دروس في الدبلوماسية وحقوق الإنسان من أردوغان إلى سفراء الغرب
شهدنا منذ فترة قصيرة حدثًا نادرا في تاريخ الدبلوماسية العالمية. فقد أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أن سفراء عشر دول "غير مرغوب فيهم" ليتصدر هذا الخبر عناوين وسائل الإعلام العالمية.
وفي الواقع، لم يحدث مطلقا أن طردت دولة سفراء عشر دول بإعلانهم "أشخاصًا غير مرغوب فيهم".
للوهلة الأولى، يبدو هذا الحدث الاستثنائي ضربًا من "الجنون"، حسب ما ورد في العديد من التقارير الإخبارية.
إن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وحده القادر على اتخاذ هذا القرار دون أن يكترث لما قد يولده من ردود فعل. وبما أن هذه القصة تتناسب مع الصورة التي حاولت وسائل الإعلام الغربية رسمها عن أردوغان، كانت هذه الخطوة في الواقع متوقعةً منه.
في مثل هذا النوع من الأزمات، عادة ما تحاول الدول الأقوى إثبات مدى تفوقها ولا يكون الهدف تدمير الطرف الآخر وإنما إخضاعه، فإما أن تشعر بالخضوع والإهانة، وإما تفرض وجودك وتظهر قوتك وتعوّد مخاطبك على التعامل معك على قدم المساواة. وقد أثبت أردوغان هذه المرة أن تركيا لن تقبل بعد الآن التعامل الفوقي في العلاقات الدبلوماسية.
لكن أردوغان لم يتخذ هذا القرار الذي وصفه البعض بـ"الجنوني" من فراغ أو من تلقاء نفسه، وبالطبع لن يقدم الرئيس التركي عن اتخاذ خطوات مثيرة للجدل دون أن يكون لذلك سبب وجيه. في الحقيقة، تجرأ هؤلاء السفراء العشرة على التدخل في شؤون البلاد الداخلية من خلال إصدار بيان يطلبون فيه من القضاء التركي إنهاء قضية حيّة ومستمرة في تركيا، وهذا هو الجنون بعينه.
لو أن سفيرا واحدا تجاوز نطاق صلاحياته لكان الأمر مختلفًا، لكن ما حدث هو أن عشرة سفراء اجتمعوا وأصدروا بيانا جماعيًا في سابقة هي الأولى من نوعها، وهو تجاوز دبلوماسي خطير لا يمكن السكوت عنه أو التسامح معه.
تتمثل مهام السفراء في تطوير العلاقات بين الدول التي يمثلونها والبلدان المضيفة، وحلّ المشاكل الدبلوماسية وتعزيز التفاهم المتبادل وعلاقات التعاون والمبادلات التجارية. كما تحدد اتفاقية فيينا صلاحيات السفير وتمنعه من التدخل بأي شكل من الأشكال في الشؤون الداخلية للبلد المضيف. مع ذلك، لم يتوان سفراء عشر دول عن التدخل في شؤون تركيا بشكل جماعي من خلال إظهار التمرد على الأعراف الدولية كأنهم مناضلون، وهذا التصرف في حد ذاته استفزازي للغاية ويتجاوز جميع الصلاحيات والقواعد التي ينبغي على السفير احترامها.
ولو فكّر هؤلاء السفراء، الذين من واجبهم تحسين العلاقات الثنائية بين دولهم وتركيا، في أمر يمكنه الإضرار بالعلاقات الدبلوماسية لما وجدوا فكرة أفضل من إصدار هذا البيان الجماعي. ومهما اعتُبر قرار الرئيس التركي جنونيًا، فإنه من غير المنطقي أن يقبل زعيم حازم مثل أردوغان أن تُنتهك سيادة بلاده واستقلاليتها بهذا العمل السافر.
من الواضح أن أردوغان لم يكن ليسمح بمرور هذا الإجراء غير القانوني مرور الكرام، وقد اتخذ القرار اللازم. لكن الغريب بشأن ما حدث هو أن ردة فعل الرئيس التركي أثارت جدلا أكثر مما فعله السفراء.
حدث تطوّر مثير للاهتمام غيّر مجرى الأحداث بعد أيام قليلة من إعلان الرئيس التركي طرد سفراء عشر دول، وهو اعتذارهم في بيان مشترك وتأكيدهم احترام سيادة تركيا. وقد انتهت هذه الواقعة بتعزيز أردوغان تفوقه الأخلاقي وقيادته الحكيمة. لكن اعتذار السفراء عما فعلوه أثار بعض الأسئلة أبرزها: ألم يأخذ هؤلاء السفراء ردة فعل أردوغان بعين الاعتبار؟
يتّضح من اعتذار هؤلاء السفراء عما بدر منهم أن الخطوة التي اتخذوها لم تكن محسوبة جيدًا، وهو ما يدفعنا إلى التشكيك في رؤيتهم السياسية والإستراتيجية ومدى كفاءتهم في قراءة الأحداث. في المقابل، لا يمكن اعتبار قرار أردوغان راديكاليًا أو غير مسؤول. وما حدث كان ليتسبب في أزمة دبلوماسية عواقبها وخيمة لتركيا والدول التي يمثلها هؤلاء السفراء على حد سواء.
في مثل هذا النوع من الأزمات، عادة ما تحاول الدول الأقوى إثبات مدى تفوقها، ولا يكون الهدف تدمير الطرف الآخر وإنما إخضاعه، فإما أن تشعر بالخضوع والإهانة، وإما تفرض وجودك وتظهر قوتك وتعوّد مخاطبك على التعامل معك على قدم المساواة. وقد أثبت أردوغان هذه المرة أن تركيا لن تقبل بعد الآن التعامل الفوقي في العلاقات الدبلوماسية.
إذا كانت مشاكلهم الحقيقية هي حقوق الإنسان والديمقراطية كما يعلنون دائما، وكان هذا هو المنطلق الذي ادعوا أنه الدافع وراء البيان المشترك في قضية كافالا، فلماذا لا يتضامنون مع الصحفيين والكتاب والسياسيين الفلسطينيين المعتقلين لعقود في السجون الإسرائيلية دون أن يكترث أحد لظروف احتجازهم؟
هل أصبحت الآن السجون التركية أسوأ من السجون الإسرائيلية؟ لماذا لم يشعروا بالحاجة إلى الإدلاء ببيان مشترك ولو بسطر واحد عندما سُجن رئيس مصر الأول المنتخب وترك ليلفظ أنفاسه الأخيرة في قاعة المحكمة؟ لماذا لم تصدر عنهم كلمة واحدة في حق عشرات الآلاف من المعتقلين الذين يموتون في ظروف مزرية؟ أليست هذه الأمثلة حالات أكثر إلحاحًا من حيث حقوق الإنسان والقيم الديمقراطية التي يدعون لها؟
لا شك في أن حرمان شخص واحد من حريته يمثل مشكلة خطيرة، ولا يجوز تجاهل هذا الأمر أبدًا. لكن هل حلّ هذه المشاكل يقع على عاتق سفراء هذه الدول التي تدعم كل أنواع الانقلابات المناهضة للديمقراطية والأنظمة الاستبدادية وانتهاكات حقوق الإنسان؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق