الرئيس الفاترينة والرئيس الكوميدينو
وائل قنديل
بعد طول اختفاء، أو بالأحرى إخفاء قسري في عتمة الإقامة الجبرية، ظهر رئيس الحكومة الانتقالية في السودان، عبد الله حمدوك، صحبة قائد الانقلاب، عبد الفتاح البرهان، في مؤتمر صحافي لامتصاص غضب الشارع، تحدّث فيه بما أملاه عليه الجنرالات، عن انفراج الأزمة ودخول مسار سياسي جديد.
بعد ذلك، عاد حمدوك إلى غياهب السكوت والصمت، لا يتكلم، بل يتكلمون عنه، ولا يسمع منه أحد، بل نسمع عنه من أفواه الجنرالات وعواجل الفضائيات.
حمدوك يفكر في الاستقالة .. حمدوك يلوّح بها .. حمدوك يتراجع عنها .. حمدوك يجدّد تفكيره وتلويحه بالاستقالة، وهكذا صار حمدوك منصوبًا طوال الوقت، تارًة مفعولًا به، وأخرى مفعولًا لأجله، لا يغادر هذا الموقع من الجملة السياسية السودانية أبدًا.
آخر ما نشر عن حمدوك أول من أمس السبت يقول إن مكتبه نفى أنباء راجت في وسائط التواصل الاجتماعي عن إعادة رئيس الوزراء عبد الله حمدوك إلى الإقامة الجبرية.
وذكر توضيح من المكتب، نشره على صفحته الرسمية في "فيسبوك"، أن بعض منصات التواصل الاجتماعي وبعض المحطات الإعلامية تداولت خبراً يفيد بوضع عبد الله حمدوك رئيس الوزراء في الإقامة الجبرية للمرة الثانية "ونحن ننفي هذا الخبر، ونؤكد تمتعه بكامل حريته في التحرّك والاجتماع والتواصل".
كل الأخبار عن عبد الله حمدوك، الذي يوصف بأنه رئيس الحكومة السودانية، مصدرها إما المجلس العسكري الانتقالي، أو دوائر غربية، أو مصادر في مكتبه، ولا يتجاوز مضمون هذه الأخبار تلويحًا ثم نفيًا للتلويح بالاستقالة، أو وضعه ثم نفي وضعه تحت الإقامة الجبرية، ليتحوّل الرجل الذي كان محسوبًا على معسكر الثورة إلى قطعة ديكور، أو موبيليا صمّاء في بيت حكم العسكريين، لا يظهرونه على الناس إلا في الأوقات التي يستشعرون فيها خطر انهيار البناء الهشّ، المقام بالمخالفة فوق تربة مسروقة أو مغتصبة.
حكاية حمدوك مع الحكم العسكري ليست استثنائية أو فريدة من نوعها، بل تجدها في معظم الترتيبات الخاصة بتأسيس نظم الحكم العسكرية، في أعقاب أنصاف الثورات التي تتحوّل بسرعة إلى انقلابات كاملة، كما في الحالة المصرية بعد ثورة 2011 مع عصام شرف، ثم في طور الانقلاب العسكري الصريح، ذي القشرة المدنية في البداية، والتي كان يجسدها محمد البرادعي، الذي قبل على نفسه أن يكون نائبًا للدمية التي وضعها الجنرالات في فاترينة الحكم، والذي جاءوا به من دهاليز القضاء إلى قمة السلطة مباشرًة، حتى تستتب لهم الأمور، ثم يودَع في متحف الأحياء السياسية.
في 2011 التقط جنرالات الحكم العسكري عصام شرف من أرشيف الوزراء السابقين في حكومات قائدهم الأعلى ورئيسهم المخلوع حسني مبارك، واستثمروا كونه يجيد التموضع في مساحاتٍ بين المعارضة والموالاة، وروّجوه باعتباره رئيسًا للوزراء قادمًا من قلب الثورة، فصفقنا جميعًا للاختيار وابتلعنا الخديعة، وسوّقناها للجماهير بمنتهى الحماس، لكن ما جرى فيما بعد أن رئيس الوزراء المدني المحسوب على الثورة وميادينها جاء ليصنع حالةً من الارتباك والتعثر، اقتنصها الجنرالات لتبدأ من عند محمد حسنين هيكل موجة من الكتابات عن"الأيدي المرتعشة" وخطورتها على المستقبل، ليكون الحل الذي تولى الدعاية له الأستاذ هو الصيغة التالية "القرار هناك فى مجلس أعلى للقوات المسلحة موثوق فيه، لكنه يدير دون أن يظهر وتنفيذ القرار هناك فى مجلس وزراء، وفيه عدد من الرجال المحترمين، لكن هذا المجلس يظهر دون أن يدير". ومع سريان هذه الوصفة "الهيكلية"، اكتشفنا، أخيرًا، أننا سلمنا الثورة على طبقٍ من فضة إلى ألد خصومها.
ولم يضيع الجنرالات الكثير من الوقت حتى انقضّوا على التركة الثورة، وانتزعوها واستولوا عليها بشكل كامل، بعد أقل من عامين، حين اقتلعوا المسار السياسي من جذوره، وأضرموا النار في البيئة التي أنتجت انتخاباتٍ رئاسيةً أوصلت رئيسًا مدنيًا إلى الحكم، وهي المرحلة التي يسعى عسكر السودان للوصول إليها الآن، في ظل مقاومةٍ باسلةٍ من جماهير الثورة السودانية.
في هذه اللحظة التاريخية الفاصلة بين استعادة ثورةٍ أو إتمام فصول انقلاب عسكري صريح كان من المفترض أن يكون رئيس الوزراء المدني، القادم من كتلة الثورة كما يدّعي، والذي اختطفه الجنرالات وحدّدوا إقامته وأهانوه، كان من المفترض أن يكون منخرطًا في صفوف الشعب دفاعًا عن الثورة، مستفيدًا من الدرس المصري المؤلم الذي أطاح رجلا مثل محمد البرادعي، كان يصنّف ضمن رموز التغيير وأيقونات الثورة، وألقى به على رصيف "تويتر" مغرّدًا عن كل ما يجري في الكوكب، مبتعدًا عن الدخول في معترك المأساة المصرية التي كان أحد المساهمين فيها.
تلك الحالة الحمدوكية الراهنة تجدّد السؤال الحزين: كيف يرتضي سياسيٌّ لنفسه أن يكون قطعة موبيليا صمّاء في مبنىً يوشك على الانهيار؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق