السبت، 30 مايو 2020

نصر من بين ركام الهزيمة(التدبير الإلهي في قلب الموازين)

نصر من بين ركام الهزيمة
(التدبير الإلهي في قلب الموازين)


يعيش المسلمون حالياً في واحدة من أحلك فترات تاريخهم؛ ففي هذا الزمن الذي توقفت فيه الحروب في غالبية البلدان، ماتزال نيرانها مستعرة في بلادهم. وفي الزمن الذي رُسمت فيه الحدود وتوقف الاحتلال، ماتزال كثير من أراضيهم محتلة، ليس بأطراف بلادهم البعيدة وحسب كتركستان الشرقية وغيرها، بل وفي قلب بلادهم؛ أولى قبلتيهم ومسرى نبيهم صلى الله عليه وسلم. وفي الزمن الذي تتكتل فيه الدول من قوميات ولغات مختلفة، متناسية خلافاتها، تتقسم وتتشرذم دولهم ذات نفس القومية واللغة، بالإضافة إلى الدين والتاريخ المشتركان، بل وتتراشق فيما بينها. وفي الزمن الذي يحل فيه للجميع كراهية الإسلام والمسلمين، والتحريض ضدهم وتحقيرهم في الفن والإعلام بل وأحياناً بالمقررات المدرسية، وممارسة التمييز والإرهاب بحقهم، وحتى تقتيلهم. يحرم عليهم الرد بالمثل، ويطالبون دون غيرهم بضبط النفس، بل وبالتبرؤ من جميع أشكال العنف والكراهية السابقة، بما فيها تلك التي توفرت لها أسباب مشروعة دولياً.
 وفي هذا الزمن نجد أن أكبر نسبة من القتلى، والمضطهدين والمهجرين في العالم هي من المسلمين. وأكبر نسبة من الشائعات والاتهامات في العالم موجهة ضد المسلمين، وأكبر نسبة من الأكاذيب والافتراءات هي بحق دينهم، وأكبر نسبة من التدليس والتزوير هي من نصيب تاريخهم.
جيوشهم لم تنتصر بمعركة منذ سنين بعيدة إلا على أبناء جلدتها. وعلماؤهم لم يجدوا الفرصة للنباغة والإبداع إلا عند أعدائهم. وأموالهم استثمرت في كل شيء إلا في اكتفائهم الذاتي واستغنائهم عن تكنولوجيا المتحكمين فيهم.
وقد استسلم معظم المسلمين لليأس؛ حتى صار أكثرهم تفاؤلاً لا يعول على نهوض الأمة قبل أقل من جيلين. وبلغت الانهزامية والانبطاح فينا مبلغاً تعالى فيه نعيق الداعون إلى استمراء الذل والهوان. وإلى الاعتراف بالأمر الواقع، والتكيف معه بدعوى استحالة تغيره، واستحالة عودة ماضينا التليد، بل وعدم الرغبة بعودته أصلاً، لمنافاته للأعراف العصرية التي أقرها أسيادنا الجدد. وتعالت أصوات على الضفة الأخرى تقرقع دون صحة أساس وتجعجع دون ذرة طحين. ووسط هذا كله ران صمت مطبق من الغالبية المغلوب على أمرها، التي أقرت بعدم استحقاقها النصر الإلهي وهي بهذا الضعف والهوان. ولكن غاب عنها أن عدم استحقاقها لا يعني عدم استحقاق الإسلام لنصر الله، وان كان أتباعه منهزمين.
كنت قد بدأت المقال بأن هذه الفترة هي من أحلك فترات تاريخ المسلمين، وهذا يعني أنه قد كان هناك فترة أحلك منها، وكان المسلمون آنذاك أكثر ضعفاً وهواناً، فكيف نصر الله دينه حينها رغم ذلك؟!
بدأ غزو التتار لبلاد الإسلام في بداية القرن الثالث عشر وتحديداً سنة 1219م فاجتاحوا كازاخستان ثم أوزبكستان ثم تركمنستان ثم أفغانستان ثم إيران ثم أذربيجان، حتى اقتربوا من العراق وكل هذا في سنة واحدة!
وبعد أن قضى التتار  على القوات الإسلامية هناك، مكثوا سنوات يرسخون حكمهم، دون أن تخرج عليهم ثورة إسلامية واحدة، ودون أن يتحرك لقتالهم جيش إسلامي واحد، مع أن جيوش المسلمين كانت تملأ المناطق المجاورة في العراق والشام ومصر والحجاز وغيرها!!
وقد بلغ من استسلام المسلمين وهوانهم في تلك الحقبة ما رواه ابن الأثير في (الكامل 10/494): "كان التتري يدخل القرية بمفرده، وبها الجمع الكثير من الناس فيبدأ بقتلهم واحدًا تلو الآخر، ولا يتجاسر أحد المسلمين أن يرفع يده نحو الفارس بهجوم أو بدفاع". وكتب أيضاً: "ولقد بلغني أن إنسانًا منهم أخذ رجلاً، ولم يكن مع التتري ما يقتله به، فقال له: ضع رأسك على الأرض ولا تبرح؛ فوضع رأسه على الأرض، ومضى التتريُّ فأحضر سيفًا وقتله به".
ثم ما لبث التتار أن دخلوا العراق حتى حاصروا بغداد عاصمة الخلافة العباسية، فخرج إليهم الخليفة مسالماً، بمشورة وزيره الشيعي "مؤيد الدين العلقمي"، فكان مصيره القتل رفساً بالأقدام امعاناً في إهانة مكانة الخلافة في نفوس المسلمين. ثم دمر التتار مكتبة بغداد، التي كانت أعظم مكتبة على وجه الأرض في ذلك الزمن، بما احتوت من عصارة فكر المسلمين لأكثر من ستمائة عام في مختلف العلوم والفنون والآداب، والتي القيت جميعها في نهر دجلة، حتى تحول لون مياهه إلى الأسود من أثر مداد الكتب.
وقبل أن تجف دماء المليون مسلم الذين قتلوا في بغداد، توافد معظم أمراء المسلمين من العراق والشام على زعيم التتار (هولاكو) ليقدموا له فروض الطاعة والولاء. ولكن هوانهم لم ينجهم من مصيرهم المحتوم، بل عجله عبر نقض العهود واستعداء بعضهم على بعض، حتى استطاع التتار خلال عامين إثنين فقط من احتلال بقية أراضي العراق، وكامل بلاد الشام، وأجزاء كبيرة من تركيا.
طوال هذه المدة لم يهزم التتار هزيمة حقيقية، وحتى فشلهم باحتلال مصر وخسارتهم فلسطين بسبب قوة إيمان الملك المظفر (سيف الدين قطز)، لم تؤثر على كونهم مايزالون يسيطرون على غالبية بلاد المسلمين. فكيف هزمهم المسلمون و استعادوا تلك الأراضي الشاسعة، وضموا للبلاد الإسلامية أراض التتار وكثير من الأراضي الأخرى التي احتلوها كما نرى في خارطة العالم الإسلامي؟!
في الحقيقة لم يفعلوا، فلم تكن لهم القوة الكافية لأقل من ذلك. فكيف حصل كل هذا إذن؟!
إن لله جنوداً لا يعلمهم إلا هو، ومن بين أولئك الجنود دعاة مغمورون، لا نكاد نعثر في التاريخ على اسم واحد منهم، ولكن أفضالهم لا تقل أهمية عن أفضال أي من الفاتحين المشهورين في التاريخ الإسلامي. وقد أبدى المؤرخ  (توماس أرنولد) استغرابه في هذا الصدد في كتابه المشهور Preaching of Islam "الدعوة إلى الإسلام" حيث قال: "… ولكن لم يكن لينهض الإسلام من تحت أنقاض عظمته الأولى، وأطلال مجده الخالد، كما استطاع بواسطة دعاته أن يجذب أولئك الفاتحين المتبربرين ويحملهم على اعتناقه، ويرجع الفضل في ذلك إلى نشاط الدعاة من المسلمين الذين كانوا يلاقون من الصعاب أشدها لمناهضة منافسيين قويين، كانا يحاولان إحراز قصب السبق في ذلك المضمار، وليس هناك في تاريخ العالم نظير لذلك المشهد الغريب، وتلك المعركة الحامية التي قامت بين البوذية والمسيحية والإسلام، كل ديانة تنافس الأخرى، لتكسب قلوب أولئك الفاتحين القساة، الذين داسوا بأقدامهم رقاب أهل تلك الديانات العظيمة ذات الدعاة والمبشرين في جميع الأقطار والأقاليم…". ثم توج ذلك النصر العجيب بإسلام أحد أكبر زعماء التتار، الذي كان ابن عم هولاكو مباشرة، وتسمَّى باسم (بركة)، ثم ما لبث أن تولى زعامة "القبيلة الذهبية" المسيطرة على بلاد القبجاق (أحد أكبر أقسام الامبراطورية التترية التي قسمت على أبناء جنكيز خان، وتقع في روسيا حالياً)، وأصبح اسمه (بركة خان). وبإسلامه دخل رعاياه في دين الله أفواجاً. وتدريجياً دخل الغزاة القاهرين في دين المقهورين، وذابوا في المجتمعات الإسلامية التي حكموها وأصبحوا من أهلها. وهكذا تم نصر الله لدينه بطريقة ما يزال يعجب منها كل دارس لتاريخ تلك الفترة.
ولكم أن تقارنوا بين حال المسلمين زمن الاحتلال التتري، الذي ظنه الكثيرون نهاية الإسلام، حتى كتب الكثير من علماء المسلمين ومؤرخيهم في تلك الحقبة يرثون العالم الإسلامي، وبين حالنا الآن، ليتلاشى اليأس من روح الله، ويحل محله التفاؤل وحسن الظن بالله. فحتى وإن ضعفت قوة المسلمين، فالله قادر أن يغير من حال إلى حال.
وقد حدثنا الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم  عن حقبة أخرى في آخر الزمان سيضعف فيها المسلمون عن مواجهة قوم تتضائل أمامهم قوة وبطش التتار والصليبيين والصهاينة، بل وقوة كل البشر مجتمعين: "...أَوْحَى اللَّهُ إِلَى عِيسَى : إِنِّي قَدْ أَخْرَجْتُ عِبَادًا لِي لَا يَدَانِ لِأَحَدٍ بِقِتَالِهِمْ ، فَحَرِّزْ عِبَادِي إِلَى الطُّورِ ، وَيَبْعَثُ اللَّهُ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ ، فَيَمُرُّ أَوَائِلُهُمْ عَلَى بُحَيْرَةِ طَبَرِيَّةَ فَيَشْرَبُونَ مَا فِيهَا ، وَيَمُرُّ آخِرُهُمْ فَيَقُولُونَ لَقَدْ كَانَ بِهَذِهِ مَرَّةً مَاءٌ ، وَيُحْصَرُ نَبِيُّ اللَّهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ حَتَّى يَكُونَ رَأْسُ الثَّوْرِ لِأَحَدِهِمْ خَيْرًا مِنْ مِائَةِ دِينَارٍ لِأَحَدِكُمْ الْيَوْمَ ، فَيَرْغَبُ نَبِيُّ اللَّهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ فَيُرْسِلُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ النَّغَفَ فِي رِقَابِهِمْ فَيُصْبِحُونَ فَرْسَى كَمَوْتِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ" رواه مسلم (2937) وكيف أن الله نصر دينه، وأباد أعداء المسلمين بواسطة أحد أضعف مخلوقاته؛ ألا وهو الدود.
وكما ترون، فنحن نعيش حالياً بين حقبتين عانى فيهما المسلمون ضعفاً أكثر بمراحل بعيدة من الضعف الذي نعاني منه الآن، وشاء الله بتدبيره أن يقلب موازين القوى وينصر الإسلام فيهما بطريقتين مختلفتين كانتا فوق امكانية أي تدبير بشري.
ونحن لا نعلم بأي طريقة سينصر الله دينه في حقبتنا هذه، ولا كيف سيقلب موازين القوى:
 هل ستكون بواسطة دعاة الإسلام والمسلمين الجدد في أوروبا وأمريكا بطريقة مشابهة لما أوضحناه أعلاه في قصة التتار؟!
 أم ستكون بواسطة التغيرات الحاصلة حالياً بفعل فيروس الكورونا؟! خاصةً وأنه لم يسبق لها مثيل في تاريخ البشرية، ولا يبدو أن العالم بعدها سيظل كما عرفناه قبلها.
 أو ستكون بطريقة شبيهة بالطريقة الاعجازية التي نصر بها الروم بعد غلبهم كما أوضحنا في مقال: (معضلة رضوخ هرقل في قمة جبروته)؟!
 أو بواسطة بدء دورة جديدة من الزمن تدريجياً، كما أوضحنا في مقال (مفاهيم خاطئة) تنهار فيها التكنولوجيا، وتتوقف الأجهزة الكهربائية والإلكترونية عن العمل، ويعود النصر مرتبطاً بالسيف ونواصي الخيل كما نفهم من أحاديث كثيرة مثل: "...فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ سَمِعُوا بِبَأْسٍ ، هُوَ أَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ ، فَجَاءَهُمُ الصَّرِيخُ ، إِنَّ الدَّجَّالَ قَدْ خَلَفَهُمْ فِي ذَرَارِيِّهِمْ ، فَيَرْفُضُونَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ ، وَيُقْبِلُونَ ، فَيَبْعَثُونَ عَشَرَةَ فَوَارِسَ طَلِيعَةً ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنِّي لَأَعْرِفُ أَسْمَاءَهُمْ وَأَسْمَاءَ آبَائِهِمْ ، وَأَلْوَانَ خُيُولِهِمْ ، هُمْ خَيْرُ فَوَارِسَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ يَوْمَئِذٍ..." (صحيح مسلم 5291)، أو حتى فجائياً كما استقرأ (آينشتاين) عالم الذرة الذي بُنِيتْ القنبلة النووية أفكاره حين قال: "لا أعلم بأي سلاح سيحاربون في الحرب العالمية الثالثة، لكن سلاح الحرب العالمية الرابعة سيكون المقلاع"، مشيراً إلى أن الحرب العالمية الثالثة لن تبقي أي بنية تحتية لصناعات الأسلحة الحديثة، مما سيجبر الإنسان إلى العودة مرة أخرى إلى السيف وأسلحة القذف المباشر كالمقلاع الذي تقذف به الحجارة.
 أم قد تكون بواسطة عبقرية رجل واحد فقط من رجالات المسلمين، يحسن استخدام مواهبه بالطريقة التي أوضحناها في مقال (القدرة الكامنة)، كذلك الرجل الصالح (لقب بالمهدي في الأحاديث الضعيفة) الذي قال عنه رسولنا الكريم  صلى الله عليه وسلم : "لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُمْلَأَ الْأَرْضُ ظُلْمًا وَجَوْرًا وَعُدْوَانًا، ثُمَّ يَخْرُجُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي مَنْ يَمْلَؤهَا قِسْطًا وَعَدْلًا ، كَمَا مُلِئَتْ ظُلْمًا وَعُدْوَانًا" صححه الحاكم على شرط الشيخين ووافقه الذهبي، وأيضاً الألباني في "الصحيحة" (4/40).
⁃ أو بواسطة جندي آخر من جنود الله الذين لا يعلمهم إلا هو، والذي قد لا يكون بشراً؟
 أو بواسطة كل تلك الأمور مجتمعة أو بعضها أو غيرها؟!
لا نعلم ذلك في الحقيقة، ولكننا نعلم يقيناً أن الله لا ريب ناصر دينه ومحقق وعده، سواءً ساهمنا في ذلك مع العاملين، أم جلسنا باستسلام نندب حظنا مع القاعدين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق