خطة بايدن لقيادة العالم (4) إدارة الدبلوماسية الفائقة
محمود عبد الهادي
اشتملت خطة الرئيس بايدن على أربعة مرتكزات أساسية للتعامل مع القضايا الدولية التي تتعارض كليا أو جزئيا مع سياسة الولايات المتحدة، وهذه المرتكزات هي: الشراكة والدبلوماسية والاحتواء والتفوق، الشراكة لإغراء الدول الكبرى بالدخول في خطط التحول، والدبلوماسية للالتفاف على الخلافات المزمنة، والاحتواء لتجاوز المشكلات المزمنة حتى لا تعيق الخطة، والتفوق الاستثماري والتكنولوجي والعسكري، لتقديم النموذج وتأكيد القدرة العسكرية على التدخل عند الضرورة. وانطلاقا من هذه المرتكزات، ستعمل إدارة الرئيس جو بايدن على قيادة العالم لتنفيذ خطة أهداف التنمية المستدامة على المستوى الدولي، بدبلوماسية فائقة تضمن مشاركة الجميع في ضخ الاستثمارات الهائلة اللازمة للخطة، والتفاعل الإيجابي في إحداث التغيرات الشاملة، الداخلية والإقليمية والدولية المطلوبة لها، دون الاصطدام بأي تعارضات من شأنها عرقلة التنفيذ أو تأخيره.
إذا نجحت إدارة بايدن في المحافظة على سياسة الدبلوماسية الفائقة الحالية، فإن من المرجح أن يشهد العالم في السنوات الثلاث القادمة هدوءًا استثنائيا غير مسبوق أميركيا، على الصعيدين الإقليمي والدولي، وسيكون أداء الإدارة الأميركية أقرب للتعاون والتهدئة منه للتصادم والتوتر، وقد يستمر هذا الهدوء لأربع سنوات أخرى إذا استمر الديمقراطيون في الحكم برئاسة بايدن أو غيره.
من هنا فإن إدارة الرئيس بايدن بحاجة إلى دبلوماسية فائقة لم يعتدها العالم من قبل على الصعيد الدولي، وخاصة مع الخصوم التقليديين من أصحاب القدرة والتأثير استثماريا وتكنولوجيا، من أجل طمأنتهم وحثهم على الدخول في شراكة حقيقية في خطط التحول القادمة، شراكة تحافظ على التوازن في المصالح القومية والخاصة، وقد أشرنا في المقال السابق إلى انعكاسات هذه السياسة على المنطقة العربية، ونتناول في هذا المقال انعكاسات خطة بايدن على المستوى الدولي، وبالذات على صعيد القضايا التي جرت العادة أن تكون مسرحا تقليديا للتحرك السياسي الاستعراضي الأميركي الخارجي:
1. العلاقة مع روسيا
لا تزال روسيا المنافس التقليدي للولايات المتحدة، ورغم خسارتها للقطبية الدولية بانهيار الاتحاد السوفياتي، ورغم انهيار النظام الشيوعية والنظرية الاشتراكية، وانتقالها إلى المعسكر الرأسمالي، فإنها تحتل مكان الصدارة في قائمة المنافسين التقليديين للولايات المتحدة الأميركية، بما تملكه من مكانة في مجلس الأمن، ومن قوة عسكرية، واستقرار اقتصادي، وعلاقات قوية مع العديد من دول العالم، وتدخلات سياسية وعسكرية إقليمية ودولية، وعمل حثيث لاستعادة مكانتها الدولية السابقة. روسيا عضو في الدول العشرين الكبار، ويبلغ عدد سكانها 352 مليون نسمة، وإجمالي الدخل المحلي السنوي لها يبلغ ألف مليار دولار، وهي كذلك من الدول الموقّعة على خطة التنمية المستدامة، وتستهدف تخفيض نسبة الفقر من 13% إلى 6.6% بحلول عام 2030، وستحرص إدارة بايدن على استقطاب روسيا في المرحلة القادمة للمشاركة في خطتها لدفع مشروعات التنمية المستدامة، دون اعتبار لخلافها مع أطماعها التوسعية، وتدخلاتها في سوريا وليبيا وأوكرانيا، ودعمها لإيران وكوريا الشمالية.
2. العلاقة مع الصين
تنفذ الصين حاليا خطتها الخمسية رقم 14 للفترة 2021-2025، والتي تسعى عن طريقها إلى إحداث تطورات كثيرة على المستوى الاقتصادي والاجتماعي، لشعبها الذي بلغ تعداده أكثر من 1.4 مليار نسمة، ضمن إستراتيجيات وطنية تسعى إلى تحقيق الرخاء المشترك وتنشيط الريف والزراعة، ومنع المخاطر المالية الناجمة عن الاحتكار وضعف الاهتمام بالقوى العاملة والطبقة الكادحة، وقد حققت الصين هذا العام معدل نمو استثنائيا بلغ 8.5%، وتولي السوق المحلية أهمية كبيرة لا تقل عن أهمية السوق الخارجية التي بلغ حجم التجارة معها 4.4 ترليونات دولار، بالإضافة إلى كون الصين واحدة من دول الريادة الرقمية عالميا، وتستهدف الوصول إلى صفر كربون بحلول عام 2060، فضلاً عن كونها عضوا في مجلس الأمن، وواحدة من الدول العشرين الكبار.
وينظر الرئيس بايدن إلى الصين باعتبارها دولة ركيزة في تنفيذ مشروعات أهداف التنمية المستدامة والاستثمار في مشروعات الطاقة والتحول الرقمي، وستمكن الدبلوماسية الفائقة لإدارة بايدن من تجميد الخلافات التي بين الولايات المتحدة والصين، وخاصة في ملفات حقوق الإنسان وجزيرة تايوان وكوريا الشمالية، وقد ظهر ذلك جليا في نتائج اللقاء الذي جمع بين وزيري الخارجية الأميركي والصيني على هامش قمة الدول العشرين، حيث أكد الأول على أهمية الحفاظ على خطوط اتصال مفتوحة لإدارة المنافسة بين الولايات المتحدة وجمهورية الصين الشعبية، وأكد على المجالات التي تتقاطع فيها مصالح الدولتين، رغم القلق الذي تبديه الولايات المتحدة من الإجراءات التي تقوم بها الصين التي تقوض النظام الدولي وتتعارض مع قيم الولايات المتحدة ومصالحها ومصالح حلفائها وشركائها.
3. الملف النووي الإيراني
تمثل إيران محور ارتكاز رئيسيا لتثبيت دعائم الاستقرار في الخليج العربي خاصة والشرق الأوسط عامة، وستعمل إدارة بايدن على تهدئة العجاج الذي أثارته إدارة سلفه دونالد ترامب، وإعادة إيران إلى دائرة المجتمع الدولي، للمشاركة في تنفيذ مشروعات التنمية المستدامة، ونزع فتيل التوتر من المنطقة بما يسمح باستكمال اتفاقات أبراهام، ومشروع الشرق الأوسط الجديد. إيران التي تجاوز عدد سكانها 84 مليون نسمة، ويزيد إنتاجها النفطي عن 2.5 مليون برميل يوميا، بلغ إجمالي الناتج المحلي السنوي فيها حوالي 240 مليار دولار يمكن أن يرتفع إلى أكثر من 550 مليار دولار بعد رفع العقوبات والتعافي من آثار جائحة كوفيد، وهي تمثل للإدارة الأميركية قوة اقتصادية لا يستهان بها للمساهمة في خطة التنمية المستدامة.
وانطلاقا من دبلوماسيتها الفائقة عقدت إدارة بايدن قمة خاصة بالاتفاق النووي الإيراني على هامش اليوم الأول من أيام قمة الدول العشرين الكبار، في روما يوم 30 أكتوبر/تشرين الأول الماضي مع كل من بريطانيا وفرنسا وألمانيا، أكد فيها الرئيس بايدن التزام الولايات المتحدة بالامتثال الكامل بالاتفاق النووي مع إيران طالما تفعل طهران الشيء نفسه، وطالما وافقت على تمكين المجتمع الدولي من التحقق على المدى الطويل من أن البرنامج النووي مخصص للأغراض السلمية، وقد حرص البيان الصادر عن هذه القمة على الإشارة إلى أن العودة إلى الاتفاق النووي مع إيران ستؤدي إلى رفع العقوبات، مما يسمح بتعزيز الشراكات الإقليمية وتقليل مخاطر حدوث أزمة نووية من شأنها أن تعرقل الدبلوماسية الإقليمية.
أما ما يخص التدخلات الإيرانية العسكرية في المنطقة العربية على وجه الخصوص، فلم تكن محل اهتمام في هذه القمة، ما دامت التدخلات لم تقف في وجه المصالح الأميركية مباشرة، ومع ذلك لم يفت البيان الإشارة (الدبلوماسية الفائقة) إلى هذه التدخلات بقوله "كما نؤكد عزمنا المشترك على معالجة المخاوف الأمنية الأوسع نطاقا التي أثارتها تصرفات إيران في المنطقة". وهذا يعني أن التدخلات الإيرانية في لبنان وسوريا واليمن والعراق، ستستمر على ما هي عليه، وأي تغيّر في هذه التدخلات لن يكون بسبب الضغوط الأميركية على إيران، وإنما بفعل ما قد يتم التوافق حوله بين إيران وهذه الدول.
4. العلاقة مع تركيا
التصريحات الحادة التي صدرت في الأشهر القليلة الماضية من الطرفين التركي والأميركي تجاه بعضهما بعضا، موجهة للداخل التركي والداخل الأميركي، ولا تعبر عن عمق العلاقات بين الدولتين، ولا عن حجم المصالح المشتركة بينهما. فإدارة بايدن تنظر إلى تركيا باعتبارها دولة أساسية من الدول التي يُفترض أن تساهم بدور كبير في تنفيذ مشروعات التنمية المستدامة، حيث يزيد عدد سكانها عن 84 مليون نسمة، وبلغ إجمالي الدخل المحلي 720 مليار دولار، وقطعت شوطا كبيرا في مجالات التنمية الحضارية المختلفة وفي البنى التحتية والتحول الرقمي، فضلا عن كونها عضوا في الناتو، وفي الدول العشرين الكبار. وقد عبّرت رسالة التهنئة التي وجهها وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن بمناسبة العيد الوطني 98 للجمهورية التركية عن حجم الدبلوماسية الفائقة التي ستتعامل بها الولايات المتحدة مع تركيا في المرحلة القادمة، كحليف وشريك أساسي في عملية التحول وتحقيق أهداف التنمية المستدامة، حيث شدد الوزير على أن تركيا تعتبر حليفا مهما في حلف الناتو، وشريكا للولايات المتحدة.
وأنها وقفت جنبا إلى جنب، على مدى عقود، مع الولايات المتحدة والمجتمع الدولي لمواجهة التحديات العالمية، فهي علاقات طويلة الأمد مبنية على تعاون تجاري ودبلوماسي وأمني قوي، وأن الولايات المتحدة تتطلع إلى توسيع شراكتها مع تركيا في السنوات القادمة. وفي الاتجاه نفسه، جاء تأكيد الرئيس بايدن بعد لقائه بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان على هامش قمة الدول العشرين الكبار يوم الأحد الماضي في روما، على أن الولايات المتحدة ترغب في الحفاظ على علاقات بنّاءة مع تركيا، وتوسيع مجالات التعاون، وإدارة النزاعات بشكل فاعل، دون الإشارة مباشرة إلى تدخلات تركيا الإقليمية في سوريا وأذربيجان وليبيا، وهي تدخلات ستستمر فيها تركيا حفاظا على مصالحها الإستراتيجية.
في ختام هذه المقالات الأربع التي عرضنا فيها لخطة الرئيس بايدن لقيادة العالم، وهي الخطة التي تطابقت ولأول مرة -كما ذكرنا سابقا- مع أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة، فإن المرجح، في حال نجاح إدارة بايدن في المحافظة على سياسة الدبلوماسية الفائقة الحالية، أن يشهد العالم في السنوات الثلاث القادمة هدوءًا استثنائيا غير مسبوق أميركيا، على الصعيدين الإقليمي والدولي، وسيكون أداء الإدارة الأميركية أقرب إلى التعاون والتهدئة منه إلى التصادم والتوتر، وقد يستمر هذا الهدوء لأربع سنوات أخرى إذا استمر الديمقراطيون في الحكم برئاسة بايدن أو غيره.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق