العواصف القادمة.. والخطاب الجديد للبابا فرنسيس |
أ. د. زينب عبد العزيز |
يقول التعليق أسفل الصورة (يوم الأحد، في الفاتيكان) "بعض الأتباع يلومون البابا فرانسيس على "احتقاره" و"عنفه".. وفي تعليق منشور بأحد مواقعه نطالع: "من الواضح ان البابا فرانسيس يمارس سلطة مطلقة ومنفلتة، سلطة عشوائية بمعني الكلمة"! وحينما تتجرأ صحيفة "كورييري ديلا سيرا" الإيطالية كتابة مثل هذه العبارة بعرض الصفحة، فذلك يعني أن هناك حدثا متفردا قد قام به البابا رغم أنف الجميع، مع ملاحظة افصاحه المتكرر عن أنه لا يحب الحكم المتفرد.. فهل يدل الوضع على أنه على وشك الإطاحة به، رغم أن وظيفته خارج القانون على الإطلاق..
فقد أصدر البابا خطابا رسوليا طواعيةً، أي أنه بلا مناسبة ومن تلقاء نفسه وغير مرتبط ولو شكلا بأي حدث رسمي. وقد تم ذلك يوم 16 الجاري، يوليو 2021. فقد ألغي فيه الحرية السائدة التي منحها البابا السابق بنديكت 16، بالسماح بإقامة القداس وفقا للنسق القديم أي باللغة اللاتينية. فكان القداس يقام مرتين على التوالي لمن يشاء، مرة باللغة الرسمية للبلد، ومرة باللاتينية. وقوبل قرار البابا فرانسيس بموجة عاتية وغير مألوفة من النقد والسخرية اللاذعة التي راحت تنتقد تصرفه وتصفه بأنه يطيح بالكاثوليكية، وبعدم الفهم، والمرارة، أو بالثورة ضد الجماعات المتدينة والقوانين المسيحية التقليدية التي ألفها الأتباع. بل لقد انتقده العديد من كبار رجال الدين أو الكتّاب متهمينه باحتقار القيم الراسخة، و"عنفه تجاه الأتباع"، و"أن تصرفه هذا صادم ويفتقد الي رهافة الحس"، وأنه قد "حطم ما قام به البابا السابق من إصلاح أثناء باباويته".
وهذا البابا السابق، بنديكت 16، الذي استقال من منصبه ويعيش عزلته في أحد مباني الفاتيكان، وهو وضع متفرد أن تحوي جدران ذلك المبني العتيق باباوان في آن واحد. أحدهما منتخب رسميا والآخر هارب من القانون، ومستقيل من منصب البابوية. غير ان الوثائق "الأخرى" تؤكد أنه يتوارى خلف الحصانة الدبلوماسية للفاتيكان هربا من تنفيذ أحد الأحكام الجنائية ضده..
واجتاحت موجة الغضب العديد من الكتّاب، حتى الملحدين منهم، من قبيل ميشيل أونفريه. أما القس ألدو ماريا ڤاللي، فيفضح الأكاذيب الواردة في خطاب البابا فرنسيس وخاصة طابعه الإنتقامي، السوقي" على حد قوله، مضيفا: "أنها سوقية تمثل العلامة المميزة للبابوية الحالية"! ومن الموضوعات التي آثارها: زعم البابا فرانسيس أنه يقوم بتوحيد نص القداس مثلما فعل سابقوه، خاصة البابا/القديس الراحل بيوس الخامس، الذي ألغي كافة الطقوس السابقة لكي يوحد استخدام نفس النص في كافة الكنائس. ويا له من تعديل وتبديل للمسيحية وفقا للأهواء.
إلا أنه على عكس بيوس الخامس، قام فرنسيس بمحو كل ما هو تراث رسولي ليفرض قداسا وُلد منذ خمسين عاما في مجمع الفاتيكان الثاني. فهو بذلك يُعلن عن توليه سلطة مطلقة تُسكت الجميع.. وينهي تعليقه قائلا: "إن البابا يستخدم حقائق رعوية لخدمة أكاذيب، ويستخدم هذه الأكاذيب ليزعم أنه يقول الحق".. وبدلا من شرح أنه لا يمكن لأحد أن يقنن أو يُعدل من نسق القداس القديم، فقد زعم البابا فرانسيس إن الأتباع الذين يتمسكون بنظام القداس القديم، الذي يُقرأ باللاتينية وظهر البابا في مواجهة الجمهور، أنهم منبعٌ للفتنة بين الأتباع..
وقد اختتم البابا فرانسيس الخطاب الكنسي الذي أصدره بلا سبب معروف أو واضح، على الأقل شكلا، بعبارة تقول: "بينما أقوم أثناء ممارسة سلطتي واتخاذي قرار إلغاء ما قام به مَن سبقوني، أرجو منكم أن تتقاسموا معي هذا العبء".. وهي عبارة لها معناها إذ أنها تُذكّر بتلك التي أطلقها اليهود عند صلب المسيح: "إن دماؤه ستقع علينا وعلى أبنائنا"! وكأن جملة البابا فرانسيس تكشف عن أنه مدرك لخطورة ما قام به، أو كأنه يشعر أن عقاب ما سوف يقع عليه فيطالب الأساقفة أن يتقاسموا معه عواقب هذا الخطاب الرسولي.. كما أن مثل هذا التصرف يؤكد، من جهة أخري، كيف يتم التلاعب بنصوص وقوانين تلك المسيحية التي يتبدل نسيجها، منذ تكوينها، وفقا للأهواء أو الأغراض السياسية وغيرها، ثم يتصور أتباعها أو يصر قادتهم على أنها ديانة منزلة..
وينهي القس آلدو ماريا ڤاللي مقاله قائلا: "الوثيقة تتسم بالغضب والحقد.. نحن حيال علامة وقاحة وانحلال. وهذه الوقاحة وهذا الانحلال هما سمة مميزة لرئاسة برجوليو للكنيسة" (وبرجوليو هو الاسم المدني لبابا). ذلك لأن البابا قد ختم رسالته قائلا: "إما أن تتبعوا مجمع الفاتيكان الثاني أو تتبعوا القداس القديم. والاثنان لا يتفقان لأنه لا يمكن الانتماء الي كنيستين مختلفتين. من يتّبع مجمع الفاتيكان الثاني يقر بأن الكنيسة قد وُلدت في هذه اللحظة وهي تختلف عن الكنيسة السابقة لدرجة أنه لا مكان فيها للكنيسة السابقة".. وهو ما يثبت التغيير الجذري الفاضح لمجمع الفاتيكان الثاني، أو بقول آخر: أنه بمثابة "حجر شاهد"، ما يوضع أمام المقابر، للَهوت الاستمرارية. أي أن البابا قد دفنه إلى غير رجعة، أو هو "تلفيق لم يكن له أن يستمر". ومن الواضح أن البابا يبدو وحيدا كربّان باخرة علي بحر عاصف ينتظر مصيره.. وتنفيذ تواطؤا ته..
ومن الواضح أن نقطة الخلاف الجوهرية تكمن في محتوى مجمع الفاتيكان الثاني الذي خرجت فيه الكنيسة عن أساس دينها وعن كل ما هي قائمة عليه: فبعد أن ظلت ألفا عام تحارب وتطارد وتطيح باليهود على أنهم "قتلة الرب"، اكتشفت فجأة في ذلك المجمع أن اليهود أبرياء من دم المسيح! فأصدرت قرارا بتبرأتهم من دم المسيح، فالأتباع ألفوا ابتلاع أي تغيير، وقرر المجمع إن اليهود هم "الإخوة الأكبر السابقون في الإيمان".. وهو ما أثبت لجميع الأتباع بكل فرقهم، خاصة في الغرب، ان تلك المسيحية، بكنائسها ال 350 المنشقة عقائديا، يتم التلاعب بها وفقا للأهواء والأغراض المتعددة.. أو بقول آخر لقد تحالفت الكنيسة مع الصهاينة لضم مصالحهم المشتركة لاقتلاع الإسلام. وذلك من أهم قرارات مجمع الفاتيكان الثاني.
أما تنصير العالم فهي مسألة سيتم حسمها فيما بينهما! فالفاتيكان يتخيل ان تبرئة اليهود والتحالف معهم لاقتلاع الإسلام سيتوقف عند ذلك التصالح الشكلي، وأن اليهود لن ينتقموا لكل ما تجرعوه من آلام وإهانات بل وقتل لمدة الفي عام، متناسيا أن الصهاينة يمتلكون أحدي مخطوطات قمران التي تثبت ان الكنيسة نقلت حياة سيد العدالة وألبست أهم تفاصيلها، وهي المحاكمة والصلب، لحياة السيد المسيح التي نسجتها..
والوضع ليس بحاجة إلى ذكاء مفرط لفهم هذا التلاعب بالدين: فقد تحالفت الكنيسة مع الصهاينة لتثبيت وضعهم المبني على خطأ، والصمت على استيلائهم أرض فلسطين المنهوبة بموجب خطاب بلفور، ذلك الخطاب الذي لا أساس ولا حق قانوني له، والذي لا بد من العمل على إلغائه من أساسه وإلغاء كل ما ترتب عليه.
أما حقيقة السبب غير المعلن في خطاب البابا فرنسيس، فهو: إن القداس القديم كان يطالب اليهود بأن يتنصّروا.. وحتى عام 2008 كانت هذه المرجعية سائدة وتشير إلى "عماء" اليهود ويدعوهم النص الكنسي أن يكفوا عن عمائهم ويُبصروا للانضمام الي المسيح.. والخطاب الذي أصدره البابا يلغي ما كان سائدا منذ القدم ويلزم جميع الأتباع بالالتزام بكل ما أصدره مجمع الفاتيكان الثاني، أي تبرئة اليهود من دم المسيح وباقي قراراته التي منها اقتلاع الإسلام وتنصير العالم.
وفيما مضي كان اليهود قلقون لأن قرار بنديكت 16 قد أتاح العودة الي القداس القديم رغم قرار مجمع الفاتيكان الثاني الذي برأهم. لذلك حسم البابا فرانسيس الموقف تضامنا مع الصهاينة، وقد يكون هذا الانقلاب مفروض عليه من الصهاينة، لتغيير النص الكنسي وللتعاون معهم على اقتلاع الإسلام، خاصة من أرض فلسطين، لإقامة المعبد اليهودي مكان المسجد الأقصى، وفقا لرئيس الوزراء الجديد، الذي تم انتخابه في الأسابيع الماضية والذي وعد بسرعة تنفيذ ذلك إذ أنه قد بدأ بالفعل في خطته.
والمتابع للأحداث الجارية هناك، في فلسطين المنهوبة، وجرائم العنف التي لم تتوقف منذ الهدنة المعلنة دوليا والتي لم يلتزم بها الصهاينة، يدرك معني ما يعدّون له فعلا حاليا. فلقد تواصلت عمليات العنف والهدم والاعتقالات بأنواعها، ولم يلتزم الصهاينة بوقف إطلاق النار. بل يواصلون هدم منازل الفلسطينيين، أو تحديدا منازل بعض المناضلين، بل لقد وصل الإجرام بهؤلاء القوم الي ضرب بعض الفلسطينيين في الشوارع ثم شنقهم علنا أمام المارة.. وما أكثر ما تورده بعض المواقع والجرائد الفرنسية، بغضب واضح، هذه الأيام رغم صمت الإعلام العربي..
بل ما أكثر ما تتبادله الجرائد الغربية حول رئيس دولة الصهاينة الجديد وتصريحه بأنه قد أعدّ العدة فعلا لإقامة معبد الهيكل.. وهي تصريحات يُفهم منها ضمناً أنه بدأ فعلا تنفيذ خطته ووعده الانتخابي لهدم المسجد الأقصى.. بفضل أو رغم ذلك الصمت الرهيب.
زينب عبد العزيز
20 يوليو 2021
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق