الأربعاء، 10 يونيو 2020

بغداد عروس عروبتكم صرخة الاستغاثة الأخيرة..

أدي الدكتور محمد عباس فريضة الحج و عاد هذا الأسبوع الي القاهرة إلا انه لم يستطع كتابة مقاله الأسبوعي بسبب وعكة صحية نسأل الله له الشفاء و ندعو الله أن يتقبل منه و يجعل حجه مبرورا، وحرصا منا على تواصله مع قراء الشعب فإننا نعيد نشر هذا المقال، وبرغم أنه  نشر منذ خمسة أعوام إلا أنه ما يزال صالحا لأن يكتب اليوم، ففساد الحكام وعجزهم وخيبتهم كما كان، وتدهور الأحوال ما يزال..

 

 

 

بغداد عروس عروبتكم

صرخة الاستغاثة الأخيرة..

بقلم دكتور محمد عباس


أعترف لك أيها القارئ – أيها الذبيح مثلى -… بأننى لم أعان فى كتابة مقال ما عانيته فى كتابة هذا المقال…
فكرت أن أعتذر عن كتابته كى أحتفظ عندك يا أخى ويا ضحية مثلى بسمت العزة والثقة والدفاع المؤمن الواثق عن قضية… فقد أشفقت أن أعرض عليك ضعفى  …
 فكرت أن أفعل كما تفعل الحيتان عندما يصيبها جرح فتنسحب إلى كهف تحت الماء حتى تبرأ جروحها وتندمل … حتى لو كان اندمال الجرح على غسلين ..
ولم يكن جرحى أيها القارئ فى ساحة الوغى من عدو ولم يصبنى فى ساحة قتال… بل تسرب السم إلىّ وأنا جالس فى بيتى من صفحات صحيفة ومن شاشة تلفاز…
لذلك فكرت أن أتوقف … ولو قليلا …
ذلك أننى أرى أن واجب الكاتب أن يقدم إلى قارئه جديدا أو أملا.. فإذا لم يكن لديه الجديد أو الأمل فعليه أن يأوى إلى كهفه … ويصمت …
لكننى قلت لنفسى أن العلاقة الحميمة بينى وبينك أيها القارئ.. علاقة الصدق الدامى، والتحامى بك التحام مشيمة برحم .. علاقة الدم بمعناها الأشمل  تحتم علىّ أن أصارحك حتى لو كنت عاجزا كما لم يكن أبدا عجز وحزينا كما لم يكن حزن…
هل تجاوزت  قدرى حين تصورت فى بداية هذه السلسلة من المقالات : " بغداد عروس عروبتكم " أننى سأكون مؤثرا … و أننى سأغير واقعا مهيضا أو سأقيم جدارا يوشك أن ينقض…
هل حلت بى نقمة ربى  ففقدت مقام الرضا وهبطت إلى عوالم من السخط على كل ما حولى ومن حولى … أم فقدت اليقين بأن الرضا بمثل ما نحن فيه خطيئة… أم هويت إلى مدارج اليأس التى تخيل للإنسان أنه لم يكن من الممكن أبدا فى ظل الإمكانيات المتاحة والواقع أن نفعل أكثر مما فعلناه …
هل كنت كالسمكة التى لم تقنع بما فى الماء فرفعت رأسها فوقه فاختنقت بالهواء!!…
***
قبيل رمضان، كنت أستعجل الأيام كى تمر، أعترف بمنتهى الذلة والخضوع يارب، أننى لم أستعجلها شوقا لعبادتك، فذلك أمر لا أثبته ولا أنفيه، لكننى لم أفكر فيه، كنت أفكر فى العراق، وأن قدوم رمضان سيعنى عدم ضربها لمدة شهر على الأقل، وغلب على ظنى أن التوقف عن الضرب سيمتد إلى الحج، كنت أقول لنفسى مازال للمسلمين رغم ضعفهم بعض هيبة، وما زال فيهم رغم خنوعهم بعض نخوة وبعض شهامة وبعض نجدة وبعض غوث، و أن العدو الفاجر سيتجنب إثارة بقية بعض الصفات تلك…
كنت كلما اقترب رمضان ازددت اطمئنانا ، لكننى – وهذا ما لا أملك له تفسيرا – أخرجت من ملفاتى عن العراق مشروع مقال قديم بعنوان: "بغداد عروس عروبتكم" وأعدت صياغته ثم دفعت به إليكم، لم أعط له رقما فقد كنت أتخيل أنه حلقة وحيدة، قلت لنفسى أن أمامنا عدة شهور من الأشهر الحرم لن يكون فيها قتال وربما استنفر المقال همما لفك الحصار عن العراق…
بعد نشر المقال بيومين – على مشارف رمضان -ابتدأ ضرب العراق …!!
وانفجر الألم …. واشتعلت النار والغضب …
قلت لنفسى أننى سأواصل الطرق على الحديد المشتعل بنيران تحرق العراق فربما أستطيع إعادة تشكيله، عزمت أن أواصل الكتابة تحت نفس العنوان " بغداد عروس عروبتكم " حتى لو وصلت عدد الحلقات إلى خمسين حلقة… سوف أناشد الجميع وأقرّع الجميع وأستنفر الجميع حتى يفيقوا… لن أتوقف إلا بعد رفع الحصار عن العراق وليبيا والسودان وتحقيق حد أدنى من الوفاق …
ومنذ ذلك الحين حتى الآن كتبت اثنتى عشر حلقة : الحلقة"2" : " قد لا ينفعكم أن تصوموا وقد لا يضركم أن تزنوا"… و الحلقة "3 و4": " القرن الحادى والعشرون" و"5": " يا شيخ الأزهر بايعنا على الموت" و…  " 6" : "كل النعال لا تكفى " و "7" : "هل عرب أنتم ؟! .. بشر ؟!!.. حيوانات؟!!!".. و"8" : "يخربون بلادنا بأيديهم … الله يلعنهم".. و"9": "مسئولية الكويت عن الحرب" .. و"10" : "رسالة إلى الرئيس كلينتون"  و11" : "بيت أهوال وقبر واسع متضخم " …ثم هذا المقال …
منذ ثلاثة أسابيع قطعت التسلسل للمرة الوحيدة كى أدفع عن الأمة عارا ألصقته بها إحدى بناتها ومجلاتها فكتبت مقال : "نلعنكم باسم الشهداء وباسم الله " … و كان يصب فى ذات الاتجاه لكننى سألت نفسى بعدها فى أى جبهة أحارب  والتساؤل يصرخ : يا وطنى : هل أنت بلاد الأعداء ؟! …و شعرت أننى كالعراق فى نفق مظلم لا يبدو فى نهايته ضوء…
أعترف …
تسلل اليأس والوهن إلى قلبى…
أحاول إعادة جمع المزق المتناثرة … لماذا تسلل الوهن واليأس إلى قلبى ولماذا أعجز عن التقدم مجرد خطوات أخرى أنا الذى انتويت ألا أتوقف أبدا … لم يكن فيما قرأت أو راجعت أى جديد… كنت أعلم المأساوية الفادحة للتنكيل بالعراق… كنت أخجل من قومى ومن وطنى  ومن أوطانى ومن نفسى.. هل السبب هو اكتمال الصورة البشعة للمهانة البشعة والعجز البشع وقد تركزت وتجسدت؟.. هل هى كلمة عابرة نسيتها فى مقال لواحد كعبد العظيم رمضان أو أنيس منصور دفعت – كالخنجر المسموم فى قلبى – كلمة سعد زغلول : " مفيش فايدة"،  الكلمة التى لم يشغلوا أماكنهم إلا ليقولوها …هل هى مقالة الكاتب المثقف محمد الرميحى فى مجلة العربى حين تحول من مثقف عربى إلى وحش عنصرى … وحش فقد الفكر فمارس العنصرية ضد قومه لا ضد أعداء قومه …هل هو مانشرته الأهرام بأصغر بنط فى أقل مساحة أنه لم يثبت لدى الجهات المسئولة ثمة شبهة فيما سمى بقضية النعوش الطائرة… و أن العراق لم يقتل مصريين .. وبالرغم من ذلك لم يحاسب أحد الكاتب إبراهيم سعدة الذى وضعوه رئيسا لتحرير إحدى صحفنا الكبرى ليقوم بدور وحيد: أن يكون صمام أمان لأعدائنا كلما ازداد الوعى بخطورة قضية تدخل ليزيف الوعى… ولا أحد أيضا حاسب الكاتب أنور وجدى الذى جند الصفحات التى يكتب فيها ضد الأمة والذى طالما احترت فيما يكتبه : هل هى الخيانة السافرة أم الغباء المطلق …والأرحج أنه جمع بينهما … هل هى مقالات ذلك الآخر الذى أشمئز حتى من ذكر اسمه والذى لا أقرأ مقالاته ولا صحيفته أبدا لكن مجرد وجود صحيفته وفكره يسمم الهواء ويلوث الفكر وينقل فيروس التدنى والضعة …هل هو برنامج تليفزيونى … هل هى نشرة الأخبار فى إذاعة لندن التى تحدثت عن المصريين الألبان بعد المصريين الأفغان … هل هى حملة روز اليوسف على حزب الله وخجلى العابر من أن أكون مصريا بعدما رأيت من هوان لا حد له لبعض المصريين على شاشة قناة الجزيرة؟ … هل ذكرنى ذلك الخجل بخجل آخر يشبهه والسادات فى القدس … هل هى المظاهرة المفتعلة لاحتفالات جنائزية أقيمت فى الشارع لا فى القلب للملك حسين ولطفى الخولى… هل هى المحاولات الدائبة لوضع لافتة تحمل اسم الشرف على مبغى واسم الصدق على مكذبة واسم السلام على استسلام ورسم العين على مكان تسمل فيه العيون … هل هو تأخر أخبار القصف شبه اليومى للعراق إلى ذيل نشرات الأخبار وتخيلى أنها ستنعدم عما قريب ولن ينشروا إلا الأخطر والأخطر حتى يجىء يوم يعلنون فيه الخبر الأخير: تم اليوم تدمير كل العراق وإبادة جميع أهله…
قلت لنفسى : أولى بهم أن يكون الخبر الأول فى نشرات الأخبار كل عدة أسابيع : لم يتم قصف العراق اليوم !!…
 لماذا تسرب اليأس إلى قلبى …؟!…
هل هى الصفحة الأولى فى الأهرام  ذات يوم عندما صفعتنى بأصغر خبر وبأصغر بنط عن قصف العراق وبجواره خبر ضخم عن اكتشاف جنين فى دورة المياه فى طائرة مصرية فى مطار روما واكتشافهم أن الحادث قد تم فى مطار القاهرة لكن العمال المصريين لم ينظفوا دورة المياه… قلت لنفسى أن مهمة تنظيف دورات المياه من الصلاحيات القليلة التى يسمح لنا بها الغرب دون اعتراض  ومع ذلك ها نحن أولئك على وشك أن نعجز عنها… بل عجزنا فتوقف عن الأمل الأحمق بأن تستنفر همما ماتت..
لماذا تسلل اليأس إلى قلبى…؟؟!!..
 هل كان ذلك بعد ذلك اللقاء الذى جمعنى بمجموعة من المثقفين كلهم يدمى قلبه من أجل ما يحدث للعرب والمسلمين والعراق… كنا أشبه بمجلس مصغر للأمة العربية من مصريين عرب وعرب غير مصريين ومسلمين ومسيحيين … وطرحنا موضوع العراق للحوار… قلت لهم أننا يجب أن نكون كالطبيب الذى يستقبل حالة مريض ينزف ويوشك على الموت … ليس من حق الطبيب أن يسأله عن السبب فى نزيفه و إصابته ولا أن ينصحه بنصائح مستحيلة كان عليه أن يتبعها منذ عشرين عاما ولا أن يطلب إمكانيات مستحيلة لعلاجه … على الطبيب أن يواجه وليس من حقه أبدا أن ييأس … وقلت لهم أن المريض هو العراق وليس صدام حسين … وأن هذا المريض ليس مجرد إنسان فرد بل هو عضو يتصل بسائر الأعضاء بالوشائج والأعصاب والشرايين و أن بتره من الأمة سيكون بداية نزيف مآله الموت للأمة كلها… واستمر الحوار ثلاث ساعات دامية … هتف ضابط مصرى محال إلى التقاعد : الكارثة أننا رغم ضعفنا نستطيع أن نقاوم وأن نردع حتى أمريكا … لن أتكلم عن أخطاء الماضى الفادحة التى أوصلتنا إلى ما نحن فيه من هوان  .. بل أتكلم الآن حتى فى ظل هذا الهوان … لو أن الدول العربية جميعا أصدرت بيانا حقيقيا جادا برفض العربدة الأمريكية لتراجعت أمريكا … بيان حقيقى لا تتم اتصالات قُبَيْله أو بُعَيْده لتعتذر لهم عن تصريحات لم يطلقوها إلا للاستهلاك المحلى … لو لم ترتدع أمريكا بالبيانات فماذا تستطيع أن تفعل لو أن مصر والسعودية والسودان واليمن اعترضوا على مرور حاملات طائراتهم … ثم رفضت إيران والخليج وجود هذه الأساطيل ثم أعلنت تركيا رفضها لاستعمال قاعدتها لقصف إخوتها  ثم أعلنت باكستان أن قنبلتها النووية رصيد للعالم الإسلامى… ماذا ستفعل أمريكا عندئذ … سوف تولى هاربة ككلب أجرب … مثل ذلك الكلب الإسرائيلى الذى أتوا به لينهش البطل المصرى محمود السواركه لينهش لحمه وهو مقيد فأخذ الكلب يلعق وجه السواركه بلسانه تمهيدا للنهش فإذا بالسواركه يبادره ويعض لسانه ويفر الكلب مذعورا لا يصلح قط لنهش لحم بشر بعد أن تمت إخافته … أمريكا مثل هذا الكلب : تحتاج لموقف وحيد يخيفها ولن تعقر أحدا منا بعده … واختتم المصرى حديثة بنفثة ألم : مصر تستطيع أن تقود لكنها ليست "سوبرمان" لتقوم بالدور كله … سوف تُدمّر هى الأخرى كالعراق إن حاولت … وسوف يخونها العرب كما خانوا العراق…
قال آخر : ليس ضعف الإمكانيات ما يغرى أمريكا بنا بل ضعف النفوس الخائنة واستمراء الذل والدنية … نحن 22 بلدا تعاملهم أمريكا جميعا بإذلال وامتهان لا تجرؤ أن تعامل بهما دولة فى العالم… لإيران دولة واحدة استطاعت أن ترغم أمريكا على احترامها وخشية بأسها ورهبة جانبها … الفرق فى الأداء السياسى والاجتماعى والعسكرى ، وإيران ليست من دول العالم الأول .. هى مثلنا بل وكانت فى عهد الشاة أسوأ منا فلما تغير الحكام تغيرت الأحوال … الحكام العرب المتخلفون لا يدركون افتضاح أمرهم … أن أمرهم لم يكن مكشوفا أبدا كما هو مكشوف الآن … و الأمة كلها على فوهة بركان… إما التغيير و إما الثورة…
وقال آخر : كيف يمكن أن ننتصر فى حرب رسمت بريطانيا جغرافيتها ووضعت خطوط الألغام – لا الحدود - فيها … ليس ثمة سبيل إلى النصر ما لم تلغ كل الحدود التى وضعتها بريطانيا … فهتف الآخرون : ها أنت ذا تطلب المستحيل .. فرد الرجل : هو مستحيل عند الحكام الخونة وهو الأمل الوحيد لإنقاذ الأمة …
غرقت داخل ذاتى فى بطئ موجع و أنا أتأمل طرفى المعادلة وكيف يكون الأمل الوحيد الممكن هو المستحيل بعينه…
هل كان اليأس قد بدأ يتسلل إلىّ فى تلك اللحظات … لا أدرى فأنا لم أشعر به حين جاء لكننى قلت لهم لا تنسوا المريض الذى ينزف … لا تقولوا أننا نحتاج جهازا من الشرق أو دواء من الغرب قبل أن نقدم على إنقاذه لأن معنى هذا ببساطة أنكم تقتلونه …
   رأى البعض أن على صدام حسين أن يضحى من أجل العراق والأمة والدين فيترك الحكم ..فرد البعض الآخر أن هذا عين ما يريده العدو … لكن العدو لا يريده كفرد بل كرمز لإرادة أمة … وأنه لا يريد كسر الفرد بل الإرادة … و أن الحمقى من بعض حكامنا لا يدركون مغبة أن يكون من حق أمريكا المطالبة بعزل رئيس أو ملك عربى … لو وافقناهم اليوم فلن يبقى فى أمة العرب حاكم إلا بمرسوم منهم… قال الآخر : هل تظن أن هذا غير حادث الآن؟!… فهتف الأول أنه يتمنى – مادمنا فى الحصار لا نعرف منفذا – أن يموت صدام حسين موتا طبيعيا حتى لا تحمل أجيالنا عار الصمت عن قتله …  قال البعض الآخر  أن صدام حسين محاصر وليس أمامه سوى الاستشهاد … فليجمع آخر رمق وليغرق حاملة طائرات أمريكية وليستشهد لتظل دماؤه رمزا ونارا تحرق العروش الخائنة كما قضت دماء سيد الشهداء الحسين على ولاة بنى أمية…. فانطلق واحد  يقول بأسى لكن صدام حسين ليس الحسين … إن تاريخه يجعل مهمة من يدافعون عنه صعبة  فقاطعه من يقول : لا نتحدث عنه كشخص بل كرمز للعراق ..ورد من يقول : وبالرغم من كل شئ أليس صدام حسين – حتى كفرد - أفضل من مشايخ خفراء على آبار بترول صنعوا منها دولا وحولوهم إلى أمراء … وقال آخر : هو لا يختلف فى الحسابات الخاطئة وفى سجل حقوق الإنسان عن أى حاكم عربى آخر … لكنه الوحيد بينهم الذى ضرب داخل إسرائيل فبزهم جميعا … هتف واحد : ليته وجه قواته منذ البداية إلى إسرائيل …
وقلت لهم أن المريض ينزف …
وكنت أنا أيضا أنزف …
سأل واحد منا العراقى عن الموقف الحقيقى للمعارضة العراقية بعيدا عن أكاذيب أجهزة الإعلام فأجاب : لا يوجد فى العالم معارضة أسوأ بما لا يقاس من نظام الحكم الذى تعارضه إلا فى العراق … إنهم ببساطة خونة ولصوص … وليس لهم فى العراق أى ثقل أو جذور أو وزن… ولو حكموا فسوف تكون الكارثة … سيتضاعف تدهور حقوق الإنسان وسيستسلم العراق على أيديهم الخائنة لأمريكا وإسرائيل…
صرخت فيهم أن العراق أثناء حوارنا يُقصف و أن إخوتنا هناك يموتون جوعا وحرقا أثناء نقاشنا و أن علينا أن نتجنب الدائرة المفرغة الخبيثة … نُحْتُ فى ارتياع : علينا أن نجد حلا … وإلا فلماذا نلوم حكامنا ووزراء خارجيتنا عندما يجتمعون فلا يجدون حلا … لماذا إذن نتصور الخيانة والعمالة خلف مواقفهم … ها نحن … ليس بيننا خائن ولا عميل وبالرغم من ذلك نعجز نفس العجز …!!
***
خيم صمت أسيان عاجز …!!
تكثف اليأس حتى كدنا أن نشمه وتجسد الألم حتى كدنا أن نراه …
فشلنا …
***
قلت لهم وأنا أستقطر المستحيل  أن فشلنا المرير فى الوصول إلى حل يجب ألا يضيع هباء … و أننا لو فهمنا أسباب الفشل فلعلها تصل بنا إلى حل… فهناك نتيجتان تترتبان على فشلنا : الأولى أننا أمام أزمة مغلقة لا يبدو فى الإمكان حلها… والثانية مترتبة على الأولى … إننا لا نستطيع أن ننصرف عن المشكلة وننسى العراق وينتهى الأمر … من حق الأفراد أن يفعلوا ذلك على مستواهم الشخصى أما على مستوى الأمم فذلك خيانة … قلت لهم أن اكتشافنا أننا  أمام مشكلة مغلقة لا حل لها يجب أن يدفعنا إلى استنتاج أهم … أن منهجنا فى مواجهة المشكلة كله خطأ … ونحن لا نستطيع أن نغير طبيعة المشكلة لكننا نستطيع أن نغير منهج التفكير وخطة المواجهة … إن هذا العجز الذى يضرب بأطنابه فينا يؤدى بنا إلى شلل كامل … وما دمنا مشلولين ستظل أمريكا وإسرائيل تعبثان بنا وسيظل الحل الأمريكى هو الحل الوحيد المطروح على الساحة وهو حل يهدف إلى تدمير الأمة كلها… صرخت : يجب فى حدود الإمكانيات المتاحة والواقع المر أن يكون هناك حل … حل عربى ينبثق منا … ثم التمعت الفكرة أمامى كشهاب : إذا كنا نطالب بحل عربى أليس من المنطق أن نطالب ببداية حل عراقى …حل ينطلق من الممكن لا من المستحيل .. حل لا يزايد ولو كانت المزايدة صوابا … ولا يدين حتى لو كانت الإدانة حقا … حل لا يطالب مثلا صدام حسين بالتنحى عن الحكم … ليس لأن هذا خطأ أو صوابا … وليس لأن استجابته ستعتبر انكسارا لرمز المقاومة … ليس من أجل ذلك بل ببساطة لأنه لن يستجيب وعدم استجابته تجبّ أى حجج أخرى حتى يصبح من يصر على هذا الحل مجرد متذرع به لإخفاء موافقته على ضرب العراق  … حل أيضا لا يطالب الحكام بأن يتغيروا لأنهم ببساطة لن يتغيروا … يجب ألا يتجه الحل أيضا إلى إدانة أى دولة عربية … ليس لأنهم غير مدينين … بل لأننا لا نملك أن ندينهم … فإذا أدناهم باللسان أوغرنا صدورهم فنكبونا فى أمتنا بالفعل والتحالف مع أعدائنا …   فهل يمكن فى خلال هذا الإطار أن نبحث عن حل ؟!
ابتدأ الحوار مرة أخرى ليستمر ساعات عديدة…
قلت لهم هبوا أن قوة ستحكم علينا بالموت إن لم نصل إلى اتفاق.. وقلت لهم أن ذلك ليس خيالا وإنما هو واقع .. ورحت أترنم بشعر مظفر النواب:
أقسمت بتاريخ الجوع ويوم السغبة..
لن يبقى عربى واحد إن بقيت حالتنا هذى الحالة …
فاندفع أحد الحاضرين ينشد شعرا لأحمد مطر:

                    سلوا بيوت الغوانى عن مخازينا…

واستشهدوا الناس : هل خاب الرجا فينا…

سود صنائعنا، بيض بيارقنا…

خضر موائدنا ، حمر ليالينا!…

لكننا على أى حال بدأنا حوارا يمكن أن أبلور نتائجه فى أن العراق الذى كان أهله كأهل مصر لا يهجرون بلادهم ولا يهاجرون قد هاجر الآن ما يقارب سدس أهله و أن ثلاثة ملايين عراقى يوجدون الآن خارج العراق وبالرغم من ذلك لم تستطع المعارضة الخائنة عميلة المخابرات الأمريكية أن تجند منهم سوى مئات قليلة، و أن من بين هذه الملايين الثلاثة عدد كبير من المثقفين الوطنيين، وأن هؤلاء المثقفين و إن كانت لهم اعتراضات على بعض ممارسات النظام إلا أنهم لا يعادون الرئيس صدام حسين كشخص وأنهم يتفقون معه فى عداء أمريكا وبريطانيا وإسرائيل .. وأنه لو تم إجراء ما يمكن به إقناع الرئيس صدام حسين بتطعيم حكمه بهم فإن ذلك قد يطمئن الكويت والسعودية … وأن ذلك يمكن أن يتم فى إطار التزام عربى بخرق قرارات الحصار والمقاطعة فى تاريخ محدد …
لوهلة تخيلت أننى نجحت فى الإمساك بطرف خيط …
قلت لنفسى أن الملوك والرؤساء عجزوا والوزراء عجزوا والأزهر عجز والمؤسسات عجزت والحكومات عجزت والمعارضة عجزت فى أمر ليس العجز فيه مباحا وأن على الأمة أن تتولى أمرها بنفسها فكارثة العراق مسئولية كل رجل وامرأة فى هذا الوطن وسيحاسبنا الله على أدائنا فيها  … وأنه وإن كانت الحكومات مدانة فليس منا ثمة برئ…
قلت نفسى لا تخجل من القليل فالعدم أقل منه… ولا تخجل من السذاجة والفجاجة والبساطة فماذا أخذنا من الوقار والبروتوكولات والصالونات الفخيمة والاستقبالات الرسمية سوى الوضع المهين والمخزى الذى تجد الأمة الآن نفسها فيه … ماذا أخذنا من عقلهم وعبقريتهم ونضجهم إلا هتافا فجره الأسى ذات يوم عندما اتهم الشهيد سليمان خاطر بالجنون فإذا بالشعب يهتف ويحكم ويقرر : " ما تقولوش عليه مجنون … قولوا عليه مقدرش يخون "…
قلت لنفسى لن يسوء وضعنا لو حاولنا ألف محاولة … مهما فشلنا… فإن مجرد المحاولة ستمثل ضغطا على الحكومات …
نويت أن أناشد رموزا  للأمة لا أتخيل أن تصمت ولا حتى أن تنتظر ندائى …
إننى لا أتخيل مثلا أن يسكت واحد كمحمد حسنين هيكل مهما كانت حساباته ومهما كانت احتمالات الفشل …
ولا أتخيل أن يسكت واحد كالفريق سعد الدين الشاذلى ولا أن يكتفى الشيخ يوسف القرضاوى – جزاه الله عن الأمة خيرا- بمجهوده رغم ضخامته …
تتالت الأسماء والرموز تترى … وقلت لنفسى فلتكن هذه اللجنة من مصر كلجنة حكماء تسعى باتصالاتها لتكوين لجنة حكماء من كل الدول العربية ولتمارس ضغوطها …
كنت غريقا قد تعلق بثمامة …
 هاتفت الأستاذ مصطفى بكرى كى أخبره باقتراحى وبأن تتولى الأسبوع تلك المهمة القومية ، الأسبوع ..  تلك الصحيفة الشجاعة التى لا تسندها حكومة ولا تؤازرها معارضة وبالرغم من ذلك كانت من أطول الجميع باعا فى الدفاع عن قضية العراق … قضية الأمة .. وأشهد: رغم أننى قد اخترقت من الخطوط الحمراء أغلبها أننى لم ألق من الأسبوع ترددا … كنت أنا الذى أعاتب نفسى قائلا أن استمرار الأسبوع قيمة أهم من نشر مقال سرعان ما ينساه الناس فيرفضون قولى …
صمت الأستاذ مصطفى بكرى ثانية ثم تحمس لاقتراحى ، بل وقرر على الفور أن تتبنى الأسبوع هذا الاقتراح ليكون قضيتها، لكننى فى صمت الثانية كنت قد رأيت قصور القدرة عن الوصول إلى الحلم …
خاطبت الكثيرين بعد ذلك، ولقد شجع بعضهم الاقتراح بحماسة وصدق و إيمان لكن الغالبية أشفقت علىّ من خيال جمح بى ….
قال لى الصديق – وهو سياسى محنك – أن أخشى ما يخشاه أن تصب مبادرتى تلك فى صف الأعداء … فالحكام الآن محرجون مكشوفون أمام شعوبهم و أن مبادرتى تلك قد تكون ورقة توت يغطون بها بعض عورتهم … والجهد الشعبى الذى أدعو إليه سيستغرق شهورا من وهم الحركة يكون فيها العراق قد أبيد …
وفى هذه اللحظة تجسد اليأس كاملا أمامى …
ما شاهدته حين ولد ولا حين نما وترعرع و إنما حين تجسد مكتملا يافعا …
قلت لنفسى أن اليأس كامل لكنه غير مطلق لأن وعد الله بالنصر حق … لكننا قوم لا يحبهم الله سيذهب بهم ويأتى بمن يحبهم لينفذ على أيديهم وعده…
***
قلت لنفسى أن المشكلة أكبر بكثير حتى من وضع العراق …
المشكلة مشكلة أمة تفنى وتبيد دون أى محاولة للخلاص…
ورغم أن الخلاص ليس مستحيلا فهى لا تحاول بل ويبدو أحيانا أنها غير راغبة فيه …
أمة تندفع إلى الهاوية دون لحظة تردد…
***
أحسست ساعتها بيد القدر الباطشة ورأيت المستقبل الأسود …
رأيت المسلمين فى الأندلس وفى الفليبين وفى البوسنة والهرسك وكوسوفا وأفغانستان فعرفت مصيرنا … من المؤكد أنهم قد تعرضوا لذات الابتلاء فلم يحملوا الأمانة كما كان يجب أن يحملوها فحاق بهم ما سوف يحيق بنا …
 أحسست بيد القدر، بانتقام الله، الملك، القدوس، المهيمن،العزيز الجبار، المتكبر، الخالق البارئ المصور، القهار، القابض، الخافض، المذل، الشهيد، القوى، المتين، الولى، المحصى، المبدى المعيد، المحيى المميت، الحى ، القيوم، الواجد، الواحد الأحد، الصمد، القادر المقتدر، المقدم المؤخر، الأول والآخر، الظاهر والباطن، الوالى، المتعال،الضار النافع، المانع، الباقى، الوارث، الصبور،  المنتقم…
رأيت انتقام الله يحيط بك يا أمة …
رأيت ما سيحدث لكم يا عرب …
ليس حدس عراف ولا كشف ولى و إنما انظروا ماذا حدث لمن قبلكم حين فعلوا فعلكم …
***
هل كنت أستطيع يا عزيزى القارئ أن أواصل الكتابة والحال ذاك… أن أواصل الكتابة وكلما توهجت النيران فى كلماتى ازداد قصف العراق … فلماذا أكتب إذن …
إننى أحيانا أتخيل أن الضعف قد بلغ بنا من المدى حدا جعلنا كالمريض الذى يضره حتى الدواء…
فى التكنيك العسكرى لا يحتل الجيش الغازى كل شبر فى الوطن المحتل وإنما يكتفى باحتلال الأماكن الاسترتيجية ونقاط التقاء المواصلات والمحاور، تاركا الكثافة السكانية  تقاوم فى جيوب معزولة تحت التحكم والسيطرة على المصير…
فلنكتب إذن فى الصحافة المستقلة أو فى صحافة المعارضة ما نشاء، كم قارئا سيقرأ لنا ؟ مائة ألف ؟ نصف مليون؟ لديهم الصحف والمجلات الحكومية والملكية والأميرية وأجهزة التليفزيون والفضائيات يبثون منها لـ250 مليون … إنهم يسيطرون على المحاور …
لا يضرهم إذن أن نكتب مهما كتبنا … بل قد يفيدهم أن يكون كتاب المعارضة لهم كالحلى يزينون بها صدورهم وقد تفيدهم كتاباتنا فى استلال الغضب من صدور الناس ما دمنا نعبر عنهم…
***
فهل كنت أستطيع يا عزيزى القارئ أن أواصل الكتابة والحال ذاك… وكلما كتبت ازداد القصف على العراق…
وهل كنت أستطيع التوقف عن "بغداد عروس عروبتكم " لأواصل الكتابة عن موضوعات أخرى والعراق ما يزال يذبح وينتهك ويغتصب كل يوم و أنا أنصب له فى قلبى حدادا لا ينقطع ولا يتوقف فكيف أستطيع أن أكتب عن أى شئ آخر…
***
إننى أشعر بالخزى وكأننى أخذلكم و أخذل ثقتكم فى و أتذكر تراثنا الغالى حين كان المقاتل يرفع الراية بيمناه فتقطع فيحملها بيسراه فتقطع فيحملها بعضدين مجذوذين فيقتل فيتقدم غيره ليحمل الراية…
أنا بذراعين لم تبترا لم أعد قادرا على حمل الراية …
لكننى يا رب أعتذر إليك فلم يكن ولاة أمورهم خونة .. ولا مشايخ خفر حول آبار بترول حولوها دولا ونصبوهم أمراء… ولا متخافين يلبسون عمامة شيخ ويحملون سيف مملوك … ولا طغما عيية جاهلة …
***
فى خيال فاجع مروع ورهيب كان محمد حسنين هيكل يقول:
-   هل تعرف نبات ورد النيل ؟!..
-        نعم..
-   ذلك النبات الأخضر القاتم الكثيف الذى ينمو فى النيل ؟!..
-        أعرفه جيدا …
-        تقطعه رفاسات المراكب النيلية الضخمة.. تمزقه … تتجمع أشلاؤه فى كريات تتضخم بترسب الأشلاء عليها حتى تصبح فى حجم كرة القدم … يسوقها الموج أمامه … وتحت هجير الشمس ورطوبة الماء يتحول اللون الأخضر القاتم إلى لون أسود…. ملايين وملايين من الكرات الطافية  تدفعها الأمواج حتى تصل إلى القناطر الخيرية فتحجزها خلفها … ملايين وملايين … لا تستطيع التقدم إلى أمام ولا العودة إلى الوراء … لكنها فى نفس الوقت تتحرك كما لو كانت  كائنات حية : تعلو خمسة سنتيمترات إلى أعلى أو تهبط خمسة سنتيمترات إلى أسفل وتتقدم ربع متر إلى الأمام أو تتقهقر نفس المسافة إلى الوراء أو اليمين أو الشمال حين يدفعها للتصادم والتخبط الموج الهادئ وارتداداته …
روعنى الخيال المروع وحدست ما سوف يقوله فتجنبت النظر إلى عينيه بعد أن تخيلت دموعهما – فى خفية منا - تملآن نهر النيل وأن مثل هذه الدموع منه ومنا هى التى جعلت النهر برغم كل ما يجرى … يجرى …..
وواصل هو بعد صمت مشحون متوتر:
عندما أمر على القناطر، و أنا فى سيارتى، أنظر من أعلى إلى تلك الملايين من الكرات.. فيخيل إلىّ أنها رؤوس العرب المجذوذة تتدافع عائمة فى النهر الذى ألقيت فيه بعد المذبحة  لا تملك من أمر نفسها إلا الاستجابة الميتة لحركات الموج …

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق