جينات الإمبراطوريات
لكن الشمس لم يعجبها هروب طائرها المدلل الفينق، فأرسلت خلفه حراسها بعرباتهم التي تجرها أحصنة نارية، فطارت شرارات منها للعش فاحترق في داخله وأصبح رمادا.
ومن قلب الرماد خرجت بيضة الولادة، وبعد ثلاثة أيام قام الفينيق من قلب البيضة مؤذنا بولادة جديدة، وعاد من جديد إلى أرض الشمس حاملا رماد سلفه معه ليدفنه في معبد الشمس، وينتظر خمسمائة عام بشغف ليعيش تجربة الولادة من جديد في عشه العطري على الأرض.
هكذا بعض الإمبراطوريات تختفي واحدة وتظهر أخرى وأخرى تولد من رمادها، والسر يكمن في الجين السائد لخلق تلك الإمبراطورية. فتلك التي تظهر ثم تختفي ولا تعود مرة أخرى هي الإمبراطورية التي ولدت من رحم القوة الغاشمة الهمجية كإمبراطورية المغول، لذا تسري عليها سُنن الأرض من التدرج من ضعف فقوة فضعف ثم الموت.
أما الإمبراطوريات التي تولد من رحم الفكرة، فإنها لا تموت أبدا؛ لأن الأفكار لا تموت ما دامت هناك عقول وقلوب تؤمن بها، لكن ينتابها ما ينتاب الأفكار من فترات توهج وأفول، لذلك هي تنتقل عبر الأجيال متحدية الزمن.
إمبراطوريات الترك
ترجع إمبراطوريات الترك إلى إيغوز خان الذي تقول عنه بعض الروايات، إنه هو ذو القرنين الذي ذكر بالقرآن، أقام وأحفاده من قبل الميلاد وإلى الآن 16 إمبراطورية، لم تكن تأفل واحدة إلا وخرجت من رمادها أخرى أشد توهجا.
ضمت تلك الإمبراطوريات بلاد فارس والصين وبعض دول أوروبا الشرقية، ومن أشهرها الإمبراطورية الغزنوية، والخوارزمية، والسلجوقية، والزنكية، والعثمانية.
فالضعف الذي أصاب الخلافة العباسية جعل كارهي الإسلام، خاصة الإسلام السني، يتكالبون على الأمة، مما جعل بعض الدول الإسلامية المستقلة عن مركز الخلافة ببغداد يعلنون عن أهدافهم، وجعل السياسة الدينية هي سياسة حكامهم للحلول مكان بغداد لرعاية الدعوة ونشر الإسلام، ومن هذه الدول:
الغزناويون فاتحو الهند:
قام السلطان محمود بن السبكتكبن الغزنوي بشن حملات عسكرية على بلاد الهند، وفتح أغلبها وقضى على الدولة الشيعية في بلاد السند والبنجاب، وتحالف مع العباسيين لإحباط مخططات الفاطميين، وأزال سلطة البويهيين في الري والجبل (إيران).
السلاجقة العظام
من أعظم الدول التي ظهرت في الإسلام، وكانت دولة سنية أعادت لمقام الخلافة العباسية هيبتها عندما استغاث الخليفة العباسي بطغرل بيك، مؤسس الدولة السلجوقية، ليخلصه من تمرد البساسيري الذي قام بالاستيلاء على بغداد ونفي الخليفة العباسي القائم بالله إلى الموصل، وأقام الدعوة للعبيديين ببغداد لمدة سنة.
فقضى طغرل بيك على تمرد البساسيري وقتله، وأعاد الخلافة السنية مرة أخرى، وأعاد الخليفة القائم بالله لموضعه.
وظلت الدولة السلجوقية هي حامي الخلافة العباسية، ولم تستقل عنها رغم ما وصلت إليه من قوة وتوسع على حساب أراضي الروم والشيعة.
وبعد أن أصيبت الدولة السلجوقية بالضعف وبدأ نجمها بالأفول، كان نجم عماد الدين زنكي يلمع وأرسى دعائم دولته التي خرجت من رماد السلاجقة، مستمدا شرعيتها من الخلافة العباسية أيضا.
وظل يحارب الصليبين تارة والشيعة تارة أخرى بالسلاح وبالعلم، فأنشأ مدارس للمذاهب الأربعة ليحارب انتشار التشيع الذي استشرى.
وكانت أهم صفعة قضت على التشيع في بلاد العرب على يد أحد أبناء قواده، وهو صلاح الدين الأيوبي الذي قضى على الدولة الفاطمية بمصر بعد أن تشيعت لعقود.
دولة الخلافة العثمانية.. أعظم إمبراطورية عرفها التاريخ
شيّد العثمانيون دولتهم في ظل روح الجهاد التي مكنتهم من فرض سيطرتهم على مساحة ضخمة في آسيا وأوربا وأفريقيا.
فباسم الإسلام، بدأ عثمان مؤسس الدولة جهوده في نشر الإسلام بمناطق الثغور، محاربا الصليبين والمغول. وباسم الإسلام، فُتحت البلقان وكانت نقطة الانطلاق لفتوحات أوروبا، وفُتحت القسطنطينية عاصمة الدولة البيزنطية، وأوقفت المخطط الصليبي الذي كان يستهدف دخول بلاد المسلمين. وباسم الإسلام، قامت الدولة العثمانية بتوحيد أقطار العالم الإسلامي في إطار سياسي واحد، وتأليف جبهة إسلامية واحدة ضمت الترك والعرب، وأصبحت رابطة الدين هي الرابطة الأساسية لمدة 800 سنة.
العثمانلي يعود
هل يحلم أردوغان باستعادة الإمبراطورية العثمانية؟
سؤال أصبح يتردد كثيرا، فبعد مئة عام تظهر للعلن بيضة من رماد الدولة العثمانية تؤذن بولادة إمبراطورية جديدة، تجمع ما بين أصولها العثمانية المسلمة والحداثة بذكاء شديد.
أما عن السؤال، فيجيب عنه أردوغان قولا وعملا.
فيقول أردوغان: نحن على خطى أجدادنا الفاتحين أمثال السلطان ألب أرسلان والسلطان محمد الفاتح، وقادتنا عدنان مندريس ونجم الدين أربكان.
وعملا؛ فنجده يسير بخطى ثابتة لينهض باقتصاد بلاده كخطوة أولى نحو تحقيق الحلم، فتضاعف الاحتياطي النقدي من بداية حكمه أربعة أضعاف، فتحولت تركيا من بلد فاشل اقتصاديا عند بداية الألفية الثانية، إلى بلد يعد من أقوى الاقتصادات العشرين في العالم.
وأصبحت السياسة الخارجية التركية أشد قوة وظهورا بكل البقاع الساخنة في العالم، فوقفت بوجه التوسع الفارسي في العراق، وحجمت الدب الروسي في سوريا، وأقامت منطقة عازلة على حدودها لحماية السوريين النازحين، واستقبلت ملايين اللاجئين. وفي ليبيا أوقفت انقلاب حفتر ومن خلفه من عملاء ومرتزقة الفاجنر بأسلحتهم الروسية، وسحقت منظومة صواريخ البانسير بطائراتها المسيرة البرقيدار.
وهذا غير الوجود الاقتصادي القوي في السودان والصومال وموريتانيا ومعظم دول أفريقيا.
وقفت تركيا بوجه اعتداء الدب الروسي العائد بقوة كإمبراطورية على أذربيجان عن طريق الوسيط الأرمني وإعادة إقليم قرة باغ مره أخرى إلى أحضان أذربيجان. وهذا بخلاف سعي تركيا لإقامة جبهة موحدة للهلال السني.
وأخيرا كانت محاولة أردوغان للم شمل العالم التركي بتحويل المجلس التركي لمنظمة الدول التركية، وإعلانه أن الهدف خلق عالم تركي موحد، وشدد على أن منطقة تركستان مهد الحضارة ستعود مجددا كمركز لتنوير البشرية.
كل ذلك أرعب الغرب وعملاءه في المنطقة خشية استيقاظ المارد الإسلامي، فدبروا انقلاب 2016 الذي كان فشله إيذانا بمخاض حلم أردوغان. فلأول مرة منذ تأسيس الجمهورية التركية في عام 1923، نجح الشعب في الوقوف بوجه دبابات العسكر ومنعها من اغتصاب حريته.
لقد نجح أردوغان ليس بتغيير وجه تركيا الاقتصادي، بل وتغيير شخصية الأتراك ليعودوا لأصولهم المقاتلة، ليتحول أردوغان من رئيس كاد يفقد السيطرة على بلاده إلى زعيم تتغنى الجماهير باسمه.
مشهد آخر يظهر وجه الإمبراطورية الجديدة، فكما كان تحويل مسجد آيا صوفيا لمتحف هو علامة سقوط الخلافة ودخول تركيا حظيرة العلمانية، كانت عودته لسيرته الأولى كمسجد إعلانا مبطنا لبداية تحقيق الحلم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق