ليس بين آدم ونوح رسول
ليس بين آدم ونوح رسول وقد أدخل بينهما إدريس عليه السلام، كما فعله كثير من المؤرخين، وهذا لا دليل يعتمد عليه في صحته، بل إنَّ هناك جملة من الأدلة تدل على أنَّ نوحاً عليه السلام هو أول الرسل بعد آدم عليه السلام، ومن تلك الأدلة:
- قوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَاب﴾ (الحديد: 26).
إن هذه الآية صريحة في أنَّ جميع الأنبياء والرسل هم من ذرية نوح عليه السلام، وإبراهيم من ذرية نوح عليه السلام، فإذا ثبت بالإجماع أنَّ إدريس من الأنبياء بنص قوله تعالى: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا * وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا ﴾ (مريم: 56- 57)، تعيَّن أن يكون إدريس من ذرية إبراهيم، ثم من ذرية نوح عليهم السلام .
وهذه الآية تبين وحدة الرسالة في رجالها، فهم من ذرية نوح وإبراهيم عليهما السلام، فهي شجرة واحدة باسقة متشابكة الفروع، فيها النبوة والكتاب، وممتدَّة من فجر البشرية منذ نوح، حتى إذا انتهت إلى إبراهيم، تفرَّعت وامتدت وانبثقت النبوات من ذلك الفرع الكبير الذي صار أصلاً باسقاً ممتداً إلى آخر الرسالات، فأما الذرية التي جاءتها النبوات والكتب فلم تكن على شاكلة واحدة، ﴿ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴾ (الحديد: 26)، وهو تلخيص قصير لذلك الخط الطويل .
- قال تعالى: ﴿ إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ ﴾(النساء: 163).
وهذه الآية تفيد أن جميع النبيين هم من بعد نوح عليه السلام، وبهذا تستقيم الآيتان في إثبات أن جميع الأنبياء هم من ذرية نوح عليه السلام .
وجاءت الآية هكذا: ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا * وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا * رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾ (النساء: 163- 165).
فهو إذن موكب واحد يتراءى على طريق التاريخ البشري الموصول، ورسالة واحدة بهدي واحد للإنذار والتبشير، موكب واحد يضمُّ هذه الصفوة المختارة من البشر، وقد ابتدأت الآية بنوح عليه السلام وبيَّنت أن النبيين جاؤوا من بعده، فنوح عليه السلام وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب، ويونس وهارون وسليمان وداود وموسى … وغيرهم ممن قصَّهم الله على نبيه صلى الله عليه وسلم في القرآن الكريم، وممن لم يقصصهم عليه.
إنَّه موكب من شتى الأقوام والأجناس، وشتى البقاع والأرضين في شتى الآونة والأزمان، لا يفرقهم نسب ولا جنس ولا أرض ولا وطن ولا زمن ولا بيئة، كلهم آتٍ من ذلك المصدر الكريم وكلهم يحمل ذلك النور الهادي، وكلهم يؤدي الإنذار والتبشير، وكلهم يحاول أن يأخذ بزمام القافلة البشرية إلى ذلك النور، سواء منهم؛ من جاء لعشيرة، ومن جاء لقوم، ومن جاء لمدينة، ومن جاء لقطر، ثم من جاء للناس أجمعين، محمد رسول الله عليه الصلاة والسلام خاتم النبيين.
فكل الرسل تلقوا الوحي من الله، وما جاء أحدهم بشيء من عنده، وإذا كان الله قد كلم موسى تكليماً، فهو لون من الوحي لا يعرف أحد كيف كان يتمّ؛ لأن القرآن الكريم – وهو المصدر الوحيد الصحيح الذي لا يرقى الشك إلى صحته- لم يفصِّل لنا في ذلك شيئاً، فلا نعلم إلا أنه كان كلاماً ولكن ما طبيعته؟ وكيف تمَّ؟ وبأية حاسة أو قوة كان موسى يتلقاه؟ فكل ذلك ضرب من الغيب لم يحدثنا عنه القرآن، وليس وراء القرآن – من هذا الباب- إلا أساطير لا تستند إلى برهان.
أولئك الرسل – من قصَّ الله على رسوله منهم ومن لم يقصص- اقتضت عدالة الله ورحمته أن يبعث بهم إلى عباده يبشرونهم بما أعدَّه الله للمؤمنين الطائعين من نعيم ورضوان، وينذرونهم بما أعدَّه الله للكافرين العصاة من جحيم وغضب، كل ذلك ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾.
ولله الحجة البالغة في الأنفس والآفاق، وقد أعطى الله البشر من العقل ما يتدبرون به دلائل الإيمان في الأنفس الآفاق، ولكنه سبحانه وتعالى رحمة منه بعباده، وتقديراً لغلبة الشهوات على تلك الأداة العظيمة التي أعطاها لهم – أداة العقل- اقتضت حكمته ورحمته أن يرسل إليهم الرسل )مبشرين ومنذرين)، يذكِّرونهم ويبصِّرونهم ويحاولون استنقاذ فطرتهم وتحرير عقولهم من ركام الشهوات، التي تحجب عنها أو تحجبها عن دلائل الهدى وموجبات الإيمان في الأنفس والآفاق ﴿ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾.
عزيزاً: قادراً على أخذ العباد بما كسبوا ، حكيماً: يدبر الأمر كله بالحكمة، ويضع كل أمر في نصابه، والقدرة والحكمة لهما عملهما فيما قدَّره الله في هذا الأمر وارتضاه .
- إن الله سرد قصص عدد من الرسل في سورة مريم، وذكر من بينهم إدريس عليه السلام في قوله تعالى: ﴿ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا * وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا ﴾ (مريم: 56- 57)
- ،ثم عقَّب ذلك بقوله: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا ﴾ (مريم: 58).
وهذا من أقوى الأدلة على كون إدريس من ذرية نوح، ووجه دلالة الآية على ذلك أنَّ قوله (أولئك الذين) إشارة إلى أولئك الرسل الذين ذكرت قصتهم قبل الآية، ومنهم إدريس السلام عليه الذي هو آخرهم في الذكر، فدلَّ ذلك على أنَّ كل من سبق ذكرهم من الأنبياء هم من ذرية نوح، بل ومن ذرية إبراهيم .
ولا نملك نحن تحديد زمان إدريس، ولكن الأرجح أنه من ذرية نوح وإبراهيم – عليهما السلام – وليس من أنبياء بني إسرائيل، فلم يرد ذكره في كتبهم، والقرآن يصفه بأنه كان صديقاً نبياً، ويسجل له أن الله رفعه مكاناً علياً، فأعلى قدره ورفع ذكره وعلى أية حال فنحن نكتفي بما جاء في القرآن الكريم، ونرجِّح أنه سابق على أنبياء بني إسرائيل، وأنه من ذرية نوح عليه السلام.
ويقف السياق في هذا الاستعراض عند المعالم البارزة في صفحة النبوة في تاريخ البشرية “من ذرية آدم”، “وممن حملنا مع نوح”، “من ذرية إبراهيم وإسرائيل”، فآدم يشمل الجميع، ونوح يشمل من بعده، وإبراهيم يشمل فرعي النبوة الكبيرَين، ويعقوب يشمل شجرة بني إسرائيل، وإسماعيل وإليه ينتسب العرب ومنهم خاتم النبيين.
أولئك النبيون ومعهم من هدى الله واجتبى من الصالحين من ذريتهم، فصفتهم البارزة: “إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجداً وبكياً”، فهم أيضاً شديدو الحساسية بالله ترتعش مشاعرهم حين تتلى عليهم آياته، فلا تسعفهم الكلمات للتعبير عما يخالج نفوسهم من تأثُّر، فتفيض عيونهم بالدموع ويخرُّون سجَّداً وبكياً .
هذا ويتأكد أن إدريس عليه السلام من ذرية نوح – عليه السلام – أنه كلما جاء ذكر نوح مع غيره من الرسل – عليهم السلام – يتمُّ التنبيه على أسبقيته عليهم في معظم السور التي ذُكرت فيها قصة نوح مع غيره، ففي:
- سورة الأنعام: ﴿ ووَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ ﴾ (الأنعام: 84).
- وفي سورة التوبة: ﴿ أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ ﴾ (التوبة: 70) .
- ومثلها في سورة غافر: ﴿ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ ﴾ (غافر: 5).
- وفي سورة الذاريات: ﴿ وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ﴾ (الذاريات: 46).
- وفي سورة النجم: ﴿ وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى ﴾ (النجم: 52).
في حين أنَّ إدريس عليه السلام لم يُذكر بالقبلية على غيره من الأنبياء ولو مرة واحدة، ولو كان ذلك واقعاً لوُصف بذلك كما هو الحال في شأن نوح عليه السلام.
- ما أخرجه ابن حبان في صحيحه من حديث أبي أمامة أن رجلاً قال: يا رسول الله أنبيٌّ كان آدم؟ قال: “نعم، مُكلَّم“، قال: فكم بينه وبين نوح؟ قال: “عشرة قرون” . وأخرجه الحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما: كان بين آدم ونوح عشرة قرون .
ووجه دلالة هذه الآثار أن إدريس عليه السلام لم يكن قبل نوح عليه السلام، وقد قرنت نوحاً بآدم عليهما السلام في تحديد المدة بينهما، وذلك دليل على أن ليس بينهما رسول آخر، ولو كان بينهما إدريس عليه السلام لذكر هو بدلاً من آدم عليه السلام، ولم يسكت عنه في جميع النصوص السابقة.
- قول أهل الموقف – يوم القيامة في الحديث الصحيح – “أنت أول الرسل إلى أهل الأرض.” فهذا الحديث – وهو في الصحيحين- يفيد أن نوحاً لم يسبقه رسول بعد آدم عليه السلام.
- إنَّ ابن كثير – وهو ممن قدَّم إدريس على نوح في البداية والنهاية اعتماداً على ما اشتهر عند المؤرخين تشكك في صحة تقديم إدريس على نوح، فقال وهو يسرد نسب نوح هو نوح بن لامك بن متوشلخ بن خَنُوخ، وهو إدريس النبي عليه السلام فيما يزعمون، فقوله “فيما يزعمون”: دليل على أنَّ تقديم إدريس على نوح عليهما السلام في نظره لا يعد أن يكون مجرد زعم، والزعم كما قالوا: هو مطية الكذب.
- إنَّ ابن كثير مع تقديمه إدريس في الترجمة على نوح إلا أنه عدل عن ذلك وصرح بخلافه في كتاب التفسير،
- فقال في قوله تعالى: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ﴾ (الشورى: 13). قال رحمه الله: فذكر أول الرسل بعد آدم، وهو نوح عليه السلام وآخرهم هو محمد صلى الله عليه وسلم. وهذا منه تصريح أنه يرى أن نوحاً هو أول الرسل بخلاف ما صنعه في التاريخ فإنه قد قلَّد المؤرخين في ذلك.
- في صحيح البخاري من حديث أنس رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم حين مرَّ بإدريس عليه السلام في السماء الرابعة، قال له إدريس: مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح . ولم يقل له كما قال له آدم وإبراهيم عليهما السلام مرحباً بالنبي الصالح والابن الصالح، فلو كان إدريس هو الخنوخ: الذي هو الجدُّ الأعلى لنوح عليه السلام، لكان هو أيضاً الجد الأعلى للنبي صلى الله عليه وسلم، ويسلِّم على النبي صلى الله عليه وسلم بما سلَّم عليه كلٌّ من آدم وإبراهيم عليهما السلام .
وبهذا يتضح خطأ من قال إنَّ إدريس بين نوح وآدم، وثبت أنَّ نوحاً عليه السلام هو أول الرسل، كما أنَّ الاختلاف في تقديم نوح على إدريس، أو إدريس عليه لا يترتب عليه محذور شرعي طالما أن الجميع متفقون على أنهما من الأنبياء والمرسلين، ولكن لا يليق بعالم أن لا يلتفت إلى كل تلك الأدلة من النصوص الشرعية في تقديم نوح على إدريس عليهما السلام ثم يعتمد على ما ذكره المؤرخون الذين جُلُّ اعتمادهم في ترتيب الأنبياء على ما في كتب بني إسرائيل المحرفة.
مراجع البحث:
علي محمد الصلابي، نوح عليه السلام والطوفان العظيم (ميلاد الحضارة الإنسانية الثانية)، دار ابن كثير، ص26-33
ابن كثير، تفسير القرآن العظيم (تفسير ابن كثير)، دار الحديث، القاهرة، 1415ه، 1994م، 3/ 431.
سيد قطب، في ظلال القرآن، دار الشروق للطباعة والنشر، القاهرة، ط 38، 1430ه ، 2009م ، 6/3495.
عمر إيمان أبو بكر، قصة نوح عليه السلام، ، دار الفكر العربي، الطبعة الأولى، 1428ه- 2017م. ص 9.
صلاح الخالدي، القصص القرآني عرض وقائع وتحليل أحداث، دار القلم، دمشق – الدار الشامية، بيروت، ط1، 1419ه، 1998م ، 1/ 159.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق