الأربعاء، 27 مايو 2020

ما لا تعرفه عن محاكم التفتيش

ما لا تعرفه عن محاكم التفتيش

إني أشهدكم أني لن أشهد هذا اليوم وأقل ما نفعله هو أن نموت في سبيل الله إن كنا نؤمن به، وإن كان الإسلام قد ذهب من نفوسكم وأنتم قادة الشعب، أفلا تقاتلون عن نسائكم وأموالكم وبلادكم؟! سوف يأتي عليكم يوم تبحثون فيه عن الموت الشريف فلا تجدون وقته، لا تخدعوا أنفسكم، ولا تظنوا أن النصارى سيوفون بعهدهم، ولا تركنوا إلى شهامة مَلِكِهم؛ إن الموت أقل ما نخشى.

يُريد أن هناك ما هو أصعب من الموت؛ فأمامنا نهب مدننا وتدميرها، وتدنيس مساجدنا، وتخريب بيوتنا، وهتك نسائنا وبناتنا، وأمامنا الجور الفاحش والتعصب الوحشي، والسياط والأغلال، وأمامنا السجون والأنطاع والمحارق، هذا ما سوف نعاني من مصائب وعسف، وهذا ما سوف تراه على الأقل تلك النفوس الوضيعة، التي تخشى الآن الموت الشريف، أما أنا فوالله! لن أراها.

كان هذا موسي بن أبي الغسان سنة “1491” عندما اشتد الحصار علي غرناطة واجتمع أبو عبد الله بقادته ومن بينهم موسي وسألهم عما يمكن فعله الآن؟! ووافق الجميع علي التسليم إلا ذلك البطل، الذي بناه الإسلام فعارض أية مبادرة للتسليم والاستسلام.

لقد فقد المسلمون روح الفروسية واستناموا للعبث؛ إنهم حريصون علي الحيـاة، وأي حياة تلك؟! لكنه حب الدُنيا، ذلك المرض القاتل الذي حذرنا منه رسول الله-صلى الله عليه وسلم-. إن هذا الرجل العظيم الذي رفض وحده تسليم غرناطة للقشتالين (موسي بن أبي الغسـان)، مات مجاهدًا ومعه قلة قليلة ليلة تسليم غرناطة فلم يشهد هذا العار. وسُلِمت المدينة للملكين إيزابيلا وفرناندو وأقيم القداس النصراني في الجامع الأعظم الذي تحول منذ ذلك اليوم إلي كنيسة، ووقعت المعاهدة  التي سطرها  القشتاليون و دفعوا الرشاوي الضخمة لإمضائهـا، وتم تسليم غرناطة عام 1941م.

بنود المعاهدة


الشروط التي كُتبت ووضعها القشتاليون و الوعود الكاذبة تلك، كانت أغلب نصوص المعاهدة تهتم بالإسلام والمسلمين واحترامهم واحترام شعائرهم، وتعهد ملكي قشتالة بشرفهما الملكي بالوفاء بالمعاهدة! كما كانت مليئة بالبنود المهينة، التي تضمن كل القوة للقشتالين، ولا تضمن شيئًا للمسلمين، اللهم إلا أن يظلوا مسلمين.

ومن بنود المعاهدة
تعهدت السلطات الإسبانية باحترام عقائد المسلمين.
لا يُسمح لأي نصراني بدخول المساجد أو أماكن عبادة المسلمين دون إذن من الفقهاء، ومن يفعل ذلك يُعاقب.
لا يجوز إرغام مسلم أو مسلمة علي اعتناق النصرانية.
يجب أن يقضى في أية دعوى أو مشكلةٍ تقع بين المسلمين وفقًا لأحكام الشريعة الإسلامية، إلا أن عليهم الخضوع للحكم السياسي للنصارى!
لا شيء يحدث اعتباطًا، كل شيء بقدر الله، واختياراتنا جزء من قدر الله عز وجل، وإنما يجري كل شيء في حياتنا وفق سنة الله التي لا تتبدل ولا تتخلف ولا تحابي أحدًا لكونه من ذريةِ قومٍ صالحين!

    فلن تجد لسنة الله تبديلًا ولن تجد لسنة الله تحويلًا        
ومن سنن الله أنه لا يغير نعمة أنعمها علي قومٍ حتي يغيروا ما بأنفسهم، كأن ينحرفوا عن الطريق مثلًا. عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول:

  “إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع       وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلًا لا ينزعه حتي ترجعوا إلى دينكم”.                                                          

درس قاسٍ ومحنة أقسى
أما آن لنا أن نتعلم؟! لقد فهمها موسي بن أبي غسان رحمه الله جليةً واضحةً حين قال:

لا تخدعوا أنفسكم، ولا تظنوا أن النصارى سيوفون        بعهدهم، ولا تركنوا إلى شهامة مَلِكِهم؛ إن الموت أقل ما   نخشى.                                                            

وقد أخبرنا الله من قبل أن مثل هؤلاء لا عهد لهم ولا ذمة، بل لم يجز الإسلام أن يتولى أمرك كافر حتى لو توفر فيه كل الشروط الأُخرى. أي معاهدة تلك وأي سلامٍ مزعوم هذا؟! وأنت مكللٌ بالخزي وملطخٌ بالعار، وليس في يديك قوة، بل ليس في يديك شيء أصلًا فقد ارتضيت الذلة والهوان، فأي سلامٍ تنتظر؟! أما آن لنا أن نعي أنه لا مجال للتعايش، وأن سنة الله في الكون هي التدافع! وهذا حال المعاهدات دائمًا وأبدًا، حكامنا يسلمون أراضينا، من أجل السلام والرخاء. ثم، لا سلام، ولا رخاء، بل مزيدًا من الشقاء، والتبعية. وما معاهدة كامب ديفيد عنا ببعيد، بل إنا نتجرع مُر السلام هذا كل آن.

وبدأت المحنة الحقيقية
وبدأت أعوام من الذل والمهانة والإبادة! لكن أين كان العالم الإسلامي من هذا؟! كانت هذه المحنة أيام “بايزيد الثاني” السلطان العثماني، فاتفق هو و”قايتباي” سلطان مصر في ذلك الوقت علي مساعدتهم، وبينما التجهيزات مستمرة لتنفيذ الخطة شُغل بايزيد الثاني في فتنة قامت بين أولاده “كركود” و “أحمد” و “سليم”. وأما “قايتباي” فقد أرسل له فريناند وإيزابيلا سفيرًا يُسمي السنيور “بطره مارتير” فراح يقنع قايتباي بالعدول عن إرسال جيشه ونجح في مسعاه !

ثلاث خيارات أمام الأندلسيين

غادر الأندلس كثير من العلماء فلم تعد أرضًا للإسلام ولم يعد بها أمان ثم بدأ الضغط علي من لم يهاجر فأصبح أمامهم ثلاث خيارات:
  • التنصر

وفي هذه الحالة يكون مواطنًا من الدرجة الثانية.
  • المحاكمة والتعذيب والإهانة والقتل

ولقد أتوا ما أتوا باسم المسيح عليه السلام وهو منهم ومن إفكهم بريء. أصدر فيرناند سنة 1499 بيانًا بإغلاق المساجد وحظر إقامة شعائر المسلمين، وفي هذا العام أيضًا صدر أمر بإقامة محاكم التفتيش في غرناطة، وأصدرت إيزابيلا تأمر باعتناق المسيحية أو مغادرة البلاد والتخلي عن أطفالهم . ثم صدر بعد ذلك قانون عجيب في زمن فيليب الثاني يحظر علي المسلمين الاغتسال وتم هدم الحمامات العامة في المدن وهدم حمامات غرناطة، وأصبح الاغتسال أو وجود أي أثر للاغتسال أمرٌ يدعو إلي التعذيب والقتل! ثم أُصدر قانون بمنع الزي العربي ومن يرتدي زيًا عربيًا أو إسلاميًا يقتل لمخالفته لقانون البلاد الملكي!

إنها إبادة لهوية أمة… محاكم التفتيش

وبالرغم من كل هذه القوانين، فشلوا في القضاء علي المسلمين وفي طردهم جميعًا من بلادهم فجن جنونهم، وازداد توحشهم، وأُنشِئت هيئات كنسية وحكومية للكشف عن المسلمين الذين يخفون إسلامهم ويظهرون خلاف ذلك. وكان يكفي لإدانة أي إنسان مجرد الاشتباه به دون وجود تهمة حقيقية أو شواهد! وكانوا يقبلون شهادة الأطفال والخدم والمجانين والعبيد والسكارى. كان الطرد والحرق والتعذيب والإهانة هو وسيلة تلك المحاكم لإخراج الناس من عقيدتهم. ورغم ذلك ظل الإيمان موجودًا في الصدور.


لقد شهدت الكتب التعليمية التي يتوارثها الأندلسيون سرًا لتعليم أبنائهم الإسلام بالتطور المنحدر في اللغة العربية، ولربما تحتفظ العائلة بكتاب واحد تجمع فيه التعاليم، ثم يضيف الجيل اللاحق إلى السابق، وهنا يظهر كيف ينحدر مستوى اللغة، ومستوى الخط العربي من جيل إلى جيل، ثم لم تأت سنة ،1540 إلا وكانت قشتالة وطليطلة خاليتين تمامًا ممن يعرف اللغة العربية. ومما قد يخفي علي الكثيرين أن محاكم التفتيش لم تقم ضد المسلمين فقط، بل كانت ضد اليهود وبعض المسيحين أيضًا وكل من يثبت عليه بدليل أو بدون دليل أنه هرطوقي “يتبع غير دين المسيحية”.

محاولات التنصير أو القتل
الشيخ الصقري، أراد منه الكاردينال أن يصدر فتوي بجواز ترك الإسلام إلي المسيحية مقابل مال وفير، وقال: ستري كيف يكون كرم الكنيسة معك! فقال:

هذه الفتوي لا تصدر مني أبدًا حتي لو أعطيتني كل ما في خزائن الملكين الكاثوليكيين.                                     

فقال الكاردينال: خذوا هذا الأحمق واضربوه مائة سوط ثم سلوه الإيمان بالمسيح فان لم يفعل فكرروا. وقال للجموع الغاضبة عندما طالبت بهذا الشيخ: لقد قتلناه، رفض الإيمان بالمسيح فليذهب إلى الجحيم.

مشاهد من محاكم التفتيش
كان موكب الاوتو دافي يمر بشوارع المدينة-كل المدينة-بين الحين و الآخر. وكان هذا الموكب مشهورًا في تلك الأيام فهو موكب الإحراق. فهم يقودون المحكوم عليهم بالموت حرقًا عبر الطرقات حتي الساحة التي يتلون فيها حكم المحكمة، ثم يتم تحريقهم وسط ضجيج المتفرجين. وكانوا يأتون بأهل المحكوم عليهم ليشاهدوا، ويطمئنهم الحبر الأعظم الذي يُشرف على تنفيذ عملية الحرق وهو يبتسم لهم في وداعة و طيبة و إيمان، كل هذا من أجل خلاص روحه، يجب أن تسعدوا وتفرحوا لا أن تبكوا و تحزنوا! النار تطهره وحسنة لكل من يشعله، هيا تقدموا و افعلوا.


وكانوا أحيانا يرغمون الأهل ع فعل ذلك. وكان الإحراق بطيئا حتي لا يتم الموت بسرعة، فتأخذ الروح فرصة للتطهر والسمو؛ فالألم أعظم ما يتغلب به الإنسان على الشيطان. وكان الإحراق حتي لا يُراق الدم، فإراقة الدم في نظرهم حرام. هكذا كانوا يفعلون بالمسلمين، وكذا يُفعل بالمجرمين يوم القيامة. وكان فرناندو الخامس يقول للأحبار و الرهبان :

"أنتم تقدمون أعظم خدمة للمسيح و الكنيسة، و لترتح    ضمائركم الحية، فموت مائة بريء خير من نجاة مذنب واحد،. أجبروهم على الإيمان فهكذا تحدث الإنجيل!"    

وكانت من وسائل التعذيب: تقديم الطعام والشراب لهم في رمضان، والويل كل الويل لمن يرفض أو يتحجج، تقديم لحم ميتة لم تذبح.

ومن أسباب إدانة المتهمين: الامتناع عن أكل لحم الخنزير، وقول بسم الله، تسمية أولادهم بأسماء عربية.

ويذكر المؤرخ محمد إلهامي قصة مأساوية لامرأة أندلسية
ولدت ماريا لويز لعائلة أندلسية في قرية غرناطية، وعلمها أهلها الإسلام بعد الحادية عشرة كما كانت عادتهم، وذلك أن القساوسة كانوا يحاولون استدراج الأطفال لمعرفة إخلاص أهليهم فحملهم ذلك على تأخير تعليم الإسلام لأبنائهم حتى سنّ التمييز. 
وهكذا نشأت ماريا وتعلمت وفهمت وأخلصت للإسلام كما تعلمت كيف تخفي دينها وتراوغ في الاحتفاظ به. وحيث كانت ضمن قرية غرناطية فقد كانت الحياة هادئة، إلا في الأيام التي يفاجئهم فيها القساوسة.

وصارت تصلي في المساء وتصوم رمضان كغيرها من أهل القرية، إلا أن تطورًا مثيرًا حدث في حياتها لا نملك تفاصيله، إذ تزوجت في الرابعة عشرة من أحد “النبلاء” وأخذها معه إلى أمريكا، إلا أنها استمرت محتفظة بدينها حتى السابعة والعشرين، ولما طال عليها الأمد، وبلغت الخامسة والأربعين اعترفت للكاهن في جلسة الاعتراف بأنها كانت مسلمة وأنه لم يزل في نفسها بعض آثار من تعلقها به، وطالبت بأن تُحرق إن كان هذا يطهر روحها. إلا أنهم–ولأسباب اجتماعية سياسية-قرروا عليها غرامة بسيطة، إذ استوثقوا من صدق توبتها. فمن منا يرضى لبناته هذا المصير؟

"هذا المصير ليس مستحيلًا ولا بعيدًا، فقط لو استقر في  بلاد الإسلام نظام علماني استبدادي يُطارد الدين وأهله    وينشر الكفر ويعمل له."                                        

من ألوان التعذيب

تعذيب الماء
يتم توثيق المتهم في آلة شبيهة بالسلم ويخفض رأسه ويفتح فمه ويصب فيه الماء صبًا بكميات كبيرة وقد تنفجر معدته.

تعذيب التعليق
يوضع ذراع المتهم خلف ظهره ثم يعلق منها ويوضع ثقل من الحديد في جسده وقد تنخلع ذراعاه أحيانًا.

ألوان أخرى من العذاب

تعذيب الأسياخ المحمية في القدم وطحن العظام وتفسيخ الأرجل وخلع الفك وآلات لسل اللسان، ولتمزيق أثداء النساء، وسحبها من الصدور بواسطة كلاليب حديدية، ومجالد من الحديد الشائك لجلد المعذبين وهم عرايا حتي يتناثر اللحم من العظم، والكثير والكثير ولم يكن هناك حد معين للتعذيب! وانتهي الأمر عندما أصدر فيليب الثالث مرسومًا بنفي جميع المسلمين عام 1906 ولم يتم التنفيذ إلا عام 1915.

ختامـــا
"كنت أود أن أُنهي مقالتي بعبارة “ما أشبه الليلة              بالبارحة”، لكني أستميحكم عذرًا، نعم، بكل مرارة ما أشبه الليلة بالبارحة، مع فارق ضئيل، أن التعذيب اليوم يتم علي يدي من يدَّعون أنهم أبناء دينك!"                               

وكما ذكرنا سابقًا أن الله لا يغير ما بقوم حتي يغيروا ما بأنفسهم، وتلك من سننه سبحانه التي لا تتبدل فلنعمل جاهدين علي التغيير، الأمر ثقيل وكل المعالي ثقيلات، لكن الخطوات يسيرة إن شاء الله، الأمر كله جهاد، حتي لو كان دورك الآن هو جهاد نفسك، أو نشر الوعي بين الناس وفضح الظلم والفساد، فافعل والزم ثغرك ورسالتك.

إعداد: ليلى أحمد

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق