تونس.. على خطى السلطويات العربية
خليل العناني
يوم 22 نوفمبر/تشرين الثاني 2012 أصدر الرئيس المصري الراحل محمد مرسي إعلاناً دستوريا يحصّن قراراته من الطعن أمام القضاء مما أدى إلى رفض وغضب القوى السياسية التي اتهمت مرسي بالسعي لإقامة حكم سلطوي ومستبد. وقد مهد هذا الإعلان الدستوري الطريق لاحقاً للإطاحة بالرئيس وإنهاء التجربة الديمقراطية الناشئة في مصر بعد انقلاب 3 يوليو/تموز 2013.
شيء أسوأ من ذلك بكثير حدث في تونس يوم 25 من الشهر الجاري وذلك حين قام الرئيس قيس سعيّد بتعليق البرلمان المنتخب ورفع الحصانة عن النواب، وإقالة الحكومة، وتعيين نفسه كنائب عام، وتهديد كل من يخالف هذه الإجراءات بالعقاب. وفي اليوم التالي تم فرض حظر التجوال، والاعتداء على الإعلام مثلما حدث مع مكتب قناة الجزيرة.
من الصعب عدم وصف ما فعله سعيّد منذ ٢٥ يوليو/تموز وحتى الآن بشيء آخر، غير أنه انقلاب على التجربة الديمقراطية الوليدة، وانقلاب على الدستور الذي تم استفتاء الشعب عليه في يناير/كانون الأول 2014. وقد استغل سعيّد تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية من أجل ترسيخ وضع جديد تكون الكلمة العليا فيه للرئاسة وليس للبرلمان والحكومة.
منذ ذلك الوقت انقسمت الآراء بين من يعتبرون أن ما قام به سعيد هو تصحيح مسار للثورة التي قامت قبل 10 سنوات ومحاولة إخراج البلاد من الأزمة الاقتصادية والاجتماعية الطاحنة التي تمر بها، ومن يعتبره انقلاباً دستورياً على الثورة حيث منح صلاحيات غير عادية للرئيس.
حقيقة الأمر، فإنه من الصعب اعتبار ما قام به سعيّد تصحيحاً لمسار الثورة وذلك لعدة أسباب. أولاً أنه قام بالانقضاض على أهم مكاسب الثورة وهو تمثيل إرادة الناس من خلال مؤسسات منتخبة كالبرلمان والحكومة. فالبرلمان الذي تم إيقافه جاءت من خلال انتخابات حرة ونزيهة عام 2019 شارك بها ما يقرب من 41.3% من الناخبين. وثانيها، أنه لا يمكن تصحيح مسار الثورة عبر إعطاء الرئيس لنفسه صلاحيات واسعة تجعله المتحكم في المشهد السياسي في ظل غياب البرلمان وعدم وجود المحكمة الدستورية. وبالتالي فلا يوجد رقيب أو حسيب على قرارات وأفعال سعيد. وثالثها، وهو الأهم فإن الخطوات التي اتخذها سعيد تتناقض مع الدستور. فعلى الرغم من أنه برر إجراءاته الأحادية وفقاً للمادة 80 من الدستور والتي تستدعي اتخاذ إجراءات استثنائية في حالة وجود خطر داهم يهدد كيان البلاد وأمنها واستقلالها، إلا أنها تنص أيضا على أن يظل البرلمان في حالة انعقاد دائم طيلة هذه الفترة. كما أنه يجب استشارة رئيس الحكومة ورئيس مجلس نواب الشعب بها. وهو ما لم يحدث حيث قام سعيد بتعليق عمل البرلمان في انتهاك صارخ للدستور.
وأخيراً، فإن أي ادعاء بدعم الثورة لا يكون من خلال تقويض الحياة الديمقراطية، ولكن عبر مزيد من الإجراءات الديمقراطية التي تضمن عدم تغول أي من السلطات على الأخرى، وألا يتم التعدي على إرادة المواطنين مهما كانت الأسباب. صحيح أن الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية في تونس وصلت إلى مستويات غير مسبوقة من التدهور خاصة مع تداعيات كوفيد-19 وارتفاع عدد الضحايا من المصابين والوفيات، ولكن هذا لا يكون بتقويض مؤسسات الدولة بل دعمها وتقويتها لمواجهة هذه الأزمة.
من الصعب عدم وصف ما فعله سعيّد منذ ٢٥ يوليو/تموز وحتى الآن بشيء آخر، غير أنه انقلاب على التجربة الديمقراطية الوليدة، وانقلاب على الدستور الذي تم استفتاء الشعب عليه في يناير/كانون الأول 2014. وقد استغل سعيّد تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية من أجل ترسيخ وضع جديد تكون الكلمة العليا فيه للرئاسة وليس للبرلمان والحكومة.
وقد تمت صناعة الانقلاب على مدار شهور عديدة سواء من خلال الصدام المستمر بين سعيّد من جهة، والبرلمان والحكومة من جهة أخرى، أو من خلال تعطيله للقرارات والتشريعات التي حاول البرلمان تمريرها ورفضها سعيّد مثل قانون تشكيل المحكمة الدستورية. وقد كشفت ميدل إيست آي" في مايو/أيار الماضي عن وثيقة مسربة أن الرئيس يخطط لعمل انقلاب دستوري لصالح مؤسسة الرئاسة واعتقال عدد من خصومه السياسيين خاصة حركة النهضة. وقد حدث بالفعل ما جاء في تلك الوثيقة بعد شهرين من تسريبها.
يسعى سعيّد بشكل دؤوب لتغيير موازين القوى في تونس، وإعادة تعريف قواعد اللعبة السياسية بحيث تكون اليد العليا له وليس لأية مؤسسات أخرى. فمنذ أن جاء للسلطة لم يبد ارتياحاً لطبيعة النظام السياسي الذي يوزع السلطات بين الرئاسة والبرلمان والحكومة.
ولذلك فقد عطّل تشكيل حكومتي كل من إلياس الفخفاخ وهشام المشيشي أكثر من مرة. كما أنه عبّر في أكثر من مناسبة عن امتعاضه و"قرفه" الشديد من الطبقة السياسية، وكان يتمنى التخلص منها بأي طريقة باعتباره العقبة في سبيل تحقيق برنامجه الإصلاحي.
من يتابع الخطاب والسلوك السياسي لسعيد منذ أن جاء للسلطة في أكتوبر/تشرين الأول 2019 يكتشف أنه مشروع سلطوي جديد في المنطقة، وأنه يسير على خطى الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي الذي قاد انقلاب 3 يوليو/تموز الذي أجهض التجربة الديمقراطية في مصر وارتكب انتهاكات مروعة لحقوق الإنسان.
وربما ليس مفاجئا زيارة سعيد للقاهرة ولقاء السيسي في أبريل/نيسان الماضي حيث أجريا محادثات منفردة لا يعلم أحد ماذا دار خلالها. بل الأكثر من ذلك، فتبدو بصمات الإمارات واضحة على انقلاب سعيد سواء من حيث الشكل أو المضمون. فعلى مدار السنوات الأخيرة موّلت الإمارات حملات الدعاية السلبية ضد الثورة التونسية، وساعدت بعض السياسيين الفاسدين المحسوبين على نظام بن علي مثل النائبة عبير موسي من أجل تخريب العملية السياسية خاصة في البرلمان وتعطيل عمله كي يبدو عاجزاً أمام الجماهير. فإسقاط الإسلاميين في الشرق الأوسط هدف أساسي وإستراتيجي لولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد الذي ينفق المليارات من أجل دعم الأنظمة السلطوية العربية. وتحاول الإمارات استنساخ تجربة "الحاكم السلطوي القوي" في تونس كما فعلت من قبل، ولا تزال، مع السيسي في مصر، وحفتر في ليبيا.
يقرأ سعيّد من نفس كتاب الاستبداد والانقلابات، ويستخدم نفس اللغة والتكتيكات التي استخدمها السيسي للوصول إلى السلطة وأهمها الخطاب الشعبوي وتضخيم الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية من أجل تبرير إجراءاته الاستثنائية، الاستثمار في الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، تشويه الخصوم الأيديولوجيين خاصة الإسلاميين، تقوية مؤسسة الرئاسة، الاعتماد على المؤسسات الأمنية والاستخباراتية خاصة الجيش، التهديد باستخدام القوة والسلاح مع المخالفين، التحالف مع قوى الثورة المضادة كالإمارات والسعودية، إلخ.
وبالرغم من الاختلافات بين الحالتين المصرية والتونسية، إلا أن الهدف واحد وهو: ترسيخ صورة الحاكم القوي الذي يمكن أن يحكم منفرداً دون الحاجة لأية مؤسسات أخرى. وربما يجب التذكير بأن تاريخ تونس في الانقلابات والحكم الفردي السلطوي أكبر بكثير من تاريخها في الحكم الديمقراطي. فقد حكم الحبيب بورقيبة البلاد منذ منتصف الخمسينيات وحتى أواخر الثمانينيات من خلال حكم سلطوي قمعي. وعام 1987 قام الرئيس السابق زين العابدين بن علي بالانقلاب على الرئيس الذي كان مريضا في ذلك الوقت، وتولي السلطة وأسس واحداً من أكثر الأنظمة القمعية والسلطوية في المنطقة العربية حتى تم إسقاطه في ثورة الياسمين عام 2011.
لذا، فلِمَ الاستغراب من أن يقوم سعيّد بالعودة لنفس المسار القديم وإنشاء حكم سلطوي جديد بنكهة شعبوية؟!
المصدر: موقع "ميدل ايست آي"
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق