بذكر المحبوب يعتدل سرب الحمام
عبد الحكيم حيدر
ما الذي جعل لمجرّد ذكر اسم المحبوب، ولو لماماً، كل هذا الأثر الجميل في الروح والحديث وفتح أبواب الكلام إلى تلك الأماكن المركونة في غرفات الشجن الغامضة، فإذا بالبعيد يمتلك أطراف الحديث، وإذا بالنائم يصحو فجأةً من عثرات الكلام، وينقر طائرٌ في سلك شباك، فتحسّ أنه قد جاء مستمتعا بحرير الكلام.
ذكر السيرة، سيرة المحبوب أو اسمه، كتحايلٍ على الوقت، وتحايلٌ على قسوة النسيان، وللمحبوب حضورُه، حتى وإن كان خاطفا وحتى في حضرة العزول، يطوف المحبّ في الحكي، أو في حيّز المقهى، ويقف عند هالة الاسم، لاسم المحبوب هالة، "عفراء مثلا"، وكيف كانت أصابعها حينما لمت القمر في الكيس مع التمر ليلا، حينما كانت الجِمال تهمّ بالرحيل بعد التجارة في بادية العراق أو الشام أو نجد أو بئر بنات شعيب أو "موردة صغيرة"، كان يتم فيها غسل القمح فوق مياه شواطئ الترع، أيام كانت هناك مياه صافية وترع وموردة وبنات يخرجن في عزّ شمس الظهيرة لغسيل القمح، وسمك يغمز هناك بالسنانير.
يظلّ الاسم، حتى وإن ذهب صاحب الاسم إلى حرب اليمن، أو تزوجت في بنغازي في أواخر الستينيات، وصار لها أولاد كبروا في السن، يظل الاسم كنجمةٍ جاءت ووضعت نفسها في الشباك، كي تغازل الذكرى مع صديق جاء كي يسلم ويرى الحمام، ويراك وفي يده عصاته بعدما كبر وصارت النظّارة صديقته لتكبير الكلمات، والنجمة هناك تحكي والاسم يأتي، فيضحك بهدوء أول مرّة، فتظهر الضحكة جزءا صغيرا من الروح التي طالها المشيب أيضا، ويطلب كبريتا كي يولع سيجارة، فتحضر له الكبريت وتطلّ حمامة، فيقول ضاحكا: "تعرف الحمام عفريت وأنت مربّي غرفتين عفاريت".
يأتي الشاي ويزداد بهاء الاسم حضورا في الجلسة، فيسألك عما يتبقى في الاسم بعد ما يغادرك صاحبه؟، فلا أتعجّل الإجابة لأن السؤال كان مباغتا ومن شخصٍ عادة يمشي على ألمه لمصالحة من دون أن يقف أمام تلك المواضيع.
اندهشت أمام السؤال، وقلت له نشرب أولاً الشاي ونستمتع بذكرى الاسم، ولا أنت خايف من وجع الاسم؟
قال لي: "والله أنت الخايف"، ضحكت وجئت له ببسكويت العيد، فقال لي: "ياه يخرب بيتك أنت الليلة عاوز تموتني؟"، وحكى أن أمه حينما فكّرت بعمل البسكويت أول مرة، قالت لي هات ماكينة البسكويت من بيت فلان، فوقفت أمام العتبة حتى خرجت هي بالماكينة ملفوفة في قماشة، ضحك وقال: "عليّ الطلاق بالثلاتة ريحة القماشة ال كانت ملفوفة فيها ماكينة البسكويت لسّه في مناخيري، ده أنت ليلتك طين أنت وحمامك". اعتدل الكلام ورحنا معا "للموردة"، قال "يا عفريت، ما تنسنيش سؤالي"، قلت له "سنرجع وأنت ما تهربش من نسيم الموردة".
كان الحمام قد هدأ تماماً في الغرفتين، وسرب حمام هناك يحلّق قبل زوال النور من السطوح. قال: حينما سافرت إلى البصرة وعملت في محل للأدوات الكهربائية، كان صاحب المحل له ابنة اسمها وعود، كانت تحبّ الحمام، حكى لي ذلك والدها، والغريب أنني كنت أرى في عينيها حمامتين. فجأةً، قال لي والدها، إن وعود ستتزوّج من ابن خالتها خلال شهرين، فلم أعد أرى الحمامتين وحتى الاسم، إلا أنك حينما دعوتني، من يومين، كي نرى الحمام حلمت أمس بوعود، وهي تعود إلى المحل حزينة، وتسألني عن مكان والدها، لأن الأسرة باتت من شهور لا تعرف مكانه، فظللتُ مهموما، فلماذا تأخرت في الإجابة عن سؤالي يا عفريت؟ كي تجرجرني؟
قلت له لا والله، فأنا أحبّك تحكي، والإجابة قد تأتي في ساعةٍ أخرى ولا أنت عاوز تقطع المودّة؟ فسكت طويلا، وأنا سألته عن فلان كي أمدّ حبل الكلام، قال: "ما شفتوش من عشرين سنة بعد ما رجع من ليبيا ونص عياله هناك، وسمعت إنه بيتعالج بس مش كوّيس، بس أولاده حلوين وهو بيقعد بالعافية في المكتبة بعد الست مراته ما اتوفت من قريب، وحب يجوز والعيال زعله منه وخاصموه"، ثم أكمل: "عشان أنت مش عاوز تجاوبني، يا عفريت، على سؤالي، أنا هقوم أمشي وأسيبك بس ما تنساش تسأل عليّ، لأني أنا بشتاق عليك".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق