومٍ معهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فما بالك بمن هم دونه؟! "سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا"
وهمُ "ما بعد الثّورة" والتَّصارع على الفردوس المفقود
منذ بداية الربيع العربيّ، وبعد النّصر الظاهريّ السّهل للثّورة التونسيّة وامتداد شرارة الثّورات في البلاد المختلفة؛ سيطرت على كثير من العاملين فيها فكرةُ ما بعد الثّورة.
ففي الثّورة السّورية على سبيل المثال؛ تعاملت المعارضة السّياسية والعسكريّة منذ أشهر الثّورة الأولى مع النّظام على أنّ سقوطه أمرٌ محسومٌ لا يحتاج إلى كثير تفكير، فتقاتلوا وتصارعوا ـ وهم يشكّلون مؤسساتهم السّياسيّة وكياناتهم الثّوريّة ـ على سوريّا ما بعد سقوط النّظام، من حيثُ شكلُ نظام الحكم وتوزيعُ الحقائب الوزاريّة والتّحالفات الدّوليّة المستقبليّة، ولم يتعاملوا فيما بينهم أو مع الناس في ميادين المواجهة، أو مع الدول المختلفة بمنطق الثّورة التي يمثّلونها، بل تعاملوا بمنطق الدّولة التي لا يملكونها، وفرق كبيرٌ بين المنطقين، وفي لقاءاتهم السّياسية والشّعبية كانت المساحةُ الأكبرُ من حديثهم وبحثهم ترتكز على سوريا بعد الثورة؛ كيف سيحكمونها ويديرونها، وما هو مصير الأقليات فيها، وصورة المحاصصة السّياسيّة والطائفيّة والمناطقيّة، وغرقُوا وأغرقوا النّاس في سمن الحرية وعسل الكرامة، متغافلين عن أنّ السّمنَ لميزل لبناً في ضرع لم يحتلبوه، والعسلَ ما يزل مخبوءًا في الخليّة التي لم يذوقوا بعدُ غير لسع زنابيرها.
وحتّى في المنطق التّنظيري الذي يتجلّى في المؤتمرات الكثيرة لمؤسّسات الثورة السّياسية والمدنيّة، شهدت العواصم المختلفة مؤتمراتٍ باحثةً في العدالة الانتقاليّة، وشكل القوانين النّاظمة لدولة ما بعد سقوط النّظام، ومحاسبة المجرمين ومصير بشّار وعائلته، واستغرق القوم جهدهم في التّصارع عند الدّول على من سيكون في مؤسسة القرار في سوريا المستقبل، لكنّهم في معمعةِ البحث عن مستقبلهم الغيبيّ أفلتُوا حاضرَهم المشهود، فما بحثوا في الثّورة وما يجتاحها من مكائد، ولا في الثّوار وما يحتاجونه في طريق البناء والاستمرار الثّوريّ، ولا في الواجبات العمليّة لبناء الثّائر وتجذيرِ الثّورة وتعميمها، ولا في آليّات الانتقال من أبراج السّياسة إلى خنادق السّياسة الثّوريّة، ونسَوا في زحمة بحثهم عن الإجابة عن سؤال: ماذا بعدَ أن تنتصر الثّورة ويسقطَ النّظام؟ وأن يجيبوا عن السؤال الأهمّ والأكبر: كيفَ تنتصرُ الثّورة وكيفَ يسقطُ النّظام؟!
ولئن كان هذا هو حالَ المكوّنات السّياسيّة والمدنيّة، فإنّ الفصائل العسكريّة المقاتلة لم تكن أحسن حالا. فقد أغرقت النّاس في المناطق التي تحكمها في وهم النّصر وغرور السّلاح، وأنَّ دولة الإسلام والعدل قاب قوسين أو أدنى، بل غدت تتعامل في المناطق التي تحكمها بناءً على الشكل الذي تراه للدّولة المُتخيّلَة بعد سقوط النّظام، وعاشت نشوة السّيادة، ووهم التّمكين، وتصارعت وتقاتلت على النّفوذ وبسط السّيطرة، لتكتشف أنَّها كانت غارقة في سراب، وخدعت نفسَها قبل أن تخدع الشَّعب الذي أسلَمته للتّهجير المُذلّ أو لتحكُّم النّظام في رقاب من رفضوا التهجير وتشبّثوا بأرضهم الثّكلى.
الإشغالُ العبثيّ
إنّ العملَ الثّوريّ لمرحلة ما بعدَ سقوط النّظام وزوال العدوّ ـ والنظامُ والعدوّ قائمٌ يمارس افتراسه وتوحّشه ومجازره ـ هو وهمُ ثورة، وهو نزولٌ عن جبل الرّماة يكلّف الكثير من الدّماء والانتكاسات والهزائم، وهو إشغالٌ عبثيّ للمؤسّسات وللثوّار وللعاملين عن مهمّتهم الأساسيّة في الثّورة؛ وهي إسقاط النّظام وتغييرُ الواقع ودحر العدوان، وذلك بالقفز غير المدروس إلى مستقبلٍ موهوم، وبالتّالي دفعهم للتّنافس على الغنائم السّرابيّة، والتّقاتل على مناصب خدّاعة ظنّوها ستكون لهم بعد انتصار ثورتهم التي ذبحها الكثيرون منهم بصَغَارِ نفوسهم وقلّة عقولهم وذواتهم المتضخّمة، وانتصارِهم لنفوسهم تحت ستار الانتصار للحقّ والثّورة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق