على هامش النيوكولونيالية
نور الدين قدور رافع
هي إحدى العبارات التي لخصت الهيمنة الاستعمارية بالمنطقة العربية، إذ كان المحتل الغربي يعيث في الأرض فسادا بتدمير القرى وتهجير الأهالي، بل تعدّى جرمه إلى تغيير التركيبة الاجتماعية بالتلاعب بأنساب وألقاب المستعمَرين، وحمْلهم على التخلي عن موروثهم الثقافي/الديني، مستعينا على ذلك بمؤسسة استشراقية أنتجت من المتخيّل عربيا مهووسا بالقتل، همجيا لدرجة أنّه سيصبح عبئا على الحضارة الغربية عند تحرره، ولتعزيز التلفيقات تلك شرعت المؤسسة الاستشراقية في استهداف اللغة والثقافة لدى الشعوب المستعمَرة، بخلق رواة محليين بإمكانهم وصف الأمكنة والطرق والطبيعة وفق الرؤية الاستشراقية الدونيّة، واقتصار "الشرق" الساحر على الطبيعة الجميلة وتناثر القبائل وبداوة العربي ولباسه التقليدي، متجاهلة الإرث "ما قبل الكولونيالي" للحضارة العربية وتاريخها الممتد إلى العمق الأوروبي.
الذاكرة الاستعمارية وتقاليد الجمهورية الفرنسية
بعد انجلاء المستعمِر وتمكّن من عدّوا أنفسهم "الأحق" بالحكم، باتت الرهانات ترسم ملامح مرحلة انتقالية حرجة، ليس بمقدور القيادة حينئذ تجاوز العقبات التي لغّم بها الاحتلال المجتمع والثقافة، فضلا عن الإرث الدموي للتاريخ الاستعماري وجرائمه بحق الأرض والإنسان، وبدل "الاعتراف بالخطأ التاريخي" ضد الإنسانية، تتجاوز الآلة الدعائية الغربية كل الحقائق التي تفضح زيفها الحضاري، بإعادة خلق ذاكرة جمعية للهيمنة على مستقبل الشعوب المستمرة في تحررها من أطراف النيوكولونيالية، فمن "البورجوازية الكومبرادورية" التي رسخّت نموذج الأنظمة الوظيفية متوّجة حكمها بالخوف والقتل إلى "الاستلاب العولماتي" العابر للحق الإنساني في تقرير شعب ما مصيره، ظلت التحديات تمتحن القيم الحضارية والالتزامات الأممية تجاه تحقيق العدالة الكاملة للمهمّشين.
يستعيد الغرب تقاليده من سردياته التاريخية عن المسلمين، كونهم مصدر الإرهاب والخوف المنتشر في العالم، بكثير من التلفيق النيوكولونيالي الذي تتشبث الجمهورية الفرنسية به لسنّ قوانين الفصل والانعزال اللاأخلاقية تجاه الأقلية المسلمة، معلنة بكل صفاقة وخسّة حضورها الاستعماري في منتجعاتها بالضفة الجنوبية، تحت ذريعة مكافحة الإرهاب الإسلامي وداعميه، لتنبري فرنسا ذات السجل التاريخي الدموي الحافل بتقاليد التهجير والاستيطان، والإرهاب العابر لحدود الثقافة والهوية، بتقديم دروسها في العنصرية والإسلاموفوبيا لأولئك الذين لا يتوانون عن ارتكاب أبشع الفظائع بحق شعوبهم.
فرنسا المؤسسة لمتحف الإنسان القائم على تفوق العنصر الأوروبي تلاحقها اللعنات أينما وطأت أقدامها السوداء، وغير بعيد عن تاريخها الاستعماري، هي اليوم تكافح للتخلص من تبعات الإبادة الجماعية التي ارتكبتها بأفريقيا الوسطى ورواندا ومالي، مقدمة الدعم المالي واللوجستي لمنظمات إرهابية ضمن إستراتيجيتها لصناعة العدو، فجمهورية الكرواسون تعيش "إفلاسا حضاريا وأخلاقيا" مع تفاقم الخطابات الشعبوية لدى ساستها وتبنّيهم الاستعداء الصريح على التنوع والاختلاف والقيم الإنسانية، بل إنّ التيار الليبرالي لا يجد حرجا في اجترار الأسطوانة النيوكولونيالية للأصولية التنويرية، معتبرا "اللائكية الرجعية" ميثاقا لا يمكنه احتواء التنوع الثقافي والاجتماعي للأقليات المسلمة.
وبدل العمل على "تصفية الاستعمار" بالاعتراف الكامل بالجرم التاريخي، يتمسك ساسة الإليزيه مع كل استحقاق انتخابي بسلوك صبياني يتماشى وفرضيات زائفة، تتكشف معها نظرة الاحتقار إلى مستعمراتها، مجرّدة إيّاها من الحق في الديمقراطية والحرية.
وعلى هامش قيم الجمهورية التي انبرت لتقديم المواعظ والدروس عن الحرية والديمقراطية، تبرز القيم اللاأخلاقية لفرنسا في دعمها للإرهاب والعمل على تأسيس أنظمة دكتاتورية قمعية، حيث يتقدم الرئيس ماكرون مع ثلّة من الأكاديميين والسياسيين المنغمسين في تاريخ استيطاني استئصالي إلى تلخيص "حريـة المعتقد" في "شعار العلمانية المتصلّب" الذي تتباهى فرنسا به، في حين تترسخ العنصرية والإقصاء وفوبيا الآخر مع كل تصريح يدلي به الساسة والمثقفون في المجتمع الفرنسي، باختزالهم الحرية في رسوم مسيئة للآخر، وفي التطاول بعنف على التنوع المجتمعي والهوياتي.
تتخبط الجمهورية الفرنسية وسط تحديات كبيرة ليس مع الإرهاب العابر للقارات كما تزعم، بل مع إرهاب يتأصل داخل بنية نظامها السياسي/الثقافي، ضمن حضور يميني يستعدي التنوع ويحرص بشكل مريع على استرضاء الصهيونية متغاضيا عن مجازرها، ويكفي أن تُجرّم معاداة الساميّة والعنصرية بشكل قانوني وإلزامي في الجمهورية كي تتهاوى الالتزامات الأخلاقية تجاه القضايا التاريخية للمستعمرات الفرنسية، بالتغاضي عن "طلب الاعتراف" و"التجاوز" نحو شراكة اقتصادية تضمن للورثة الكومبرادوريين حضورهم المستقبلي في تقرير مصير شعوبهم.
مع أنّ هذا الاختزال الهش لا ينطبق وفق التقاليد الفرنسية على المحرقة بوصفها "حدثا تاريخيا مؤسسا" لتجريم معاداة الساميّة، إلا أنّ تاريخ الاستيطان الفرنسي يتجاهل تجاهلا استفزازيا جرائم الإبادة بحق شعوب أفريقيا، فهي تنظر إلى تاريخ مستعمراتها بحضور استعلائي يتغذى من التفوق الحضاري الذي بشّرت به قيم التنوير المجسّدة بمتحف الإنسان.
الحقيقة التي ترسّخها الجمهورية الفرنسية بعيدا عن قيمها التنويرية واستفحال عقدة ساستها ونخبتها التاريخية لا تحتاج إلى كثير من التحليل لتقييم مردودها الأخلاقي على المجتمعات المهمشة تاريخيا وحضاريا، فهي اليوم تعيش عزلة أخلاقية سببها الملاحقات التاريخية التي لا ترغب الجمهورية بوضع اللبنة الأولى للاعتراف، ليس بالجرم التاريخي الممتد إلى قرنين من الزمن فحسب، بل بجرائم ضد الإنسانية ترعاها فرنسا في سبيل تبرير إحلال الشتات مكان الشعب الأصلي.
في سلّة مهملات النيوكولونيالية
للوهلة الأولى تبدو مسألة الاعتراف نقطة حاسمة لاستجلاب الحق التاريخي للشعوب المستعمَرة، غير أنّ التحولات السياسية والاقتصادية فرضت نوعا جديدا من "المطالبة الشرعية للاعتراف" إلى "قبول الصفح"، بوصفه خطا مفصليا تُتجاوز به عتبة تحديد الجرم والإقرار به والعمل على تصحيحه.
مقارنة بالحدث التاريخي الدموي لليهود في أوروبا الذي اختصره الغرب في المحرقة، ودفع الألمان تعويضات تجاوزت الالتزام الأخلاقي والتاريخي للاعتراف بالخطأ إلى تحميلهم تبعات المحافظة على كيان استعماري صهيوني لا يختلف في جرائمه عن النازية، يراوغ الغرب -مع فارق التاريخ الكولونيالي الاستيطاني/الاقتصادي- في طلب الصفح من اليهود الذين تمت عمليات الإبادة بحقهم، ليس بتوطينهم داخل البيئة التي عايشوا بها الجرم التاريخي، بل بالتخلص منهم ضمن عملية إحلال وتوطين لشتات غربي مكان شعب تضرب عوائله عمق التاريخ.
كان الاعتراف بالمحرقة يأخذ منحى أخلاقيا لولا استغلال الصهيونية للحدث التاريخي بمعزل عن الجرائم البشعة تجاه الأقليات والسكان الأصليين، فثمة تجاوز عنيف "للشرط الإنساني" بحق أولئك الذين استُؤصِلوا من أوطانهم وغيّبتهم بربرية الغرب تجاه ثقافتهم وتنوعهم العرقي/الديني، فالاعتراف بالجرم وطلب الصفح من الضحايا لا يتعلقان بحدث ما، بقدر ما يتعلقان بـ"الدافع الإنساني" كأيديولوجيا متأصّلة غرضها إزاحة الخطيئة وتصحيحها إذا اقتضى التفكير بلوغ استحالة وقوع المصالحة، ولعل المحارق التي أوقد الغرب نيرانها وهو يبيد أمما بأكملها لم تأخذ "حقها الإنساني" لها حتى يُطلب منه الاعتراف بها.
تبدو عملية تقنين الاعتراف وطرح مشاريع تجرّم الاستعمار غير قابلة للنضج ولا للنقاش في بيئة مرتبكة، إذ إنّها متأتية من سجال سياسي يتلاعب بالمشاعر الوطنية والتاريخ الاستعماري، بعيدا عن الاشتغال الحقيقي لتخليص الذاكرة من براثن الهيمنة والتبعية، فالمسألة لا تتعلق بأعداد القتلى ولا بالتطهير العرقي الذي لحق بالمستعمَرين، بل بالشر الذي تجاوز المادي ليبلغ "منتهاه الرمزي" بكثير من الوحشية والإقصاء والتمييز، ولولا أنّه ممتد إلى عمق المركزية الغربية في تكوينها الحضاري لاستحال حدوث جرائم تجاوزت الصراع الاقتصادي/السياسي إلى إقرار "الحق في القتل" ضمن إستراتيجية تخليق العدو للنيوكولونيالية.
ومما لا شك فيه أنّ تبنّي قوانين تجرّم الاستعمار وتدعو إلى تصفيته بصفة نهائية يُعدّ عملية معقدة لما يعتريها من تجاذبات سياسية وتاريخية، تفقد بموجبها مسألة تصفية الاستعمار حضورها الأخلاقي والقانوني لدى المستغيثين بالاستعمار الجديد، فغزو أفغانستان والعراق وتدخلات فرنسا في مناطق بأفريقيا تستوجب على من يختزلون الاعتراف في شكل مصالحة اقتصادية/سياسية النظر في جدّية الالتزام الأممي تجاه مسألة الإقرار بـ"إنهاء الاستعمار"، واعتباره حالة إنسانية لمجتمعات عانت وما زالت تتجرّع ويلات الهيمنة الغربية، بدل الارتماء في أحضان مؤتمرات مهمتها الأولى إنصاف المستعمِر في الاستيطان والاستيلاء.
من المهم العمل على فرض قانون يجرّم الاستعمار وجميع أشكاله الجديدة، إلى جانب اللغة والخطاب اللذين سيكتبان التقارير المستندة إلى الحقائق التاريخية، غير أنّ المشكلة لا تكمن في حجم التقارير ولا في الروايات التي تقرّ بها المركزية الغربية، فإسرائيل كيان استيطاني عنصري لا يهتم بالتقارير التي تبرز همجيته وإرهابه العالمي، فهي فوق أيّ نقد أخلاقي وقانوني من شأنه أن يجسّد الرفض الدولي لأشكال الهيمنة الصهيونية، وهذا مدعاة للعودة إلى جدوى الصفح عن الآخر كونه ناهبا للثروة لا استيطانيا مهددا للثقافة والعرق والدين، وقبول اعترافه بجرائم الكولونيالية، وهو بعد يدعم التهجير والإخفاء القسري ويشّرع القوانين التي تجرّم معاداة الصهيونية، ومن المبكر الرّهان على التقارير والقوانين المجرّمة للاستعمار، في ظل تخليق مستمر للبربرية الغربية وإعادة إنتاجها للكومبرادورية التي من شأنها أن تعزز الحضور الاستعماري، ليغدو الاعتراف بالخطأ "منحة غربية" لا التزاما أخلاقيا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق