الحكاء (21) | ماذا لو عبرتَ نحو الضفة الأخرى؟
أسعد طه
(1)
تجري العادة بأن الانتكاسات التي تصيبنا تأتي من الخارج، فنحتمي بمن هم قريبون منا، من يحملون همومنا ويبذلون ما بوسعهم لنبقى بسلام، لكن انتكاسة حكايتنا تأتي ممن يُفترض أن يكون هو نفسه جدار الحماية، تنعكس الصورة ويتغير ما تلاها، ويبدو المسار أمام صاحب الحكاية أطول ما يكون.
(2)
تبدأ حكايتنا في إحدى القرى الفقيرة في غانا، قلب إفريقيا، حيث الفقر يتهدد كل الناس، بمن فيهم أسرة أنجبت 12 طفلًا، لم يعرف أيٌّ منهم الطريق إلى المدرسة، ولا كيف يقرأ أو يكتب.
وبطلنا هو الأصغر بينهم، لكن حكايته تختلف، فما إن يتم السادسة من عمره حتى يقرر أبوه إرساله إلى العمل في مرافئ الصيد، وكأنه هو الأسوأ حظًّا من بين كافة إخوته، الذين كبروا بما يكفي ليفقد والدهم أي سيطرة عليهم، بعد أن وجد كل منهم -بصورة أو بأخرى- فرصته للرزق.
هل تخيَّلت أن تكون النجاة ذات يوم في موت أحدهم، أن يكون عبورك نحو الضفة الأخرى برحيل مُعَذِّبك في الحياة؟
(3)
يُرسل جيمس إلى العمل مع مجموعات صيد الأسماك، وهناك يكتشف الصغير أن الأمر ليس مجرد وظيفة، بل هو أسير مجموعة عمل قسري من دون أن يفهم أي معنى لذلك.
5 أطفال وهو سادسهم، يبدأون العمل في الثالثة صباحًا ويستمرون حتى الثامنة مساء، يتناولون في اليوم وجبة واحدة، ولا علاج لمن يسقط مريضًا، وجراء ذلك يموت 3 من رفاقه.
يستبدُّ الشوق بأمه، يخبرها قلبها أن ثمَّة خطبًا ما، تسافر لزيارته، تصل إلى حيث يعمل، لكنهم يحولون بينها وبين لقائه، يبكي كلاهما وتُجْبَر على الرحيل، أما والده فإنه يأتي بانتظام، فقط لاستلام المال المتفق عليه مقابل عمل ابنه، ولا يكلف نفسه لقاء ابنه أو مواساته أو ما شابه.
(4)
عندما تكون في وضع مزرٍ، تأمَلُ في النجاة بالطبع، لكنك تريد أكثر من ذلك، تريد تعويضًا عما ألمَّ بك، فتحلم وأنت في أسفل القاع أن تصل إلى القمة، تستنجد بحلم، حلم يعينك على تحقيق هذه القفزة المذهلة.
ذات صبيحة، وبينما يعمل جيمس يسمع أحدَهم يتحدث بلغة مختلفة تبدو له غريبة، يسأل فيعرف أنها تُدعى الإنجليزية، يدور رأسه لساعات طوال، لقد ولد حُلم للتوِّ، يقرر الهرب حتى يحصل على فرصة تمكِّنه من العلم والمعرفة.
وبحماسة طفل لا يدرك كل العواقب، يجمع شتاته ويحاول الاختفاء أملا في لحظة مناسبة للهروب، لكنهم يلقون القبض عليه، ويلقى نصيبه من الضرب والتعذيب، يكرر جيمس على مدار السنوات التالية محاولات الهرب كلما واتته فرصة، وفي كل مرة يفشل، وينال المزيد من العقاب، لكن من قال: إن الأحلام تموت بتلك السهولة؟
(5)
هل تخيَّلت أن تكون النجاة ذات يوم في موت أحدهم، أن يكون عبورك نحو الضفة الأخرى برحيل مُعَذِّبك في الحياة؟
يبلغ جيمس الثالثة عشرة، شابٌّ في بدايات فترة المراهقة، يُتوفَّى المسؤول عن العمل، ذلك الذي استعبده لسنوات، كان على الجميع أن يشارك في الجنازة قسرًا، ومنهم بلا شك جيمس.
صاحبنا راودته فكرة وعَزَم على فعلها، في خضم الزحام، وبينما الجميع مشغول بأمر الجنازة، يفرُّ بطلُنا، ويُلقي بنفسه في أول حافلة تمر به.
يتوجَّه إلى بيت أسرته الذي خرج منه وهو في السادسة مُجْبَرًا على حياة لم يتمنَّها أبدًا، تعقد المفاجأة ألسنة الجميع، لكن ثمة مفاجأة أكبر، لقد قرَّر الفقير الذي لا يجيد القراءة ولا الكتابة أن يلتحق بمدرسة الحي، يسخر الجميع منه: لقد جننتَ يا جيمس!
(6)
تنقسم العائلة على نفسها، تبتهج والدته بقراره الانخراط في مسار التعليم، في حين يغضب والده ويعلن سخطه لما يجري، يزداد الانقسام ويشتعل الخلاف إلى أن ينفصل الزوجان بعد هذا العمر الطويل، ويتفكك رباط العائلة.
لكن جيمس يزداد عزيمة، ويشتعل شعوره بالتحدي أكثر فأكثر، هو لا يعرف القراءة ولا الكتابة، ولا يملك المال الكافي للإنفاق على دراسته، لكنه سيتحدى ذلك كله، وسوف يحل مشاكله واحدة.. واحدة، سيعمل بجانب المدرسة، وسيتعلم القراءة والكتابة.
تمر سنوات، والصبي كأنه يحفر في الجبل، يخوض المعركة وحده تمامًا، بين زملاء هو أشدهم فقرًا وأقلهم علمًا، لكنه يتقدم في دراسته بصورة مذهلة، إلى أن يتعلم الإنجليزية كما حلم تمامًا.
(7)
يلتحق بالجامعة ويتفوق فيها، ويكون في تخرجه ضمن الطلبة الأوائل، وقت غير طويل يمر ليصله قرار تعيينه موظفًا في بنك بالعاصمة غانا.
ها هي الدنيا تبتسم له أخيرًا، لقد عبر إلى الضفة الأخرى، لكن عبوره العظيم ذاك لم يكن نهاية المطاف.
إنه نبيل، ولذا يريد مساعدة الآخرين، وأن يسهم في نجاة الأطفال الآخرين مما لحق به وآذاه، لقد قرر أن يسعى في بناء جسر يعبر الآخرون فوقه إلى الضفة التي وصل إليها.
ينشئ جيمس عنان مؤسسة لتعليم الأطفال وإنقاذهم من عبودية العمل والحياة القاسية، وتنجح تلك المؤسسة في جذب الكثير من أطفال الأسر الفقيرة، وتوفير فرص تعليم مناسب لكثير منهم، وإنقاذهم من عصابات العمل القسري.
تواصل مؤسسته نجاحها حتى تصبح من أهم جمعيات إنقاذ الأطفال في غانا، وتحصل على 8 جوائز دولية في مجال التعليم وإنقاذ الطفولة.
وأنت.. ألم تعبر إلى ضفتك الأخرى بعد؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق