المفاوضات السرية بين السيسي والله
وائل قنديل
ديسمبر/ كانون الأول 2015 "ما تخافوش الوضع مطمئن، وأنا ما ضيعتكوش قبل كده عشان أضيعكم تاني".
يوليو/ تموز 2021 "بلاش هري القلق لا يليق بنا".
المتحدث عبد الفتاح السيسي، والموضوع مياه النيل وسد النهضة .. وبين القولين ست سنوات وخمسة أشهر من الدجل والتطاوس الفج، الذي بلغ حدًا غير مسبوق في إطلالة الجنرال، نجم النجوم والبطل الأوحد، في ملعب القاهرة الدولي، الأخيرة، بإعلانه عن مفاوضاتٍ سرّية دارت بينه وبين الله، جلّ في علاه، تناولت الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية.
قال السيسي لجمهور حفلته التي امتدت لما بعد منتصف الليل "اسمعوني كويس، جا ربنا قالي طيب أنا هخلي معاك أكتر من الفلوس هخلي معاك البركة وريني هتعمل ايه في بلدك وهتعمل ايه لناسك؟ هتغير صحيح؟ هتصلح أحوال صحيح؟ هتراضي الناس صحيح؟ هتسعد الناس صحيح؟".
حالة السيسي تطوّرت للغاية عما كانت عليه في العام الأول لاستيلائه على الحكم، حين كان ينتحل صفات العارفين والحكماء والفلاسفة .. الآن بات السيسي متصلًا بالله مباشرة، كليم الله الذي يحاوره ويطلب منه.
لو كان في مصر رجال دين حقيقيون، يخشون الله حقًا، لتصدّوا لهذه الجرأة على الذات الإلهية، ولم يسكتوا أمام هذه المرحلة المستعصية من التجديف والتطاول والسفه، الذي يبتذل العقيدة ويستهين بالمقدّس ويهبط بالكلام عن الله إلى حضيض الطغيان وجنون العظمة، متجاوزًا حالة الحاكم بأمر الله التي ظهر عليها السيسي في بدايات جلوسه على العرش.
هذه الهستيريا الكهنوتية تتحوّل هنا من بارانويا فاقعة إلى واحدةٍ من أدوات الاستبداد والقمع. وبما أن الرجل وصل إلى مرحلة التفاوض والتحاور مع الله، فليس من سلطة البشر العاديين، ولا من حقوقهم، أو من صلاحياتهم، محاسبته أو سؤاله عن النيل والمياه والحرية والديمقراطية، فكل هذه الأشياء من مفسدات الإيمان، ومن مبطلات الوطنية، والرد الناجع عليها هو "كفاية هري" أو: لا تسألوا عن أشياء إن تبدُ لكم تسؤكم.
هل كان من الممكن أن يصل السيسي إلى هذه الحالة، لو لم يجد سياسيين ومثقفين يحملون المباخر ويعزفون موسيقى الطغيان على أوتار مشدودةٍ بين عظام المختلفين معهم سياسيًا؟
الحقيقة إن كهنة الوطنية ومحترفي الشعوذة السياسية هم من يصنعون الطاغية، ويبيعون طغيانه للشعب، باعتباره الحل الوحيد، لكل المشاكل، أو بتعبير الشاعر الراحل محمد عفيفي مطر، في مقطوعة نثرية أبلغ من الشعر
"لا يظهر الطاغية بكامل طغيانه فجأة، فليس هذا من أصول الصناعة، ولا بد من خطواتٍ محسوبةٍ متدرجةٍ تقابلها خطوات أخرى حتى يتم النداء .
"إنه قد جاء استجابة لنداء التاريخ ومطالب الشعب، فهو روح الجماعة وإرادتها وقوتها الضاربة، والجماعة هاربةٌ من ذاتها لا تستطيع مواجهة العبء والمنافقون من خدم كل العصور يبتدعون له تاريخًا من التلفيقات، وشيئًا فشيئًا يشيرون عليه بما يقول، فهو الحكيم الملهم العبقري، أقوالهم على لسانه، وشعاراته النارية فكرٌ غير مسبوق، وخطبه برامج عمل للأجيال القادمة، ورجال الدين يضفون عليه وعلى قراراته هالات القداسة واليقين".
في شتاء 2013، وبعد أربعة أشهر من سلسلة مذابح الجنرال (مدّعي الاتصال بالله)، قرّر سياسيون التبكير بشقّ طريق الطغيان، فدشّنت شخصياتٌ عامةٌ وسياسيةٌ حركةً أطلقوا عليها "الشعب يأمر"، والهدف أن يكون الاستبداد باسم الشعب، وضمّت الحركة النائبين البرلمانيين السابقين جمال زهران (أستاذ علوم سياسية) وحمدي الفخراني نائب وناشط (اقتيد إلى السجن بعد انتهاء دوره وتم سحله فوق منصّات الإعلام)، خرجوا على الناس بحركةٍ تمنح الفريق عبد الفتاح السيسي رتبة المشير، وتطالبه بالترشّح لرئاسة الجمهورية، واعتماد قانون الإرهاب أسلوبًا وحيدًا للتعاطي مع كل من يعارض مشروعه .. كانت معهما في قيادة الحركة السيسية المباركة سيدة تدعى الحاجة عواطف، نشرت صحيفة المصري اليوم، في ذلك الوقت، على لسانها "أطالب المشير السيسي بأن يترشّح للرئاسة ويصبح رئيساً، ولن يكسر له أحدٌ كلمة، وأقول له، إنت من الأهرامات الثلاثة ولن يهزّك ريح".
هذا الجنون صنعه أناسٌ منا، وهذا العته طلبه بعضنا، وسعى إليه بإرادته المحضة، وهذا الطغيان استحضره الكهنة والدجّالون، مسبوقًا بعبارة "بناء على طلب الجماهير" تلك الجماهير المسحوقة بين سندان الجوع ومطرقة الخوف، والتي صارت بلا حولٍ ولا قوة أمام من يدّعي أنه كليم الله وسلطانه على الأرض.
هذا الخراب الروحي والأخلاقي يجد من يستفيد منه في الخارج، فيغذّيه وينعشه وينفق عليه بسخاء، ولن ينهيه إلا الداخل، هذا الداخل الذي يخدّره الكهنة والأفاقون بحواديت اصطفاف الجماهير خلف القيادة التي أوسعت الجماهير عطشًا وقمعًا وقهرًا، فلم تعد تقدر على الاعتراض، فكيف تعترض على القيادة التي لم تعد بحاجةٍ إلى تفويض الجماهير، بعد أن صارت في تفاوض مع رب الجماهير؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق