المعيار الأخلاقي ومشروع الفتنة الصهيوني
كان هناك إرثٌ واسع وعميق في الخليج العربي لفلسطين قبل مظاهرة الظهران التي اعتقلتُ بسببها أمام القنصلية الأميركية عام 2002، وكانت أول عودة بَعثَت نشاط الحركة الوطنية لإقليم الأحساء (يسمّى الشرقية)، بعد أن استوعب الحكم السعودي حراك العمال واحتجاجهم لمطالبهم الحقوقية للشعب، أو التضامنية مع فلسطين وحقها المغتصب، وكان مركز نشاطهم هو الظهران، عاصمة النفط في الإقليم ورسالته إلى العالم.
ولذلك كان قرار اختيار الظهران مهما جداً لمركزيتها، وكان الهدف تحقيق خطوة ضغط ورسالة تضامن شعبي، تخفف، في ذلك الحين، صلف التوجه الأميركي إلى دعم تل أبيب، وقد تزامنت المظاهرة مع حصار مخيم جنين، فكان التفكير ينصبّ على أن رسالة الحركة الوطنية في الأحساء التي حظيت بتجاوب شعبي واسع ومذهل من كل مناطق السعودية، وكنتُ أشاهد حشود المتظاهرين تتقاطر على مد البصر، في الاتجاهات الثلاثة، الدوحة – الخبر- الظهران القديمة.
وقد شكلوا سريعاً طوق حماية لي منذ إطلاق إشارة المظاهرة بعلم فلسطين، ساعدنا في تحقيق رسالتنا التضامنية، والتي كنا نعلم الواقع السياسي الذي سيطوّقها، ولكن حين اعتقالي في الشارع المؤدي إلى بوابة جامعة البترول، كانت المظاهرة قد أنجزت مهمتها، ووصل صداها عالمياً.
استطردتُ في هذه المقدمة وهي من صفحات مذكراتي، لسبب مهم نعيشه اليوم، وهو مشروع
ثقافي ضخم مدعوم لتطبيع الصهيونية، يقوم على تفجير العلاقة بين الشعب العربي في الخليج العربي عموماً، والسعوديين خصوصاً، مع القضية الفلسطينية التي كان لها حضورٌ ضخم وتضحيات في تاريخ المناضلين، وخصوصا من جمعتهم أسوار شراكة أرامكو وجوهانسبرغ السعودية، فكان نضالهم مزدوجا، يتعلق بحقوق العمال والأهالي في الثروة النفطية، واستثمار القدرة الاقتصادية لصالح القضايا العربية، من دون أن تنعزل المصلحة الوطنية عن مصالحها في السوق، وفرص تنمية وطنها.
وبالطبع، لا تُمثل مظاهرة الظهران إلا صفحة واحدة من تاريخ ذلك التضامن، ومن المؤسف اليوم أن مشروع تطبيع الصهيونية، بثنائيته، كراهية الفلسطينيين ومدح الفكرة والمشروع الصهيوني الإسرائيلي ذاته وتسويقه، نجح في تثبيت أخطر مركز لصالح هذا المشروع، وهو إيجاد جدار عنصري حاد بين الشعوب، وعلى الرغم من إيماننا بأن جذوات هذه الكراهية واهية الجذور. فنؤكد هنا إمكانية جمع أركان الشعوب العربية على ميثاق التضامن من جديد، والذي يجمعهم على مبادئهم، ويُذكّرهم بأن العرب، وليس أهل فلسطين فقط، هم ضحية هذا المشروع بشقه الإمبريالي، وبفرعه الصهيوني، وأن القدس مركز إشعاع إيماني ومبدئي فوق الجنسيات. إلا أن رسائل الكراهية بين الشعب العربي والخليج وبعض الشعوب بدأت بالفعل تهدّد ميثاق الأخوّة، وهو ما نرصده في بلدان الشرق وبلدان المهجر. وهي قضية نحتاج في العمل على معالجتها، أو التخفيف من آثارها، إلى منظومةٍ أخلاقية تُحفز الشعوب العربية، بالمرجع الإسلامي والكرامة العربية المشتركة، التي تقوم على محور احترام الإنسان، أياً كانت جغرافيته، وتاريخه الاجتماعي، وأن الحدود السياسية ليست مبرّراً، للإساءة ولا التحريض ولا الظلم، ولا التنابز ولا الحسد والحقد، لكنه مشوارٌ طويلٌ لم نبدأ فيه بعد خطوة الألف ميل.
والخطورة هنا أن ثقافة الكراهية التي تُحرّك بصورة ممنهجة، ويُستقطب لها بعض السوقة أو الغاضبين من الطرفين، فضلاً عن أجهزة المخابرات، تُستخدم اليوم كبرنامج عمل، لصناعة أرضيات تفرقةٍ وانقساماتٍ خطيرةٍ في أقطار الوطن العربي، بل في كل قطر، ليتحوّل العرب إلى ثقافة توحش تتصارع على هدم ذاتها، ويسوّق هنا مشروع إسرائيل الكبير، الذي يروّج أكذوبته الكبرى بأنه يخدم الشعب أ أو ب في اقتصاده، فالمشروع الصهيوني وليد الرأسمالية المتوحشة، التي عزّزت سلطات المستبدين، وحرمت الشعوب من كل خير في أرضها، ثم استغلت فوضى العمالة والمشاريع الوهمية، أو التي جُيرت لتجار الفساد والإقامات، لتستقطب من خارج الحدود أو من داخلها شركاء ثروة إقطاعيين، في حين تُضرم نار الصراعات بين الشعوب المحرومة من حقوقها والوافدين من أشقائهم العرب، لتحصيل لقمة العيش الشريفة، مقابل عطائهم المتقن بين شعبهم العربي المضيف.
وهكذا اتحدت مصالح الأنظمة والفاسدين داخل الخليج مع شخصيات إقطاعية أو فاسدة من هذا البلد العربي من فلسطين المحتلة أو غيرها، فتُحصد أموال الناس، وتصبّ الأحقاد على الشعب العربي، أو على العامل أو الموظف أو المهني، الذي شارك الشعب العربي في الخليج حركة حياته وتنمية أرضه، فتوطّن الكراهية بين الأبرياء والضحايا، باسم صفقات السوء التي أنتجها فساد الأنظمة أو قصور إدارتها، تحت غياب المشاركة الشعبية التي تراقب لصالح هذا الوطن. والتي لو ترك لها المسار الانتخابي، وعُزّزت قيم الشفافية والرقابة، لوجدت ثروة استثمار
كبرى بين الشعوب العربية، في ثنائية الموارد الطبيعية، والقدرات البشرية، وحققت لمواطنيها أيضاً فرص الوظيفة والتطور الذي يخدم البلد والفرد الصالح الذي ينهض لمصالح شعبه.
الموجة الإعلامية اليوم لتطبيع الصهيونية جاءت بعد تجريف الأرض العربية، وزراعة مواسم كراهية وأحقاد، لتبرّر التحول الرسمي المتسارع، لعلاقة استراتيجية أوسع وأقوى مع تل أبيب، واستدعاء الجانب الإنساني في التعامل مع أتباع الديانة اليهودية ليس هدفاً ذاتياً لنزعة مشاعر إنسانية، هبطت فجأة على الحكومات، فيكفي أن نعرف الواقع الإنساني لشعوبهم، وكيف استخدم الصراع الطائفي لأجل تمكين مشروعهم الأمني، أو التعاطي مع حرية التعبير الثقافي، حين تكون لصالح حركة الفكر المستقل، أو التكريس الحقوقي، وما مصير هذه الأصوات، فالموقف من الإنسان اليهودي الذي سُحق حقه في الحياة في الهولوكوست الإرهابي الغربي المسيحي هو ضمن الأخلاقيات الإنسانية الواجبة، والشراكة في مضمار الحياة والمواطنة. ولكن المشروع اليوم في التطبيع مع مشروع الإبادة، وترحيل الشعوب الأصلية من أرضها، لأجل صفقات المال الفاسد وتمكين الاستبداد الذي تؤمن به الصهيونية لتثبيتها على الأرض العربية، وكفى بسورية مثلاً!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق