فقه النّبيِّ صلى الله عليه وسلم في التّعامل مع السٌنن
«والسُّنن الَّتي تحكم الحياة واحدةٌ؛ فما وقع منها من زمانٍ مضى سيقع في كلِّ زمان».
وهذه السُّنن هي الَّتي يُجْرِي الله - تعالى - عليها فَلَكَ الحياة، ويُسيِّرُ عليها حركَتَها، فليس هناك شيءٌ واحدٌ في حياة البشر يحدُث اعتباطاً، وإنَّما يجري كلُّ شيءٍ في هذه الحياة حسب سُنن اللهِ تعالى؛ الَّتي لا تتبدَّل، ولا تتخلَّف، ولا تحابي أحداً من الخلق، ولا تستجيب لأهواء البشر.
والمسلمون أولى أن يدركوا سنن ربِّهم المبرزة لهم في كتاب الله، وفي سنة رسول صلى الله عليه وسلم ، حتَّى يصلوا إلى ما يرجون من عزَّةٍ وتمكينٍ؛ «فإنَّ التَّمكين لا يأتي عفواً، ولا ينزل اعتباطاً، ولا يخبط خَبْطَ عشواء، بل إنَّ له قوانينه الَّتي سجَّلها الله تعالى في كتابه الكريم؛ ليعرفها عباده المؤمنون، ويتعاملوا معها على بصيرة».
إنَّ أوَّل شروط التعامل المنهجيِّ السليم مع السُّنن الإلهيَّة، والقوانين الكونيَّة في الأفراد، والمجتمعات، والأمم، هو أن نفهم، بل نفقه فقهاً شاملاً رشيداً هذه السُّنن، وكيف تعمل ضمن النَّاموس الإلهيِّ، أو ما نعبر عنه بـ «فقه السُّنن»، ونستنبط منها على ضوء فقهنا لها القوانين الاجتماعيَّة، والمعادلات الحضاريَّة.
يقول الأستاذ البنا - رحمه الله - في منهجيَّة التَّعامل مع السُّنن: «لا تصادموا نواميس الكون؛ فإنَّها غلابة، ولكن غالبوها، واستخدموها، وحوِّلوا تيَّارها، واستعينوا ببعضها على بعضٍ، وترقَّبوا ساعة النَّصر، وما هي منكم ببعيد».
ونلاحظ في هذا الكلام عدَّة أمورٍ مهمَّةٍ:
1 - عدم المصادمة.
2 - المغالبة.
3ـ الاستخدام.
4 - التَّحويل.
5 - الاستعانة ببعضها على بعضٍ.
6 - ترقُّب ساعة النَّصر.
إنَّ ما وصل إليه الأستاذ البنَّا يدلُّ على دراسته العميقة للسِّيرة النَّبويَّة، والتَّاريخ الإسلاميِّ، وتجارب الشُّعوب، والأمم، ومعرفةٍ صحيحةٍ للواقع الَّذي يعيشه، وتوصيفٍ سليمٍ للدَّاء، والدَّواء.
إنَّ حركة الإسلام الأولى؛ الَّتي قادها النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم في تنظيم جهود الدَّعوة، وإقامة الدَّولة، وصناعة الإنسان النموذجيِّ الرَّبانيِّ الحضاريِّ خضعت لسنن، وقوانين قد ذكر بعضها بنوعٍ من الإيجاز؛ كأهمِّيَّة القيادة في صناعة الحضارات، وأهمِّيَّة الجماعة المؤمنة المنظَّمة في مقاومة الباطل، وأهمِّية المنهج الَّذي تستمدُّ منه العقائد، والأخلاق، والعبادات، والقيم، والتَّصوُّرات. ومن سنن الله الواضحة فيما ذكر سنَّة التَّدرُّج، وهي من سنن الله تعالى في خلقه، وكونه، وهي من السُّنن المهمَّة الَّتي يجب على الأمَّة أن تراعيها، وهي تعمل للنُّهوض، والتَّمكين لدين الله عزَّ وجلَّ.
ومنطلق هذه السُّنَّة: أنَّ الطَّريق طويلٌ - لا سيَّما في هذا العصر الَّذي سيطرت فيه الجاهليَّة، وأخذت أُهْبَتَها، واستعدادها - كما أنَّ الشرَّ، والفساد قد تَجَذَّر في الشُّعوب، واستئصاله يحتاج إلى تدرُّج.
بدأت الدَّعوة الإسلاميَّة الأولى متدرجةً، تسير بالنَّاس سيراً دقيقاً، حيث بدأت بمرحلة الاصطفاء، والتَّأسيس، ثمَّ مرحلة المواجهة والمقاومة، ثمَّ مرحلة النَّصر والتَّمكين، وما كان يمكن أن تبدأ هذه جميعها في وقتٍ واحدٍ، وإلا كانت المشقَّة، والعجز، وما كان يمكن كذلك أن تقدم واحدةٌ منها على الأخرى، وإلا كان الخلل، والإرباك.
إنَّ اعتبار هذه السُّنَّة في غاية الأهمِّيَّة؛ «ذلك أنَّ بعض العاملين في حقل الدَّعوة الإسلاميَّة يحسبون أنَّ التَّمكين يمكن أن يتحقَّق بين عشيةٍ وضحاها، ويريدون أن يغيِّروا الواقع الَّذي تحياه الأمَّة الإسلاميَّة في طرفة عينٍ، دون النَّظر في العواقب، ودون فهمٍ للظُّروف، والملابسات المحيطة بهذا الواقع، ودون إعدادٍ جيِّدٍ للمقدِّمات، أو للأساليب، والوسائل»، وقد وجَّهالله تعالى أنظارنا إلى هذه السُّنَّة في أكثر من موقع، فالله - تعالى - خلق السَّموات والأرض في ستَّة أيام، يعلمها سبحانه، ويعلم مقدارها، وكان - جلَّ شأنُه - قادراً على خلقها في أقلَّ مِنْ لمح البصر، وكذلك بالنسبة لأطوار خلق الإنسان، والحيوان، والنَّبات، كلُّها تتدرَّج في مراحل حتَّى تبلغ نماءها، وكمالها، ونضجها، وَفْقَ سنَّة الله - تعالى - الحكيمة.
«وهذه السُّنَّة الرَّبَّانيَّة في رعاية التَّدرُّج ينبغي أن تُتَّبع في سياسة النَّاس، وعندما يُراد تطبيق الإسلام في الحياة، واستئناف حياةٍ إسلاميَّةٍ متكاملةٍ؛ يكون التَّمكين ثمرتها، فإذا أردنا أن نقيم مجتمعاً إسلامياً حقيقيّاً؛ فلا نتوهَّم: أنَّ ذلك يمكن أن يتحقَّق بقرارٍ يصدر من رئيسٍ، أو ملكٍ، أو من مجلسٍ قياديٍّ، أو برلمانيٍّ، وإنَّما يتحقَّق ذلك بطريق التَّدرُّج؛ أي: بالإعداد، والتَّهيئة الفكريَّة، والنَّفسيَّة، والاجتماعيَّة.
وذلك هو المنهج الَّذي سلطه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم لتغيير الحياة الجاهليَّة إلى الحياة الإسلاميَّة، فقد ظلَّ ثلاثة عشر عاماً في مكَّة، كانت مهمَّته الأساسية فيها تنحصر في تربية الجيل المؤمن، الذي يستطيع أن يحمل عبء الدَّعوة، وتكاليف الجهاد؛ لحمايتها، ونشرها في الآفاق، ولهذا لم تكن المرحلة المكِّيَّة مرحلة تشريعٍ بقدر ما كانت مرحلة تربيةٍ، وتكوينٍ».
مراجع البحث:
علي محمد الصلابي، السيرة النبوية: عرض وقائع وتحليل أحداث، ص 136-132
يوسف القرضاويي، الخصائص العامَّة للإسلام ، ص 166.
محمد السيد، التَّمكين للأمَّة الإسلاميَّة ، ص 208.
يوسف القرضاوي، جيل النَّصر المنشود ، ص 15.
محمد قطب،واقعنا المعاصر ، ص 414.
سيد قطب، في ظلال القران (1/478).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق