في صحبة القرآن سورة طه
د.محمد علي يوسفسورة مريم تضرب لنا أمثلة من أولياء الرحمن وكيف أعطاهم الله عز وجل جزاء عظيماً وهدايات عظيمة وعطاءات كريمة لبطولاتهم الإيمانية والتعبدية لله عز وجل وفي ختام السورة ذكر كيف عاقب الله عز وجل أهل الطغيان والنكران الذين ادّعوا لله عز وجل الصاحبة الولد وكيف أن المخلوقات عندها الولاء والبراء عندها الغضب لله والحب في الله والبغض في الله وهي أوثق عرى الإيمان كما علمنا النبي صلى الله عليه وسلم في قوله عز وجل (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا ﴿٨٨﴾ لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا ﴿٨٩﴾ تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا ﴿٩٠﴾ أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا ﴿٩١﴾) الجبال والسموات والأرض تأثرت بهذا القول على الله عز وجل.
اليوم نتحدث عن سورة طه وهي من السور المكية العظيمة التي فيها جو مهيب ينضح بالأمل الخارج من قلب الألم، كيف أن الإنسان يكون في عذاب ويرى أنه في خير وليس في شقاء ولهذا علينا أن تكون بداية السورة راسخة في قلوبنا معتقدين إياه.
البعض يظن لو تقرب من الله عز وجل والتزم بالدين سيعيش في عذاب وشقاء وهذا في الحقيقة مخالف لما ذكره الله عز وجل في بداية سورة طه (مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى) هذا الكتاب ليس للشقاء ولا للعنت. القاعدة في الحياة أن الإنسان يعيش في كبد (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ (4) البلد) لكن الخروج من هذا الكبد يكون من خلال الدين والعيش في كنف دين الله عز وجل وتقرب إلى الله سبحانه وتعالى.
تكرر في سورة طه مفردات الشقاء والضنك أكثر من مرة، ورد ثلاث مرات: (مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى) (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى) والموضع الثالث (فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى). نُفي الشقاء في موضعين وأُثبت في موضع واحد.
نُفي الشقاء حال ملازمة القرآن (مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى) لن تشقى مع القرآن ولن تتعب ولو أن ظاهر الأمر كان فيه تعب وعنت فمع القرآن أنت كأنك تعيش في جنة
ونفي الشقاء حال اتباع منهج الله عز وجل (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا) الضنك مرادف من مرادفات الشقاء. الشقاء للذي سيعرض عن جنة الدنيا وهي ذكر الله عز وجل سيعيش حياة ضنكا
وأُثبت الشقاء حال الخروج من الجنة (فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى) وجنة السماء لما نزل منها آدم عليه السلام أثبت الشقاء.
الشقاء خارج الجنة والنعيم داخلها في الدنيا والآخرة، هناك جنة في الدنيا وجنة في الآخرة، جنة الدنيا وتستطيع أن تلمس الكثير من متاع الجنة ولذاتها وأنت في الدنيا، ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: لو أن أهل الجنة يجدون ما نجد فما أطيب عيشهم. وجود شعور إيماني في لحظة ما، سجدة خاشعة بين يدي الله عز وجل.
وقال الحسن البصري: لو يعلم أبناء الملوك والسلاطين ما نحن فيه لجاهدونا عليه بالسيوف. هناك في الدنيا من يتلذذ بالجنة، قال تعالى في سورة النبأ عن أهل الجنة (لَّا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (35) جَزَاء مِّن رَّبِّكَ عَطَاء حِسَابًا (36)) وفي آية ثانية (لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) الواقعة) هذه من صفات أهل الجنة لا يسمعون لغواً ولا تأثيماً ومن يعش في الدنيا معرضاً عن اللغو فقد تمتع بنعيم من نعيم الجنة. ومن نعيم أهل الجنة (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ (47) الحجر) الأخوة في الله ونزع الغل لو طبقته في الدنيا ستتمتع بنعيم من نعيم أهل الجنة.
من نعيم أهل الجنة كما قال صلى الله عليه وسلم: “يُلهمون فيها التسبيح كما تُلهمون النَفَس” وفي رواية ” يُلهمون فيها التسبيح والتحميد كما تُلهمون النَفَس وفي رواية ثالثة “يُلهمون فيها التسبيح والتكبير كما تُلهمون النَفَس” أهل الجنة يسبحون ويكبرون ويحمدون الله جل وعلا كما نتنتفس نحن هذا من متعهم ونعمهم فنفهم أن الذكر نعمة ولذة من لذات أهل الجنة.
والنبي صلى الله عليه وسلم قال: لا حول ولا قوة إلا بالله كنز من كنوز الجنة. معناه أننا يمكن أن ندرك شيئاً من نعيم الجنة ونحن في الدنيا وأن نزيل شقاء من شقاء الدنيا بذكر الله ولذلك ذكر الله عز وجل في سورة طه متكرر، الذكر والنسيان متكرر في السورة لأن هذا نعيم الدنيا والذي يزول به الشقاء في الدنيا وجنة الآخرة لا نصب فيها ولا تعب ولا لغوب ولا أذى ولا شقاء من شقاء الدنيا. والذكر ليس مجرد الذكر اللساني وإنما يجب أن يكون فرعاً عن معرفة الله عز وجل لا ينفع ذكر إذا كان مجرد تكرار للكلام فقط، الذكر الحقيقي لا يكون إلا بمعرفة الله سبحانه وتعالى، فإذا تعرّف الإنسان على الله عز وجل حينئذ فقط يتلذذ بالذكر ويشتاق إلى الذكر وينعم بالذكر وهنا يعيش جنة الدنيا.
كيف نزيل هذا الشقاء من الدنيا؟ من خلال جنة معرفة الله وذكره والتقرب إليه ومناجاته وعبادته وشكره وحمده وهذا يكون من خلال معرفة الله عز وجل ولذلك آيات السورة تمتلئ بالكلام عن معرفة الله من خلال ثلاث طرق وهي الطرق الرئيسية للتعرف على الله عز وجل في سورة طه:
أولها وأهمها وأخطرها أن تتعرف على الله عز وجل من خلال كلامه من خلال آياته المقروءة والمسموعة، أن يعرّفك سبحانه وتعالى بنفسه من خلال وحيه المنزّل. وفي السورة كلام طويل عن تعريف الله عز وجل لنفسه من خلال كلامه
الطريق الثاني للتعرف على الله عز وجل من خلال آياته المرئية (فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا (50) الروم) تستدل على آثار رحمة الله عز وجل من خلال خلقه وتنر إلى آثار هذه الرحمة وكيف يحيي الأرض بعد موتها وهذا موجود في سورة طه.
الطريق الثالث كيف تتعرف على الله عز وجل من خلال معاملته
فإذا عرفت الله عز وجل تأتي نتائج، كيف تكون بعد معرفة الله عز وجل وما هي ثمرات ونتائج هذه المعرفة وثمرات التمتّع بجنة الدنيا التي فيها معرفة الله عز وجل
أول طريق من طرق معرفة الله عز وجل أن يعرّفك الله عز وجل بنفسه من خلال كلامه من خلال وحيه المنزّل وآياته المقروءة والمسموعة والسورة تحتشد بهذا النوع. في السورة تجد فيها كلاماً لربنا سبحانه وتعالى عن نفسه فتبدأ السورة (طه ﴿١﴾ مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى ﴿٢﴾ إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى ﴿٣﴾ تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَا ﴿٤﴾) صفة الخَلْق، (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) اسم الله الرحمن، (لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى) الملك الكامل له، شمول تام لملك الله عز وجل له ما في السموات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى (وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ) صفة العلم، يذكر الله سبحانه وتعالى لنا صفاته تباعاً (فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى) سواء جهرت بوتك أو أخفيت أو أسررت فالله عز يعلم السر ويعلم ما هو أخفى من السر ويعلم ما تخفي الصدور ويعلم ما تنوي أن تفعله (فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى).
(اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى) التعرف على الله من خلال أسمائه الحسنى، يعرّفك الله سبحانه وتعالى بنفسه. يعرّف الله سبحانه وتعالى نفسه لموسى عليه السلام (إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى) تعريف بنفسه وفي آية أخرى (إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي) وفي آية أخرى (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا ﴿١١٠﴾ وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا ﴿١١١﴾) ويعرفنا بنفسه بقوته من خلال آياته التي ذكرها في سورة طه، آياته في الآخرة وأفعاله في الآخرة (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا ﴿١٠٥﴾ فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا ﴿١٠٦﴾ لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا ﴿١٠٧﴾ يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا ﴿١٠٨﴾) ترسيخ في السورة لأسماء الله، لمعاني أسماء الله لرحمة الله ولقدرة الله ولتمام العلم وتمام الملك.
أفضل ما تتعرف به على الله سبحانه وتعالى هو من خلال كلامه أن تقرأ القرآن بنية معرفة الله عز وجل تجد أن أغلب آيات القرآن تنتهي بصفة من صفات الله تتعرف على الله عز وجل من خلال آياته المقروءة أو آياته المرئية.
الطريق الثاني لمعرفة الله عز وجل هو طريق التدبر والتأمل والنظر في آيات الله الكونية وهذه طريقة من الطرق التي دلّ موسى عليه السلام عليه من خلالها ومن خلالها اهتدى السحرة التي ذكرت قصتهم بالتفصيل في هذه السورة اهتدوا من خلال النظر للآيات المرئية، السحرة سمعوا كلام موسى عليه الذي دعاهم ودلّهم على العقيدة الصحيحة لكن الإيمان الحقيقي والإيمان بالله عز وجل والتأثر كان بعد أن رأوا آيات الله عز وجل المرئية التي بدأت بقول الله عز وجل (وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى ﴿١٧﴾ قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآَرِبُ أُخْرَى ﴿١٨﴾ قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى ﴿١٩﴾) آية عملية مرئية، (فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى ﴿٢٠﴾) موسى ولّى مدبراً كما ذكر القرآن في آية أخرى ولم يعقّب، موقف صعب جداً، عصا تحولت إلى حية عملاقة جداً، فالموقف مرعب جداً.
تستمر الآيات (وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى) قيل تخرج بنور وقيل كان فيها مرض أو بصر فرجعت سليمة أياً كان المعنى فهي آية أخرى (آَيَةً أُخْرَى ﴿٢٢﴾ لِنُرِيَكَ مِنْ آَيَاتِنَا الْكُبْرَى ﴿٢٣﴾) نريك، والسحرة لما رأوا هذا وهم كانوا أهل سحر وعرفوا أن الذي جاء به موسى حقيقي أول ما رأوا الآية أمامهم خروا لله سجداً مباشرة (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى ﴿٧٠﴾ قَالَ آَمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ).
وهنا وقفة: هل تحول العصى إلى ثعبان أعظم من تحول النطفة إلى إنسان؟ نسال أنفسنا هذا السؤال، أو البذرة لما تتحول إلى شجرة؟ أليست آية؟ لماذا سجد السحرة لله عز وجل لما رأوا آية العصى وكان إيمانهم راسخاً وضحّوا تضحيات عظيمة وصبروا على أذى شديد للغاية وكانوا يعلمون أن النطفة تتحول إلى إنسان؟! الفرق هو إلف العادة، فكلنا يعرف أن النطفة تتحول إلى طفل رضيع ثم يكبر وأن البذرة تتحول إلى شجرة لكن لو تفكرنا لحظة لن نجد فرقاً فهذه آية وهذه آية عظيمة من آيات الله عز وجل. الفرق هو العين المتدبرة فلك منا يمكن أن يرى آيات من آيات الله عز وجل في الكون في السماء لذلك لما أراد موسى عليه السلام أن يدل فرعون على الله عز وجل بدأ يذكر له هذه الآيات التي يعرفها فرعون (قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى ﴿٤٩﴾ قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ﴿٥٠﴾) معرفة الله من خلال آياته التي يعرفها فرعون وغيره (قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) أعطى السلحفاة خلقها ثم هداها إلى رزقها، أعطى النملة خلقها ثم هداها إلى رزقها ولو بقينا نتدبر في الإعجاز العلمي في الخلق وكيف أن كل مخلوق يعرف ما الذي يصلحه ويصلح له وكيف أن النملة تكسر البذرة المعينة إلى نصفين حتى لا تنبت حين تخزينها وتقسم بذرة ثانية إلى أربع، في الكون آيات عظيمة! (قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى ﴿٥١﴾ قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى ﴿٥٢﴾ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى ﴿٥٣﴾ كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى ﴿٥٤﴾) أولي العقول الذين يتدبرون ويتأملون (مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى).
السحرة لما رأوا آيات الله عز وجل سجدوا ونحن نريد أن نسجد لما نرى آيات الله وننظر إلى آثار رحمته وهو الطريق الثاني لمعرفة الله عز وجل
الطريق الثالث نحتاج أن نتأمل فيه وننظر إليه. كلنا يعرف مدى حبّ والدته له، كيف عرفت؟ هل أخبرك أحد بذلك أو قرأته في كتاب؟ الجواب أنت عرفت من خلال معاملتك مع أمك، علمت من خلال معاملتها لك ومن خلال ما رأيته من محبتها، ومهما قرأت عن حب الأم أنت تعرفه عملياً ولله المثل الأعلى، فالله عز وجل من أهمل طرق معرفته التعرف من خلال المعاملة، من معاملة الله عز وجل ولذلك في السورة نجد أن الله سبحانه وتعالى يدل موسى عليه السلام على نفسه فيقول (وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى ﴿٣٧﴾ إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى ﴿٣٨﴾ أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي ﴿٣٩﴾) كلمات تذيب القلب، يذكره الله عز وجل لما كان مرمياً في التابوت في البحر فحفظه الله سبحانه وتعالى. في البداية ألقيت عليك يا موسى محبة مني حتى تحبك امرأة فرعون وتربيه عندها. الله عز وجل يعرّفك بنفسه من خلال نعمه عملياً من خلال المعاملة. (إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ) في سورة مريم قال تعالى (وقري عينا) وهنا (كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا) الودود سبحانه وتعالى يريد أن يقر عين عباده الصالحين. (وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى ﴿٤٠﴾ وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي ﴿٤١﴾) ما أجملها من كلمات: ولتصنع على عيني، وأنا اخترتك، واصطنعتك لنفسي، والقيت عليك محبة مني.
لما تتأمل كل هذه الكلمات تعرف ربك سبحانه وتعالى بعد كل هذه المعرفة لا بد أن تكون هناك نتائج وثمرات. البعض يردد كلمة (أنا أعرف الله) ولكن لا يظهر على حاله ثمرات هذه المعرفة، لا يظهر رياء وإنما آثار معرفة الله عز وجل تظهر على حياتك تراها أنت في ثقتك بالله عز وجل وفي قوتك في التعامل مع أهل الباطل وفي عجلتك لارضاء الله عز وجل كما قال موسى عليه السلام (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى).
في سورة طه سنجد آثار معرفة الله عز وجل: الثقة وعدم الخوف وقد ورد في السورة النهي عن عدم الخوف أربع مرات (قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ) (إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى) (قَالَ لَا تَخَافَا) (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى) (قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الْأَعْلَى) (لَّا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى) لأن من ثمار معرفة الله سبحانه وتعالى أن لا تخاف من أحد ولذلك موسى عليه السلام في بداية السورة ولى مدبرا ولم يعقب بجسده بعدها (قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى) ذكر خوفه كلاماً ثم بعدها صار الخوف في نفسه (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى) ثم بعدها تمام الثقة بالله وعدم الخوف (قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) الشعراء).
والثقة واضحة في كلام السحرة لما هددهم فرعون بقطع ايديهم وأرجلهم من خلاف قال (قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ﴿٧٢﴾ إِنَّا آَمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ﴿٧٣﴾) الثقة بالله عز وجل والقوة والغضب لله عز وجل والغيرة.
موسى عليه السلام لما رجع (فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا) لما رآهم يعبدون العجل (قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُم مَّوْعِدِي) كلما ازداد معرفة الإنسان بالله عز وجل ازدادت غيرته على حرماته وازداد غضبه لله عز وجل والغب هنا شعور إيجابي على خلاف العادة فالغضب معظمه مذموم إلا الغضب لله عز وجل قال النبي صلى الله عليه وسلم إن المؤمن يغار والله أشد غيرة وغيرة الله أن تُنتهك محارمه.
ومن آثار معرفة الله عز وجل أن تظهر هذه الآثار في العبادة، تظهر بالشوق إلى الله عز وجل ولذلك نجد التوجيهات الربانية بعدما عرّف نفسه سبحانه وتعالى لموسى عليه السلام (إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى) (إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي) توجيه بالعبادة (لِنُرِيَكَ مِنْ آَيَاتِنَا الْكُبْرَى ﴿٢٣﴾ اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ﴿٢٤﴾) وتوجيه للدعوة إلى الله عز وجل هذه من أهم آثار معرفة الله عز وجل أن تعبده وتكون مقبلاً عليه بقلبك وتقول كما قال موسى عليه السلام (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى) فتكون راغباً في التقرب إلى الله عز وجل وعبادته، موسى عليه السلام قال (وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي ﴿٢٩﴾ هَارُونَ أَخِي ﴿٣٠﴾ اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي ﴿٣١﴾ وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ﴿٣٢﴾ كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا ﴿٣٣﴾ وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا ﴿٣٤﴾ إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا ﴿٣٥﴾) نريد أن نذكرك ونسبحك.
وكلمة الذكر تكررت في السورة كثيرا (وَنَذْكُرَكَ) (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي) (وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي) (فَنَسِيَ) النسيان والذكر موجود في السورة.
التوجيه الثاني بعد التوجيه بالعبادة هو التوجيه للدعوة إلى الله عز وجل وأول ثلاثة أوامر في القرآن:
العلم: أن تعرف الله عز وجل (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ)
ثم يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ) (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) توجيهات للدعوة وكذلك التوجيه لموسى عليه السلام بدعوة فرعون (اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ) والدعوة للعبادة (فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي) كل هذا موجود من خلال المعرفة من خلال القرآن والسورة مليئة بالكلام عن القرآن.
هذه الطرق الرئيسية لمعرفة الله سبحانه وتعالى الطريق الأول أن تعرف الله من خلال كلامه، الطريق الثاني من خلال آياته المرئية في الكون والتدبر والطريق الثالث أن تعرف الله من خلال معاملته عندها تأتيك الثقة بالله عز وجل فلا تخاف إلا من الله عز وجل، تتوكل على الله عز وجل، تغضب لحرمات الله عز وجل، تدعو إلى الله عز وجل، تعبد الله وتعجل إليه وتشتاق إليه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق